Search
Close this search box.
logo_black

قفزات التطور

السيد محمد باقر الصدر

قال ستالين:
((ان الديالكتيك خلافا للميتافيزيقية لا يعتبر حركة التطور حركة نمو بسيطة، لا تؤدي التغيرات الكمية فيها، إلى تغيرات كيفية – بل يعتبرها تطورا ينتقل من تغيرات كمية ضئيلة، وخفية، إلى تغيرات ظاهرة وأساسية، أي إلى تغيرات كيفية. وهذه التغيرات الكيفية ليست تدريجية، بل هي سريعة فجائية، وتحدث بقفزات، من حالة إلى أخرى. وليست هذه التغيرات جائزة الوقوع، بل هي ضرورية، وهي نتيجة تراكم تغيرات كمية غير محسوسة، وتدريجية. ولذلك تعتبر الطريقة الديالكتيكية، أن من الواجب فهم حركة التطور، لا من حيث هي حركة دائرية، أو تكرار بسيط للطريق ذاته، بل من حيث هي حركة تقدمية صاعدة، وانتقال من الحالة الكيفية القديمة إلى حالة كيفية جديدة) (1)
يقرر الديالكتيك في هذا الخط، ان التطور الديالكتيكي للمادة لونان:
أحدهما تغير كمي تدريجي، يحصل ببطء، والآخر تغير نوعي فجائي، يحصل بصورة دفعية، نتيجة للتغيرات الكمية المتدرجة، بمعنى أن التغيرات الكمية – حين تبلغ نقطة الانتقال – تتحول من كمية إلى كيفية جديدة.

وليس هذا التطور الديالكتي حركة دائرية للمادة، ترجع فيها إلى نفس مبدئها، بل هي حركة تكاملية صاعدة أبدا ودائما.
وحين يعترض على الماركسية هنا، بأن الطبيعة قد تتحرك حركات دائرية. كما في الثمرة التي تتطور إلى شجرة، ثم تعود بالتالي إلى ثمرة كما كانت، تجيب بأن هذه الحركة هي أيضا تكاملية، وليست دائرية، كالحركات التي يرسمها الفرجال، غير ان مرد التكامل فيها إلى الناحية الكمية لا الكيفية، فالثمرة ان عادت في نهاية شوطها الصاعد ثمرة أيضا، غير انها تكاملت تكاملا كميا، لان الشجرة – التي انبثقت عن ثمرة واحدة – أفرعت عن مئات الثمرات، فلم يتحقق رجوع للحركة أبدا.

وقبل كل شيء يجب ان نلاحظ الهدف الكامن وراء هذا الخط الديالكتي الجديد. فقد عرفنا ان الماركسية تضع الخطة العملية، للتطوير السياسي المطلوب، ثم تفتش عن المبررات المنطقية والفلسفية لتلك الخطة، فما هو التصميم الذي أنشئ هذا القانون الديالكتي لحسابه؟ ومن الميسور جدا الجواب على هذا السؤال، فان الماركسية رأت ان الشيء الوحيد الذي يشق الطريق إلى سيطرتها السياسية، أو إلى السيطرة السياسية للمصالح التي تتبناها، هو الانقلاب. فذهبت تفحص عن مستمسك فلسفي لهذا الانقلاب فلم تجده في قانوني الحركة والتناقض، لان هذين القانونين انما يحتمان على المجتمع أن يتطور، تبعا للتناقضات المتوحدة فيه. وأما طريقة التطور ودفعيته، فلا يكفي مبدأ الحركة التناقضية لايضاحها. ولذلك صار من الضروري أن يوضع قانون آخر، ترتكز عليه فكرة الانقلاب. وكان هذا القانون هو قانون قفزات التطور، القائل بتحولات دفعية للكمية إلى كيفية. وعلى أساس هذا القانون لم يعد الانقلاب جائزا فحسب، بل يكون ضروريا وحتميا، بموجب القوانين الكونية العامة. فالتغيرات الكمية التدريجية في المجتمع تتحول، بصورة انقلابية في منعطفات تاريخية كبرى إلى تغير نوعي. فيتهدم الشكل الكيفي القديم للهيكل الاجتماعي العام، ويتحول إلى شكل جديد.

هكذا يصبح من الضروري – لا من المستحسن فقط – أن تنفجر تناقضات البناء الاجتماعي العام، عن مبدأ انقلابي جاف، تقصى فيه الطبقة المسيطرة سابقا، التي أصبحت ثانوية في عملية التناقض، ويحكم بإبادتها، ليفسح مجال السيطرة للنقيض الجديد، الذي رشحته التناقضات الداخلية، ليكون الطرف الرئيسي في عملية التناقض، قال ماركس وأنجلز:
((ولا يتدنى الشيوعيون إلى اخفاء آرائهم، ومقاصدهم، ومشاريعهم، يعلنون صراحة ان أهدافهم لا يمكن بلوغها وتحقيقها، الا بهدم كل النظام الاجتماعي التقليدي، بالعنف والقوة)) (2) وقال لينين:
((ان الثورة البروليتارية غير ممكنة بدون تحطيم جهاز الدولة البورجوازي بالعنف) (3)
وما على الماركسية بعد أن وضعت قانون القفزات التطورية، الا ان تفحص عن عدة أمثلة (فتسردها سردا عاجلا، على حد تعبير أنجلز) للتدليل بها على القانون المزعوم، بعمومه وشموله. وهذا ما قامت به الماركسية تماما، فقدمت لنا عددا من الأمثلة، وأقامت على أساسها قانونها العام.
ومن هاتيك الأمثلة التي ضربتها عليه، هو مثال الماء، حين يوضع على النار، فترتفع درجة حرارته بالتدريج، وتحدث بسبب هذا الارتفاع التدريجي، تغيرات كمية بطيئة، ولا يكون لهذه التغيرات في بادئ الامر، تأثير في حالة الماء، من حيث هو سائل، ولكن إذا زيدت حرارته إلى درجة (100) فسوف ينقلب في تلك اللحظة، عن حالة السيلان إلى الغازية، وتتحول الكمية إلى كيفية، وهكذا الامر إذا هبطت درجة حرارة الماء إلى الصفر، فان الماء سوف يتحول في آن واحد ويصبح جليدا . (4)

ويستعرض أنجلز أمثلة أخرى على قفزات الديالكتيك من الحوامض العضوية في الكيمياء، التي تختص كل واحدة منها بدرجة معينة، لانصهارها أو غليانها، وبمجرد بلوغ السائل تلك الدرجة، يقفز إلى حالة كيفية جديدة. فحامض النمليك – مثلا – درجة غليانه (100)، ودرجة انصهاره (15). وحامض الخليك نقطة غليانه (118)، ونقطة انصهاره (17) وهكذا… (5) فالمركبات (الهيدروكاربونية)، تجري طبقا لقانون القفزات، والتحولات الدفعية، في غليانها وانصهارها.

ونحن لا نشك في أن التطور الكيفي، في جملة من الظواهر الطبيعية، يتم بقفزات ودفعات آنية. كتطور الماء في المثال المدرسي السابق الذكر، وتطور الحوامض العضوية (الكربونية) في حالتي الغليان والانصهار وكما في جميع المركبات، التي تكون طبيعتها وخواصها متعلقة بالنسبة التي يتألف بحسبها كل منها. ولكن ليس معنى ذلك، أن من الضروري دائما، وفي جميع المجالات، ان يقفز التطور في مراحل معينة، ليكون تطورا كيفيا. ولا تكفي عدة أمثلة للتدليل العلمي أو الفلسفي، على حتمية هذه القفزات في تاريخ التطور، وخصوصا حين تنتقيها الماركسية انتقاء، وتهمل الأمثلة التي كانت تستعملها لايضاح قانون آخر من قوانين الديالكتيك، لا لشيء الا لأنها لا تنفق مع هذا القانون الجديد. فقد كانت الماركسية تمثل لتناقضات التطور، بالجرثومة الحية في داخل البيضة. التي تجنح إلى أن تكون فرخا (6) وبالبذرة التي تنطوي على نقيضها، فتتطور بسبب الصراع في محتواها الداخلي، فتكون شجرة، أفليس من حقنا أن نطالب الماركسية بإعادة النظر في هذه الأمثلة. لكي نعرف كيف تستطيع أن تشرح لنا قفزات التطور فيها؟ فهل صيرورة البذرة شجرة، أو الجرثومة فرخا (تطور تزالي آنتي تز)، أو صيرورة الفرخ دجاجة (تطور آنتي تز إلى سنتز)، تتأتى بقفزة من قفزات التطور الديالكتيكية، فتتحول الجرثومة في آن واحد إلى فرخ، والفرخ إلى دجاجة، والبذرة إلى شجرة. وان هذه الصيرورات تحصل بحركة تدريجية متصاعدة. وحتى في المواد الكيماوية القابلة للانصهار، نجد اللونين من التطور معا. فكما يحصل فيها التطور بقفزة، كذلك قد يحصل بصورة تدريجية. فنحن نعلم – مثلا – ان المواد المتبلورة تتحول من حال الصلابة، إلى حالة السيولة بصورة فجائية، كالجليد الذي تساوي حرارة انصهاره (80) سعرة، فتتحول عند ذاك دفعة واحدة إلى سائل. وعلى عكس ذلك المواد غير المتبلورة، كالزجاج وشمع العسل، فإنها لا تنصهر ولا تتحول كيفيا، بصورة دفعية، وانما يتم انصهارها، تدريجيا. فالشمع – مثلا – ترتفع حرارته أثناء عملية الانصهار، حتى حتى إذا بلغت درجة معينة خفت فيه صلابة الشمع، وبدأ يلين ويسترخي بصورة تدريجية، مستقلة عن سائر الأشياء الأخرى، ويتدرج في حالة الليونة فلا هو بالصلب ولا هو بالسائل، حتى يستحيل مادة سائلة.
ولنأخذ مثلا آخر من الظواهر الاجتماعية وهو اللغة بوصفها ظاهرة تتطور وتتحول ولا تخضع لقانون الديالكتيك فان تاريخ اللغة لا يحدثنا عن تحولات كيفية آنية في سيرها التاريخي وانما يعبر عن تحولات تدريجية في اللغة من الناحية الكمية والكيفية فلو كانت اللغة خاضعة لقانون القفزات وتحول التغيرات الكمية التدريجية إلى تغير دفعي حاسم لكنا نستطيع أن نضع أصابعنا على نقاط فاصلة في حياة اللغة، تتحول فيها من شكل إلى شكل نتيجة للتغيرات الكمية البطيئة، وهذا ما لا نجده في كل اللغات التي عاشها الانسان واستخدمها في حياته الاجتماعية.
فنستطيع أن نعرف اذن، على ضوء مجموعة ظواهر الطبيعة، ان القفزة والدفعية ليستا ضروريتين للتطور الكيفي، وان التطور كما يكون دفعيا، يكون تدريجيا أيضا.
ولنأخذ بعد ذلك المثال المدرسي السابق، مثال الماء، في انجماده وغليانه، فنلاحظ عليه:
أولا: ان الحركة التطورية التي يحتويها المثال، ليست حركة ديالكتيكية لان التجربة لا تبرهن على انبثاقها، عن تناقضات المحتوى الداخلي للماء، كما تفرضه تناقضات التطور في الديالكتيك. فنحن جميعا نعلم ان الماء لولا الحرارة الخارجية، لبقي ماء، ولما تطور إلى غاز، فلم يتم التطور الانقلابي للماء اذن بصورة ديالكتيكية، فإذا أردنا أن نعتبر القانون، الذي يتحكم في الانقلابات الاجتماعية هو نفس القانون الذي تم بموجبه الانقلاب الدفعي في الماء، أو في سائر المركبات الكيماوية – كما تحاول الماركسية – لأدى ذلك إلى نتيجة مغايرة لما رمت اليه، إذ تصبح القفزات التطورية في النظام الاجتماعي، انقلابات منبثقة عن عوامل خارجية، لا عن مجرد التناقضات المحتواة في نفس النظام، وتزول صفة الحتمية عن تلك القفزات، وتكون غير ضرورية إذا لم تكتمل العوامل الخارجية.
ومن الواضح اننا كما يمكننا ان نتحفظ على حالة السيلان للماء، ونبعده عن العوامل التي تجعله يقفز إلى حالة الغازية، كذلك يصبح بالامكان الحفاظ على النظام الاجتماعي، والابتعاد به عن الأسباب الخارجية، التي تكتب عليه الفناء. وهكذا يتضح ان تطبيق قانون ديالكتي واحد، على التطورات الدفعية للماء، في غليانه وتجمده، وعلى المجتمع في انقلاباته، يسجل نتائج معكوسة لما يترقب الديالكتيك.
ثانيا: ان الحركة التطورية في الماء ليست حركة صاعدة، بل هي حركة دائرية، يتطور فيها الماء إلى بخار، ويعود البخار كما كان. دون أن ينتج عن ذلك تكامل كمي أو كيفي، فإذا اعتبرت هذه الحركة ديالكتيكية، كان معناه انه ليس من الضروري، ان تكون الحركة صاعدة وتقدمية دائما، ولا من المحتوم ان يكون التطور الديالكتي، في ميادين الطبيعة، أو الاجتماع تكامليا وارتقائيا.
ثالثا: ان نفس القفزة التطورية للماء إلى غاز، التي حققها بلوغ الحرارة درجة معينة، لا يجب ان تستوعب الماء كله في وقت واحد. فان كل انسان يعلم ان البحار والمحيطات، تتبخر كميات مختلفة من مياهها تبخرا تدريجيا، ولا تقفز بمجموعها مرة واحدة إلى الحالة الغازية، وهذا ينتج ان التطور الكيفي – في المجالات التي يكون فيها دفعيا – لا يتحتم ان يتناول الكائن المتطور ككل، بل قد يبدأ بأجزائه فيقفز بها إلى حالة الغازية، وتتعاقب القفزات وتتكرر الدفعات، حتى يتحول المجموع. وقد لا يستطيع التحول الكيفي أن يشمل المجموع، فيبقى مقصورا على الاجزاء، التي توفرت فيها الشروط الخارجية للانقلاب. وإذا كان هذا هو كل ما يعنيه القانون الديالكتي بالنسبة إلى الطبيعة، فلماذا يجب أن تفرض القفزة في الميدان الاجتماعي على النظام ككل؟ ولماذا يلزم في الناموس الطبيعي للمجتمعات، أن يهدم الكيان الاجتماعي في كل مرحلة بانقلاب دفعي شامل؟. ولماذا لا يمكن أن تتخذ القفزة الديالكتيكية المزعومة في الحقل الاجتماعي، نفس أسلوبها في الحقل الطبيعي، فلا تمس الا الجوانب التي توفرت فيها شروط الانقلاب، ثم تندرج حتى يتحقق التحول العام في نهاية الامر؟
وأخيرا فان تحول الكمية إلى كيفية لا يمكن أن نطبقه بأمانة على مثال الماء، الذي يتحول إلى غاز أو جليد وفقا لصعود درجة الحرارة فيه وهبوطها كما صنعت الماركسية، لان الماركسية اعتبرت الحرارة كمية والغاز أو الجليد كيفية، فقررت ان الكمية في المثال تحولت إلى كيفية وهذا المفهوم الماركسي للحرارة أو للغاز والجليد لا يقوم على أساس، لان التعبير الكمي عن الحرارة الذي يستعمله العلم حين يقول ان درجة حرارة الماء مئة أو خمسة ليس هو جوهر الحرارة، وانما هو مظهر للأسلوب العلمي في رد الظواهر الطبيعية إلى كميات ليسهل ضبطها وتحديدها. فعلى أساس الطريقة العلمية في التعبير عن الأشياء، يمكن ان تعتبر الحرارة كمية، غير ان الطريقة العلمية لا تعتبر الحرارة ظاهرة كمية فحسب بل ان تحول الماء إلى بخار مثلا، يتخذ تعبيرا كميا أيضا، فهو ظاهرة كمية في اللغة العلمية كالحرارة تماما، لان العلم يحدد الانتقال من الحالة السائلة إلى الغازية بضغط يمكن قياسه كميا، أو بعلاقات وفواصل بين الذرات تقاس كميا كما تقاس الحرارة، ففي المنظار العلمي اذن لا توجد في المثال الا كميات تتحول بعضها إلى بعض، وأما في المنظار الحسي أي في مفهومنا الذي يوحي به إحساسنا بالحرارة حين نغمس يدنا في الماء. أو إحساسنا بالغاز حين نرى الماء يتحول بخارا، فالحرارة كالغاز حالة كيفية وهي الحالة التي تبعث في نفوسنا شيئا من الانزعاج حين تكون الحرارة شديدة فالكيفية تتحول إلى كيفية.
وهكذا نجد ان الماء في حرارته وتبخره لا يمكن ان يعطي مثالا لتحول الكمية إلى كيفية، الا إذا تناقضنا فنظرنا إلى الحرارة بالمنظار العلمي والى الحالة الغازية بمنظار حسي.
ويحسن بنا أخيرا ان نختم الحديث عن قفزات التطور. بما أتحفنا به ماركس _ مثالا له – في كتابه رأس المال. فقد ذكر أنه ليس كل مقدار من النقود قابلا للتحويل إلى رأسمال اعتباطا، بل لا بد لحدوث هذا التحويل، من أن يكون المالك الفردي للنقد، حائزا قبل ذلك على حد أدنى من النقود، يفسح له معيشة مضاعفة عن مستوى معيشة العامل الاعتيادي. ويتوقف ذلك على أن يكون في امكانه تسخير ثمانية عمال.
وأخذ في توضيح ذلك على أساس مفاهيمه الاقتصادية الرئيسية من القيمة الفائضة، والرأسمال المتحول، والرأسمال الثابت. فاستشهد بقضية العامل، الذي يشتغل ثماني ساعات لنفسه، أي في انتاج قيمة أجوره ويشتغل الساعات الأربع التالية للرأسمالي، في انتاج القيمة الزائدة، التي يربحها صاحب المال. ومن المحتم على الرأسمالي في هذه الحالة، أن يكون تحت تصرفه مقدار من القيم، يكفي لتمكينه من تزويد عاملين بالمواد الخام، وأدوات العمل، والأجور، بغية ان يمتلك يوميا قيمة زائدة، تكفي لتمكينه من ان يقتات بها، كما يقتات أحد عامليه. ولكن بما ان هدف الرأسمالي ليس هو مجرد الاقتيات، بل زيادة الثروة، فان منتجنا هذا سيظل – بعامليه هذين ليس برأسمالي. ولكيما يتسنى له أن يعيش عيشة، تكون في مستواها ضعف عيشة العامل الاعتيادي، مع تحويل نصف القيمة الزائدة المنتجة إلى رأسمال، يتحتم عليه ان يكون متمكنا من تشغيل ثمانية عمال.
وأخيرا علق ماركس على ذلك قائلا: وفي هذا كما في العلم الطبيعي تتأيد صحة القانون، الذي اكتشفه هيجل، قانون تحول التغيرات الكمية إذ تبلغ حدا معينا، إلى تغيرات نوعية. (7)
وهذا المثال الماركسي يدلنا بوضوح، على مدى التسامح الذي تبديه الماركسية، في (سرد الأمثلة سردا عاجلا)، على قوانينها المزعومة. ولئن كان التسامح في كل مجال خيرا وفضيلة، فهو في المجال العلمي وخاصة عندما يراد استكشاف اسرار الكون، لانشاء عالم جديد، على ضوء تلك الاسرار والقوانين – تقصير لا يغتفر.
ولا نريد الآن بطبيعة الحال، ان نتناول فعلا المسائل الاقتصادية، التي يرتكز عليها المثال، مما يتصل بالقيمة الزائدة، ومفهوم الربح الرأسمالي لدى ماركس وانما يهمنا التطبيق الفلسفي، لقانون القفزة، على رأس المال. فلنقطع النظر عن سائر النواحي، ونتيجة إلى درس هذه الناحية. فان ماركس يذهب إلى ان النقد يمر، بتغيرات كمية بسيطة، تحصل بالتدريج، حتى إذا بلغ ربحه حدا معينا، حصل الانقلاب النوعي، والتحول الكيفي، بصورة دفعية، وأصبح النقد رأسمالا. وهذا الحد هو ضعف معيشة العامل الاعتيادي، بعد تحويل النصف إلى رأسمال من جديد. وما لم يبلغ هذه الدرجة، لا يوجد فيه التغير الكيفي الأساسي، ولا يكون رأسمالا. فرأس المال اذن، لفظ يطلقه ماركس على مقدار معين من النقود. ولكل انسان مطلق الحرية في اطلاقاته ومصطلحاته، فلتكن هذه التسمية صحيحة، ولكن ليس من الصحيح، ولا من المفهوم فلسفيا، ان يعتبر بلوغ النقد هذا الحد الخاص، تحولا كيفيا له، وقفزة من نوع إلى نوع. فان بلوغ النقد إلى هذا الحد، لا يعني الا زيادة كمية، ولا ينتج عنها تحول كيفي في النقد، غير ما كان ينتج عن الزيادات الكمية التدريجية، على طول الخط. وإذا شئنا فلنرجع إلى المراحل السابقة، من تطور النقد، لعناصره، في تغيراته الكمية المتتالية. فلو ان المالك الفردي كان يملك النقد، الذي يتيح له أن يجهز سبعة عمال، بأدواتهم وأجورهم، فماذا كان يربح على زعم ماركس؟ انه كان يربح قيمة فائضة، تعادل أجور ثلاثة عمال ونصف، أي ما يعادل (28) ساعة من العمل في الحسابات الماركسية، ولأجل هذا فهو ليس رأسماليا، لأن القيمة الفائضة إذا حول نصفها إلى رأس مال، لا يبقى منها ما يضمن له معيشة عامل مضاعفة، فلو افترضنا زيادة كمية بسيطة في النقد، الذي يملكه، بحيث أصبح في امكان المالك ان يشتري – مضافا إلى ما كان يملك – جهود نصف يوم لعامل، أخذ يعمل له ست ساعات ولغيره ست ساعات أخرى فهو سوف يربح من هذا العامل، نصف ما يربحه من عمل كل واحد من العمال السبعة الآخرين، ومعنى هذا أن ربحه سوف يعادل (30) ساعة من العمل، وانه سيمكنه من معيشة أفضل مما سبق. وهنا نكرر الافتراض، فان في إمكاننا أن نتصور المالك، وهو يستطيع على أثر زيادة كمية جديدة، في نقده، أن يشتري من العامل الثامن، ثلاثة أرباع، ولا يبقى للعامل صلة بمحل آخر، الا بمقدار ثلاث ساعات فهل نواجه، عند هذا، غير ما واجهناه عند حدوث التغير الكمي السابق، من زيادة كمية في الربح وفي مستوى معيشة المالك. فهب ان المالك استطاع تضخيم نقده، بزيادة كمية جديدة، أتاحت له ان يشتري من العامل الثامن، كل جهده اليومي. فماذا سوف يحدث، غير ما كان يحدث على أثر الزيادات الكمية السابقة، من زيادة في القيمة الفائضة، وفي مستوى المعيشة؟ نعم يحدث للنقد شيء واحد، لم يكن قد حدث في المرات السابقة، شيء يتصل بالناحية اللفظية فقط، وهو أن هذا النقد لم يكن يتفضل عليه ماركس، باطلاق لفظ رأس المال، واما الآن فيصح أن يسمى بهذا اللفظ. أفهذا هو التغير النوعي والتحول الكيفي الذي يطرأ على النقد. وهل كل امتياز هذه المرحلة من النقد، عن المراحل السابقة، ناحية لفظية خالصة بحيث لو كنا نطلق لفظ رأس المال، على مرحلة سابقة لحدث التغير الكيفي في زمان أسبق؟

_______________________________________________

1: المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية: ص 8 – 9.
2:
البيان الشيوعي: ص 8.
3:
أسس اللينينية: ص 66.
4:
ضد دوهرنك: ص 211 – 212 المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية: ص 10.
5:
ضد دوهرنك: ص 214.
6: هذه هي الديالكتيكية: مبادئ الفلسفة الأولية، لجورج بوليتزر ص 10.
7: ضد دوهرنك ص 210.
 

 

كتاب فلسفتنا للسيد محمد باقر الصدر

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *