Search
Close this search box.
logo_black

نظرية المعرفة في فلسفتنا

السيد محمد باقر الصدر

والآن نستطيع ان نستخلص من دراسة المذاهب السابقة ونقدها الخطوط العريضة لمذهبنا في الموضوع وتتلخص فيما يأتي:
الخط الأول: ان الإدارك البشري على قسمين: أحدهما التصور، والآخر التصديق. وليس للتصور بمختلف ألوانه قيمة موضوعية، لأنه عبارة عن وجود الشيء في مداركنا، وهو لا يبرهن – إذا جرد عن كل إضافة – على وجود الشيء موضوعيا خارج الادراك، وانما الذي يملك خاصة الكشف الذاتي عن الواقع الموضوعي هو التصديق أو المعرفة التصديقية. فالتصديق هو الذي يكشف عن وجود واقع موضوعي للتصور.
الخط الثاني: ان مرد المعارف التصديقية جميعا إلى معارف أساسية ضرورية، لا يمكن اثبات ضرورتها بدليل أو البرهنة على صحتها، وانما يشعر العقل بضرورة التسليم والاعتقاد بصحتها، كمبدأ عدم التناقض ومبدأ العلية والمبادئ الرياضية الأولية، فهي الأضواء العقلية الأولى، وعلى هدي تلك الأضواء يجب ان تقام سائر المعارف والتصديقات، وكلما كان الفكر أدق في تطبيق تلك الأضواء وتسليطها كان أبعد عن الخطأ. فقيمة المعرفة تتبع مقدار ارتكازها على تلك الأسس ومدى استنباطها منها، ولذلك كان من الممكن استحصال معارف صحيحة في كل من الميتافيزيقا والرياضيات والطبيعيات على ضوء تلك الأسس، وان اختلفت الطبيعيات في شيء، وهو ان الحصول على معارف طبيعية بتطبيق الأسس الأولية يتوقف على التجربة التي تهئ للانسان شروط التطبيق، وأما الميتافيزيقا والرياضيات فالتطبيق فيها قد لا يحتاج إلى تجربة خارجية. وهذا هو السبب في ان نتائج الميتافيزيقا والرياضيات نتائج قطعية في الغالب، دون النتائج العلمية في الطبيعيات. فان تطبيق الأسس الأولية في للطبيعيات لما كان محتاجا إلى تجربة تهيئ شروط التطبيق، وكانت التجربة في الغالب ناقصة وقاصرة عن كشف جميع الشروط، فلا تكون النتيجة القائمة على أساسها قطعية.
ولنأخذ لذلك مثالا من الحرارة. فلو أردنا ان نستكشف السبب الطبيعي للحرارة، وقمنا بدراسة عدة تجارب علمية، ووضعنا في نهاية المطاف النظرية القائلة ان (الحركة سبب الحرارة)، فهذه النظرية الطبيعية في الحقيقة نتيجة تطبيق لعدة مبادئ ومعارف ضرورية على التجارب التي جمعناها ودرسناها، ولذا فهي صحيحة ومضمونة الصحة بمقدار ما ترتكز على تلك المبادئ الضرورية. فالعالم الطبيعي يجمع أول الامر كل مظاهر الحرارة التي هي موضوع البحث، كدم بعض الحيوانات والحديد المحمى والأجسام المحترقة وغير ذلك من آلاف الأشياء الحارة، ويبدأ بتطبيق مبدأ عقلي ضروري عليها وهو مبدأ العلية القائل (ان لكل حادثة سببا)، فيعرف بذلك ان لهذه المظاهر من الحرارة سببا معينا، ولكن هذا السبب حتى الآن مجهول ومردد بين طائفة من الأشياء، فكيف يتاح تعيينه من بينها؟ ويستعين العالم الطبيعي في هذه المرحلة بمبدأ من المبادئ الضرورية العقلية. وهو المبدأ القائل (باستحالة انفصال الشيء عن سببه)، ويدرس على ضوء هذا المبدأ تلك الطائفة من الأشياء التي توجد بينها السبب الحقيقي للحرارة، فيستبعد عدة من الأشياء ويسقطها من الحساب، كدم الحيوان – مثلا – فهو لا يمكن أن يكون سببا للحرارة لان هناك من الحيوانات ما دماؤها باردة، فلو كان هو السبب للحرارة لما أمكن أن تنفصل عنه ويكون باردا في بعض الحيوانات. ومن الواضح أن استبعاد دم الحيوان عن السببية لم يكن الا تطبيقا للمبدأ الآنف الذكر الحاكم بأن الشيء لا ينفصل عن سببه، وهكذا يدرس كل شيء مما كان يظنه من أسباب الحرارة فيبرهن على عدم كونه سببا بحكم مبدأ عقلي ضروري. فان أمكنه ان يستوعب بتجاربه العلمية جميع ما يحتمل ان يكون سببا للحرارة، ويدلل على عدم كونه سببا – كما فعل في دم الحيوان، فسوف يصل في نهاية التحليل العلمي إلى السبب الحقيقي – حتما – بعد اسقاط الأشياء الأخرى من الحساب، وتصبح النتيجة العلمية حينئذ حقيقة قاطعة، لارتكازها بصورة كاملة على المبادئ العقلية الضرورية، وأما إذا بقي في نهاية الحساب شيئان أو أكثر ولم يستطع ان يعين السبب على ضوء المبادئ الضرورية، فسوف تكون النظرية العلمية في هذا المجال ظنية، وعلى هذا نعرف:
أولا: ان المبادئ العقلية الضرورية هي الأساس العام لجميع الحقائق العلمية، كما سبق في الجزء الأول من المسألة.
ثانيا: ان قيمة النظريات والنتائج العلمية في المجالات التجريبية.
موقوفة على مدى دقتها في تطبيق تلك المبادئ الضرورية على مجموعة التجارب التي أمكن الحصول عليها. ولذا فلا يمكن اعطاء نظرية علمية بشكل قاطع الا إذا استوعبت التجربة كل امكانيات المسألة، وبلغت إلى درجة من السعة والدقة بحيث أمكن تطبيق المبادئ الضرورية عليها.
وإقامة استنتاج علمي موحد على أساس ذلك التطبيق.
ثالثا: في المجالات غير التجريبية – كما في مسائل الميتافيزيقا – ترتكز النظرية الفلسفية على تطبيق المبادئ الضرورية على تلك المجالات، ولكن هذا التطبيق قد يتم فيها بصورة مستقلة عن التجربة. ففي مسألة اثبات العلة الأولى للعالم – مثلا – يجب على العقل ان يقوم بمحاولة تطبيق مبادئه الضرورية على هذه المسألة، حتى يضع بموجبها نظريته الايجابية أو السلبية، وما دامت المسألة ليست تجريبية فالتطبيق يحصل بعملية تفكير واستنباط عقلي بحت بصورة مستقلة عن التجربة.
وبهذا تختلف مسائل الميتافيزيقا عن العلم الطبيعي في كثير من مجالاتها. ونقول (في كثير من مجالاتها) لأن استنتاج النظرية الفلسفية أو الميتافيزيقية من المبادئ الضرورية في بعض الأحايين يتوقف على التجربة أيضا، فيكون للنظرية الفلسفية حينئذ نفس ما للنظريات العلمية من قيمة ودرجة.
الخط الثالث: عرفنا ان المعرفة التصديقية هي التي تكشف لنا عن موضوعية التصور، ووجود واقع موضوعي للصورة التي توجد في ذهننا. وعرفنا أيضا أن هذه المعرفة التصديقية مضمونة بمقدار ارتكازها على المبادئ الضرورية. والمسألة الجديدة هي مدى التطابق بين الصورة الذهنية – فيما إذا كانت دقيقة وصحيحة – والواقع الموضوعي الذي صدقنا بوجوده من ورائها.
والجواب على هذه المسألة: هو أن الصورة الذهنية التي نكونها عن واقع موضوعي معين فيها ناحيتان: فهي من ناحية صورة الشيء ووجوده الخاص في ذهننا. ولا بد لأجل ذلك ان يكون فيها الشيء متمثلا فيها، والا لم تكن صورة له. ولكنها من ناحية أخرى تختلف عن الواقع الموضوعي اختلافا أساسيا. لأنها لا تملك الخصائص التي يتمتع بها الواقع الموضوعي لذلك الشيء، ولا تتوفر فيها ما يوجد في ذلك الواقع من ألوان الفعالية والنشاط. فالصورة الذهنية التي نكونها عن المادة أو الشمس أو الحرارة مهما كانت دقيقة ومفصلة لا يمكن ان تقوم بنفس الأدوار الفعالة التي يقوم بها الواقع الموضوعي لتلك الصور الذهنية في الخارج.
وبذلك نستطيع ان نحدد الناحية الموضوعية للفكرة، والناحية الذاتية. أي الناحية المأخوذة عن الواقع الموضوعي، والناحية التي ترجع إلى التبلور الذهني الخاص. فالفكرة موضوعية باعتبار تمثل الشيء فيها لدى الذهن، ولكن الشيء الذي يمثل لدى الذهن في تلك الصورة يفقد كل فعالية ونشاط مما كان يتمتع به في المجال الخارجي، بسبب التصرف الذاتي، وهذا الفارق بين الفكرة والواقع هو في اللغة الفلسفية الفارق بين الماهية والوجود، كما سندرس ذلك في المسألة الثانية من هذا الكتاب (1).

____________________________________________

(1) وهذه الناحية الذاتية التي تنطوي عليها الصور الذهنية في رأينا، تختلف عن الناحية الذاتية التي يقول بها (كانت). والتي ينادي بها النسبيون الذاتيون. فليست الذاتية في رأينا باعتبار الجانب الصوري من العلم كما يزعم (كانت) ولا باعتبار كون الإدارك حصيلة تفاعل مادي، والتفاعل يستدعي التصرف من الجانبين، بل هي على أساس التفرقة بين لوني الوجود: الذهني والخارجي. فالشئ الموجود في الصورة الذهنية هو الشيء الموجود في الخارج خلافا للنسبيين، ولكن لون وجوده في الصورة يختلف عن لون وجوده الخارجي.

 

 

كتاب فلسفتنا للسيد محمد باقر الصدر

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *