
معنى العدالة عند الشيخ يوسف البحراني (قدس سره)
الشيخ سليمان المدني
إن بعض الإخوان وجهوا هذا السؤال قبل فترة وفي كل يوم يلحون على تحصيل هذا الجواب.
العدالة في اللغة بمعنى الاعتدال؛ فالعدل هو المعتدل، وكذلك هي في علم الأخلاق بمعنى الاعتدال, وهو تجنب طرفي التفريط والإفراط, تجنب طرفي الغلو والقلو, هو السير على الخط الأوسط من الدين, فلا يغلو في دينه, ولا يقصّر أيضاً في دينه, ولا يفرط بما لم يأذن به الله سبحانه وتعالى, ويخترع الصلوات التي لم تأتِ عن الله وعن رسوله, ولا يترك – أيضاً- الصلوات التي أمر بها الله ورسوله, وهكذا في جميع الأشياء إذا سار على الخط الوسط.
والنمط الأوسط يكون قد سار على خط الاعتدال؛ ولذلك تجد أن الناس بمختلف أديانهم وبمختلف بلدانهم إذا أرادوا أن يمدحوا شخصاً قالوا إنه شخصٌ معتدل؛ سواء كانوا مسلمين أو كفاراً, في مجال السياسة أو في الاجتماع, في باب الاقتصاد باب الصرف والتقتير, دائماً إذا أرادوا أن يمدحوا شخصاً ما قالوا إن هذا الشخص إنسانٌ معتدل.
وكذلك الشرع المقدس؛ المدح في الإسلام دائماً لمن يسير على الطريقة الوسطى, ومن يسير على النهج الأوسط, ومن يكون معتدلاً في عقائده, ومن يكون معتدلاً في سلوكه, سواء كان سلوكه الاجتماعي أو الاقتصادي أو النفسي أو العائلي أو الخارجي, إذا التزم أحكام الشرع على نحو معتدل لا على نحو إفراط من جهة أو تفريط من جهة أخرى يقال له معتدل, ويقال له عدل ويكون ممدوحاً, ويقول عليه الصلاة والسلام: “إن اليمين والشمال مضلة والوسطى هي الجادة”.
فمعنى العدالة إذاً في اللغة هو الاعتدال, أي التوسط بين طرفي الإفراط في الشيء والتفريط فيه. وحتى في الدين لا تظنوا أن الالتزام بالدين كلما تشدد يكون أحسن, النبي صلى الله عليه وآله يقول: “إن هذا الدين صعب مستصعب ما غالبه رجلٌ إلا غلبه فأوغل فيه برفق فان المجد لا ظهراً أبقى ولا غايةً وصل”.
إذاً حتى في العمل الديني ليس التشدد هو الأمر الممدوح وإنما التوسط والاعتدال في الأمور كلها دائماً هو الأمر الممدوح، فكما هو أيضاً ما عليه سائر العقلاء وإن كانوا غير مسلمين من مدح المعتدل كذلك الإسلام يمدح الشخص المعتدل في سلوكه الديني؛ فالعدالة مأخوذة من هذا الباب, وربما تعرف عند الفلاسفة بأنها ملكة نفسانية تردع عن ارتكاب المعاصي وترك الواجبات، ولو جئنا نصيغ هذا التعريف الكلامي ونريد أن نحوله إلى تعريف بمقتضى معطيات علم النفس الحديث نقول: إنها قدرةٌ عقليةٌ تردع صاحبها عن ترك الواجبات وارتكاب المحرمات, وصاحب الحدائق رحمه الله يقول: إنها حسن الظاهر, العدالة في الشريعة هي حسن الظاهر, ولكن ليس حسن الظاهر مطلقاً, فقد ترى إنساناً في الطريق حسن الهندام صبيح الوجه تقول هذا عدل لأن هذا ظاهره حسن؛ أو حتى حسن الظاهر من حيث العمل الشرعي وأنت لم تخالطه، ولم تعامله، ولم تمازجه؛ بحيث ترى مثلاً إذا ذهبت إلى بلده تراه رجلاً لا يتكلم إلا بالدين، ولا يتكلم إلا بالأمر بالمعروف، ولا يتكلم إلا بالنهي عن المنكر وتقول هذا عدل, لا. يقول صاحب الحدائق هو حُسن الظاهر الذي يحصل لك عن المخالطة والممازجة والمعاملة, أو يحصل لك عن إخبار الأشخاص الذين خالطوا هذا الشخص وعاملوه, أما الأشخاص الذين لم يعاملوه ولم يخالطوه ولم يمازجوه فإخبارهم لا قيمة له.
فالتعريف الذي يذهب إليه صاحب الحدائق رضوان الله عليه في هذا الباب مأخوذ من رواية أبي خديج رضوان الله عليه الذي قال فيها عن الإمام الصادق عليه السلام: “هو من إذا سئل عنه أهلُ محلته قالوا لا نعلم من ظاهره إلا خيرا, مؤدٍ للواجبات تارك للمحرمات, مواظبٌ على الجماعات, حاضرٌ في مساجد المسلمين”، والرواية الأخرى أن الإنسان إذا كف يده ولسانه وبطنه وفرجه وحضر مساجد المسلمين وواظب على جماعتهم وجب عليهم تعديله وقبول شهادته, فمن هذه الروايات يقول صاحب الحدائق رضوان الله عليه: إن العدالة معناها في الشرع حسن ظاهر الإنسان من حيث الاعتدال الشرعـي, من حيث الاعتدال في السير والسلوك الشرعي, فصاحب الحدائق عبّر بألفاظ أو مصطلحات واردة في باب علم الأخلاق, وبعض الإخوان أو بعض طلبة العلم يضخم هذه الأمور ويفهم الناس أن العدل فوق الكرة الأرضية كالعنقاء تسمع بها ولا تراها, أو كالكبريت الأحمر الذي لا يوجد إلا نادراً, فما هذه الألفاظ التي نسمعها … دعنا نحللها.
يقول صاحب الحدائق _ رضوان الله عليه_ في الرسالة الصلاتية: أن يكون قائماً بالوظائف العلمية والعملية والقلبية والقالبية. هذا التعبير الموجود في الرسالة العملية, وهذا التعبير الموجود في الرسالة العملية يجعله بعض طلبة العلم أكثر مما يذهب إليه الفقهاء, وليس الأمر كذلك فالمقصود من قوله أن يكون قائماً بالوظائف العلمية والعملية هو أن الوظائف العلمية هي العقائد، والوظائف العملية هي واجبات الشرع أركانه وفروعه؛ يعني أن يكون معتقداً بعقائد الحق, فأما لو زاغ عن عقائد الحق تسقط عدالته؛ ولو كان مثلاً والعياذ بالله لا يؤمن بيوم الحساب خرج عن الإسلام, فهذا لا يسمى عدلاً, ولو كان يؤمن بالله ويؤمن بالملائكة ولكن لا يؤمن بالنبوة خرج عن الإسلام ولم يكن في طريق الاعتدال؛ هذا فرّط ولم يقم بالوظيفة العلمية، فعندئذٍ يكون قد خرج عن الإسلام فلا يكون عدلاً. وتارة أخرى لا يكفر بشيء من العقائد الخمس ولكنه ينكر عصمة الأنبياء, يؤمن بالنبوة ويؤمـن بأن الله بعث مئة ألف وأربعة وعشرين ألف نبي وأن هناك مئة ألف وأربعة وعشرين ألف وصي, ولكن يقول إن الأنبياء والأوصياء صلوات الله وسلامه عليهم ليسوا معصومين, فهذا فرّط, وعادةً الذي يفرط في جانب العصمة وينكر عصمة من عصمه الله فإنه يقول بعصمة من لم يعصمه الله.
لاحظوا عندنا في الإسلام مثلاً الذين أنكروا عصمة الأنبياء وأنكروا عصمة الأوصياء وقعوا في القول بعصمة الصحابة كلهم, والدليل على أنهم يقولون بعصمة الصحابة أنك لو قلت إن فلاناً الصحابي مخطئ استحلوا دمك, وإذا لم ترض أن تقول بأنه مخطئ فماذا تعني؟ تعني أنه معصوم, ينكر عصمة محمد صلى الله عليه وآله ويقول بعصمة أصحاب محمد صلى الله عليه وآله ؛ مثال ذلك عدو الدين الألكن المعروف بمحب الدين الخطيب؛ ونحن نسميه عدو الدين الألكن لأنه عدو للدين باعتباره لا يقول بعصمة الأنبياء والأئمة صلوات الله وسلامه عليهم, وألكن لأنه لا يعرف حتى أن يعبر عن العقائد الصحيحة؛ يقول في كتابه إنني أعتقد في الأمة عقيدة الشيعة في الأئمة؛ يعتقد في أمة محمد كلها أنها معصومة ولكن لا يصدق أن علي بن أبي طالب عليه السلام معصوم, ولا يصدق أن محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله معصوم, وأمة محمد مليارات وملايين تقول بعصمتها ولا تقول بعصمة الرسول صلى الله عليه وآله, أو تقول بعصمة الإمام علي بن أبي طالب, الغريب أنك لو قلت له إن عمر مخطئ استحل دمك لكن يقول علي عليه السلام غير معصوم, يعني علي يخطئ لكن عمر لا يخطئ, فحتى في الصحابة يفرق وهو لا يشعر.
فالتفريط من جهة إذن يصاحبه الإفراط من جهة أخرى, إذا أنكر عصمة من عصمه الله وقع في القول بعصمة من لم يعصمه الله, وأحياناً بالعكس ليس من جهة التفريط بل من جهة الإفراط, مؤمن ويؤمن بالأصول الخمسة ولكنه يرفع الأئمة صلوات الله وسلامه عليهم إلى درجة الألوهية أو يرفع الأنبياء إلى درجة الألوهية, فهذا جانب الإفراط, كما أن هناك جانب تفريط فهنا جانب إفراط, وهناك تقصير وهنا غلو, هناك نسميه قاليا يعني مبغضا أنكر على صاحب الحق حقه، بغضاً له وتوهيناً له، وإنزالاً لدرجته، وهنا غلا, فكما يغلو النصارى في المسيح عليه السلام ويقولون هو ابن الله وكما يغلو بعض المسلمين في بعض أهل البيت مثلاً أو في الصحابة فهذا غلو.
وكما أن التقصير مخلٌ بالاعتدال من جانب ويجعل الإنسان غير قائم بالوظائف العلمية كذلك الإفراط يجعل الإنسان لا يسير على طريق الاعتدال, فلا يقوم بوظيفته العلمية, فمن كانت عقائده ليست صحيحة فمعناه أنه لم يقم بالوظائف العلمية, وحينما يقول صاحب الحدائق _ رضوان الله عليه _: أن يكون قائماً بالوظائف العلمية يعني تكون عقائده صحيحة, وكل الفقهاء يشترطون في العدل أن تكون عقائده صحيحة, ولو كانت عقائده غير صحيحة لا يرونه عدلاً؛ غاية ما في الأمر أن صاحب الحدائق _ رضوان الله عليه _ بدل أن يقول: [وأن يكون صحيح العقائد] قال: أن يكون قائماً بالوظائف العلمية.
وأما الوظائف العملية فهي معروفة, وهي ما يعمل بالأركان من أمور الدين من صلاةٍ وصومٍ وزكاةٍ وحجٍ وامتناع عن شرب خمرٍ وامتناعٍ عن لواط وامتناع عن غيبة وامتناع عن نميمة إلى آخر الواجبات والمحرمات؛ فإذاً قول صاحب الحدائق – رضوان الله عليه – [أن يكون قائماً بالوظائف العلمية والعملية] مساوقٌ لقول بقية الفقهاء [أن يكون مؤمناً وأن لا يترك واجباً أو يرتكب محرماً], مساوق تماماً ولا يختلف معهم من هذه الجهة بحيث تكون العدالة عنده عنقاء مغرب, وأنه على قول صاحب الحدائق يكون العدل أندر من الكبريت الأحمر, لا ليس كذلك, و[القلبية والقالبية] هذه لها معنى لطيف جميـل إذا لم نحملها على أنه تأكيد لجملة [الوظائف العلمية والعملية] ونقول إنه تعبيرٌ آخر لهذا المعنى, وتارة أخرى نقول إن صاحب الحدائق لا يحتاج بعد أن قال: [أن يكون قائماً بالوظائف العلمية والعملية] لا يحتاج أن يعيد ذلك بحيث يقول: [قائماً بالوظائف القلبية والقالبية], ولكن له معنى آخر, فالوظائف القلبية ومعناها أن يكون قد طهر نفسه من الأخلاق الدنيئة والملكات المرذولة, طهر نفسه من الحسد لأن الحسد ملكة قلبية رذيلة, وطهر نفسه من الغش وطهر نفسه من الحقـد, فليس بمجرد أن أختلف مع الإنسان أحقد عليه إلى يوم القيامة؛ فالحقود مختلة عدالته طبعا, إذا اختلفت معي أواختلفت مع عمرو أوفلان أخطأ ولم يقف الأمر عند الاختلاف معي, وإنما خالف ربه وارتكب محرماً من المحرمات فواجبي أن أنصحه. وأن أقول له: يا فلان أنت أخطأت في حق ربك. أو أخطأت في حق نفسك. أو أخطأت في حق دينك. فاتق الله واترك هذا العمل. أما أن أحقد عليه فهذا لا يجوز.
فإذاً الذي يحقد على الإنسان المؤمن الذي لم يكفر بأحد الأصول الخمسة طبعاً ليس ماشياً على طريق الاعتدال. فالدين لا يأمر المؤمنين بالتباغض والتحاقد, بل التعاون, “انصر أخاك ظالما,ً أو مظلوماً قالوا يا رسول الله ننصره مظلوماً نعرف معناها لكن ننصره ظالماً كيف؟ قال اردعه عن ظلم نفسه أوعظه ألا يظلم نفسه”. فإذاً هو أخوك أخطأ أو لم يخطئ, لا يخرج عن أخوتك إلا إذا أنكر إحدى الضرورات من الدين, وما لم ينكر إحدى الضرورات من الدين لا يخرج عن الأخوة الإيمانية, وما لم يدخل في الدين بدعة لا يتحملها الدين لا يخرج عن الاخوة الدينية.
فإذاً قول صاحب الحدائق – رضوان الله عليه – [قائماً بالوظائف القلبية والقالبية] يقصد فيه الوظائف القلبية تنقية النفس من الأخلاق والملكات الشيطانية المرذولة، ولا إشكال فإن الفقهاء لا يختلفون معه في ذلك؛ فلو علموا بأن زيداً يحسد الناس على ما آتاهم الله من فضله يرونه ساقط العدالة لا تجوز الصلاة خلفه, ولا يجوز قبول شهادته؛ وكذلك لـو أن الفقهاء عرفوا بأن شخصاً يبغض عَمْراً المؤمن ويحقد عليه لأنه اختلف معه أو لأنه ارتكب معصية من المعاصي يعتبرونه خارجاً على حد الاعتدال؛ لأن هذا من باب الغلو في الدين؛ والغلو لم يأمر به الله؛ حتى يصل إلى هذه الدرجة, وإنما عليه أن ينصحه, استجاب له أو لم يستجب, فأنت لست الحاكم الشرعي الذي تطبق الأمور بيدك وتحمل عصا الشرع في يدك, ليست هذه هي الطريقة, لا تبغضه, تقول لا أريد صداقته, لا تصادقه, لا تمش معه, لكن لا تبغضه لا تؤلب عليه, لكن لا تحاربه, حارب العمل فقط, قل للناس العمل الفلاني سيء من دون أن تشير إلى المرتكب؛ لأنك لو أشرت إلى المرتكب وقعت في واحد من ثلاثة: إما أن تصبح مغتابا,ً وإما أن تصبح مشهراً بالمؤمنين, وطبعاً لا تظنوا أن عقاب التشهير بالمؤمنين أقل من عقاب الغيبة، ]إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ[[1]. انظروا لها فحب التشهير بالمؤمن ليس عقابه عند الله أقل من عقاب الغيبة والعياذ بالله, وإذا كنت مخطئاً أو أن الرجل لم يرتكب العمل وأنت توهمت أنه ارتكب هذا العمل تكون باهتاً له, فإذاً لا ينبغي لك فعل ذلك.
فهذه الواجبات أو الوظائف القلبية والوظائف القالبية وكذلك الخيرات وجميع الأمور الطيبة من مستحبات ومن واجبات وغيرها التي تكون نتيجةً للقدرات النفسية هي الوظائف القالبية, وهي التي تنتج عن الوظائف القلبية. فملكة الكرم هذه ملكة قلبية أو وظيفة قلبية. لكن كيف تظهر؟ ومن أين يعرفها الناس؟ يعرفونها بالفعل, وبالقيام بوظيفتها القالبية حتى يكون هناك حسن ظاهر, وحسن الظاهر هذا يدل على أن الإنسان قائم بالوظائف القلبية, فهناك حسن ظاهر يدل على أن الإنسان قائم بالوظائف العلمية.
وخلاصة القول أن العدالة عند صاحب الحدائق – رضوان الله عليه – وأزيدها غموضاً بدل التوضيح وإجمالاً بدل التفصيل فأقول إن العدالة عند صاحب الحدائق “هي أن يكون قائماً بالدين من حيث الأركان واللسان والجنان على نحو معتدلٍ خالٍ من الإفراط والتفريط”.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
* المحاضرة التي ألقاها سماحة العلامة الشيخ سليمان المدني في يوم الخميس 2 ذو القعدة 1419هـ المصادف 18فبراير 1999م
[1] النور:19