في الفرق بين الضرر والضرار
السيد روح الله الخميني
اعلم أن غالب استعمالات الضرر والضر والإضرار وسائر تصاريفهما هي في الضرر المالي والنفسي، بخلاف الضرار وتصاريفه، فإن استعمالها في التضييق وإيصال الحرج والمكروه والكلفة شائع، بل الظاهر غلبته فيها، والظاهر أن غالب استعمال هذا الباب في القرآن الكريم إنما يكون بهذه المعاني لا بمعنى الضرر المالي أو النفسي، فإن قوله تعالى: ﴿لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده﴾[1] قد فسر بذلك، فعن أبي عبد الله، قال: (لا ينبغي للرجل أن يمتنع من جماع المرأة، فيضار بها إذا كان لها ولد مرضع، ويقول لها:
لا أقربك، فإني أخاف عليك الحبل، فتقتلي ولدي، وكذلك المرأة لا يحل لها أن تمنع[2] على الرجل، فتقول: إني أخاف أن أحبل، فأقتل ولدي وهذه المضارة في الجماع على الرجل والمرأة)[3]، وبهذا المضمون غيره[4] أيضا.
وفي رواية اخرى عن أبي عبد الله فسر المضارة بالأم ينزع الولد عنها، قال في مجمع البحرين في الآية: أي لا تضار بنزع الرجل الولد عنها، ولا تضار الأم الأب، فلاترضعه[5].
وعن أبي عبد الله – عليه السلام -: (المطلقة الحبلى ينفق عليها حتى تضع حملها، وهي أحق بولدها أن ترضعه بما تقبله امرأة اخرى، يقول الله – عز وجل -: (لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده وعلى الوارث مثل ذلك) لا يضار بالصبي، ولا يضار بأمه في رضاعه[6]) الخبر.
فعلى التفسيرين – خصوصا أولهما – تكون المضارة بمعنى التضييق وإيصال الحرج والمكروه، لا الضرر المالي أو النفسي، وكذا قوله تعالى:
(ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا)،[7] يكون بمعنى ذلك، فعن محمد بن علي ابن الحسين بإسناده عن أبي عبد الله – عليه السلام – قال: (سألته عن قول الله – عز وجل -: (ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا) قال: الرجل يطلق حتى إذا كادت أن يخلو أجلها راجعها، ثم طلقها، يفعل ذلك ثلاث مرات، فنهى الله – عز وجل – عن ذلك)[8].
وفي مجمع البيان: (لا تمسكوهن ضرارا) أي لا تراجعوهن لا لرغبة فيهن، بل لطلب الإضرار بهن; إما بتطويل العدة، أو بتضييق النفقة في العدة[9].
والظاهر أن الضرار في قوله تعالى: ﴿والذين اتخذوا مسجدا ضرارا﴾ [10]هو بمعنى إيصال المكروه ] إلى [ المؤمنين بإيقاع الشك في قلوبهم وتفريق جمعيتهم واضطرابهم في دينهم، كما روي: أن بني عمرو بن عوف بنوا مسجد قبا، وصلى فيه رسول الله – صلى الله عليه وآله – فحسدهم إخوتهم بنو غنم بن عوف، فبنوا مسجد الضرار، وأرادوا أن يحتالوا بذلك، فيفرقوا المؤمنين، ويوقعوا الشك في قلوبهم; بان يدعوا أبا عامر الراهب[11] من الشام; ليعظهم ويذكر وهن دين الإسلام ; ليشك المسلمون ويضطربوا في دينهم، فأخبر الله نبيه بذلك، فأمر بإحراقه وهدمه بعد الرجوع من تبوك[12].
وفي مجمع البيان: ضرارا أي مضارة; يعني الضرر باهل مسجد قبا أو مسجد الرسول; ليقل الجمع فيه.[13]
ويظهر من القضية أن الضرار هاهنا بمعنى إيصال المكروه والحرج، والتضييق على المؤمنين بتقليل جمعيتهم وتفرقتهم، وإيقاع الاضطراب في قلوبهم والشك في دينهم، لا الضرر المالي والنفسي.
وفي قوله تعالى: ﴿و لا يضار كاتب ولا شهيد﴾ [14] احتمالان:
أحدهما: أنه بالبناء للفاعل، فيكون النهي متوجها إلى الكاتب والشهيد.
وثانيهما: بالبناء للمفعول، فيكون المعنى لا يفعل بالكاتب والشهيد ضرر.
قال في مجمع البحرين: قوله: (ولا يضار كاتب ولا شهيد) فيه قراءتان:
إحداهما: (لا يضارر) بالإظهار والكسر والبناء للفاعل على قراءة أبي عمرو، فعلى هذا يكون المعنى: لا يجوز وقوع المضارة من الكاتب; بأن يمتنع من الإجابة، أو يحرف بالزيادة والنقصان، وكذا الشهيد.
وثانيتهما: قراءة الباقين: ” لا يضار ” بالادغام والفتح والبناء للمفعول، فعلى هذا يكون المعنى: لا يفعل بالكاتب والشهيد ضرر; بأن يكلفا قطع مسافة بمشقة من غير تكلف بمؤنتهما أو غير ذلك[15].
وفي مجمع البيان: نقل عن ابن مسعود[16] ومجاهد[17]: أن الأصل فيه ” لا يضارر ” بفتح الراء الأولى، فيكون معناه لا يكلف الكاتب الكتابة في حال عذر لا يتفرغ إليها، ولا يضيق الأمر على الشاهد بان يدعى إلى إثبات الشهادة وإقامتها في حال عذر، ولا يعنف عليهما.[18]
ولا يبعد أن يكون المضارة في قوله تعالى: ﴿ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن﴾ هي عدم إسكانهن في بيوت مناسبة لحالهن ليقعن في الضيقة، وهو – أيضا – يرجع إلى ما ذكرنا.
قال في مجمع البيان: (ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن) أي لا تدخلوا الضرر عليهن بالتقصير في السكنى والنفقة والكسوة طالبين بالإضرار التضييق عليهن ليخرجن.
وقيل: المعنى أعطوهن من المسكن ما يكفيهن لجلوسهن ومبيتهن وطهارتهن، ولا تضايقوهن حتى يتعذر عليهن السكنى. عن أبي مسلم .[19]
انتهى.
نعم الظاهر أن ” المضار ” في آية الوصية [20]بمعنى الإضرار المالي بالورثة.
والمقصود من التطويل الممل: هو إثبات شيوع استعمال الضرار وتصاريفه في التضييق وإيصال المكروه والحرج والتكلف وأمثالها، كما أن الشائع في الضرر والضر والإضرار هو استعمالها في المال والنفس، كما هو واضح.
فاتضح مما ذكرنا: أن الضرر في الحديث هو النقص في الأموال والأنفس، والضرار فيه هو التضييق والتشديد وإيصال المكروه والحرج، وقضية سمرة بن جندب إنما تكون ضرارا على الأنصاري وتشديدا وتضييقا وإيصالا للمكروه ] إليه [بدخوله في منزله بلا استئذان، والنظر إلى شيء من أهله يكرهه الرجل.
وليس الضرار بمعنى الضرر في الحديث [21]; لكونه تكرارا باردا، ولا بمعنى الإصرار على الضرر [22]، ولا مباشرة الضرر، ولا المجازاة عليه، ولا اعتبر فيه كونه بين الاثنين كما قيل[23].
ولا أظنك بعد التأمل والتدبر فيما ذكرنا – والفحص في موارد استعمال الكلمتين في القرآن والحديث، والتدبر في قضية سمرة وإطلاق خصوص المضار عليه – أن تتأمل في تصديق ما ذكرناه.
نعم هنا أمر لابد من التعرض له والتفصي عنه، وهو أن أئمة اللغة ومهرة اللسان صرحوا: بأن الضرار في الحديث بمعنى المجازاة، وبمعنى باب المفاعلة:
فعن النهاية الأثيرية: معنى قوله: (لا ضرر (; أي لا يضر الرجل أخاه، فينقصه شيئا من حقه، والضرار فعال من الضر; أي لا يجازيه على إضراره بإدخال الضر عليه، والضرر فعل الواحد، والضرار فعل الاثنين، والضرر ابتداء الفعل، والضرار الجزاء عليه.
وقيل: الضرر ما تضر صاحبك، وتنتفع أنت به، والضرار أن تضره من غير أن تنتفع أنت به.
وقيل: هما بمعنى واحد، والتكرار للتأكيد .[24]
وعن لسان العرب: معنى قوله: (لا ضرر ( أي لا يضر الرجل أخاه، وهو ضد النفع، وقوله: (لا ضرار) أي لا يضار كل منهما صاحبه.[25]
وعن السيوطي ) :لا ضرر ( أي لا يضر الرجل أخاه، فينقصه شيئا من حقه، و (لا ضرار) أي لا يجازيه على إضراره بادخال الضرر عليه[26].
وعن تاج العروس، مثل ما عن السيوطي بعينه .
والمجمع عبر بعين ألفاظ ابن الأثير.[27]
هذا، ولكن التأمل في كلامهم يوجب الوثوق بأن المعنى الذي ذكروه إنما هو على قاعدة باب المفاعلة، وأن الضرار فعال من الضر، وهو فعل الاثنين، والمظنون أن ابن الأثير ذكر هذا المعنى بارتكازه من باب المفاعلة، والبقية نسجوا على منواله، فترى أن السيوطي وصاحب تاج العروس[28] قد أخذا العبارة منه بعينها، واقتصرا على بعض كلامه، والطريحي قد عبر بعين ألفاظه من غير زيادة ونقيصة.
وبالجملة: الظاهر أن هذا الكلام قد صدر منهم لقاعدة باب المفاعلة، وتبعا لابن الأثير من غير تدقيق وفحص في موارد استعمالات الضرار.
هذا، مضافا إلى أن إطلاق ” المضار ” في رواياتنا على سمرة بن جندب مما يوجب القطع بأن الضرار الواقع في هذه القضية ليس بمعنى المجازاة على الضرر أو بمعنى إضرار كل بصاحبه، وأن قوله: (إنك رجل مضار) بمنزلة الصغرى لقوله: (ولا ضرر ولا ضرار.)
وقد عرفت [29]عدم ثبوت ورود (لا ضرر ولا ضرار) مستقلا من رسول الله – صلى الله عليه وآله – بل لم يثبت عندنا إلا في ذيل قضية سمرة، مع أنه قد أشرنا سالفا إلى أنه بعد الفحص الأكيد لم أر موردا استعمل الضرار وتصاريفه بالمعنى الذي ذكره ابن الأثير وتبعه غيره.
فقد تبين من جميع ما ذكرنا: أن الضرار تأسيس، لا تأكيد وتكرار للضرر، ولا يكون إلا بمعنى التضييق وإيصال المكروه والحرج] إلى [الغير، فتدبر.
[1] البقرة: ٢٣٣.
[2] في المصدر: تمتنع.
[3] تفسير القمي: ٦٦ – ٦٧ في تفسير الآية، الوسائل ١٥: ١٨٠ / ٢ باب ٧٢ من أبواب أحكام الأولاد.
[4] الكافي ٦: ٤١ / ٦ باب الرضاع من كتاب العقيقة، تفسير العياشي ١: ١٢٠ / 382، الوسائل 15: 180 / 1 باب 72 من أبواب أحكام الأولاد.
[5] مجمع البحرين ٣: ٣٧١ مادة ” ضرر “.
[6] الكافي ٦: ١٠٣ / ٣ باب نفقة الحبلى المطلقة من كتاب الطلاق، الوسائل ١٥: ١٧٨ / ٧ باب ٧٠ من أبواب أحكام الأولاد.
[7] البقرة: ٢٣١.
[8] الفقيه ٣: ٣٢٣ / 1 باب 155 في طلاق العدة، الوسائل 15: 402 / 2 باب 34 من أبواب أقسام الطلاق وأحكامه.
[9] مجمع البيان ٢: ٥٨٢.
[10] التوبة: ١٠٧.
[11] أبو عامر الراهب: والد حنظلة غسيل الملائكة، وكان قد تنصر في الجاهلية وترهب، فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وآله عاداه، لأنه زالت رئاسته وقال: لا أجد قوما يقاتلونك إلا قاتلتك معهم. توفي سنة ١٠ من الهجرة. انظر تاريخ الطبري ٣: ١٤٠، التفسير الكبير للرازي 16: 193 – 194.
[12] انظر مجمع البيان 5: 109.
[13] نفس المصدر السابق.
[14] البقرة: ٢٨٢.
[15] مجمع البحرين ٣: ٣٧١ مادة ” ضرر “.
[16] ابن مسعود: هو عبد الله بن مسعود بن غافل، أبو عبد الرحمن الهذلي، وهو حليف بني زهرة بن كلاب، أسلم في مكة، وهاجر إلى الحبشة ثم إلى المدينة، وشهد بعض حروب رسول الله صلى الله عليه وآله، توفي سنة ٣٢ ه. انظر الطبقات الكبرى لابن سعد ٣: ١٥٠، حلية الأولياء ١: ١٢٤، شذرات الذهب ١: ٣٨.
[17] مجاهد: بن جبر، أبو الحجاج المكي، مولى بني مخزوم، تابعي، مفسر، توفي سنة ١٠٣ ه في مكة المكرمة. انظر الأعلام ٥: ٢٧٨، حلية الأولياء 3: 279، شذرات الذهب 1: 125.
[18] مجمع البيان ٢: ٦٨٤.
[19] الطلاق: ٦.
[20] مجمع البيان ٩: ٦٤ ٤.
[21] الكفاية ٢: ٢٦٦ سطر ١٢ – ١٣.
[22] منية الطالب ٢: ١٩٩ سطر ١٢ – ١٤.
[23] النهاية في غريب الحديث والأثر 3: 81 مادة ” ضرر “.
[24] نفس المصدر السابق.
[25] لسا ن العرب ٨: ٤٤ مادة ” ضرر “.
[26] الدر النثير ٣: ١٧. السيوطي: هو العلامة أبو الفضل جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي الشافعي، ولد سنة ٨٤٩ ه، أخذ من العلم حظا وافرا، وكان مؤلفا مكثرا في مختلف الفنون، توفي سنة ٩١١ ه.
انظر الكنى والألقاب ٢: ٣٠٩، الأعلام ٣: ٣١٠.
[27] تاج العروس ٣: ٨ ٣٤ مادة ” ضرر “.
[28] هو محمد بن محمد بن عبد الرزاق الحسيني الزبيدي، المكنى بابي الفيض، والملقب بالمرتضى، عالم باللغة والرجال والأنساب، أصله من مدينة واسط، له عدة مصنفات أشهرها:
(تاج العروس في شرح القاموس)، (شرح إحياء العلوم) وغيرهما، توفي بالطاعون سنة ١٢٠٥ ه في مصر. انظر الكنى والألقاب ٣: ١٤٦، الأعلام ٧: ٧٠.
[29] انظر صفحة رقم: 43 و 70 – 72.
بدائع الدرر في قاعدة نفي الضرر
الوسوم: الضرار, الضرر, قاعدة الضرر, لا ضرر ولا ضرار