حرمة الغناء في الإسلام (3)
الشيخ سليمان المدني
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد وآله الطيبين الطاهرين واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين.
ذكرنا أن علماء الشيعة رضوان الله عليهم متفقون على حرمة الغناء لذاته بغض النظر عما يصاحبه، أي سواء صاحبه محرم بالخارج كاستعمال آلات اللهو من المزامير والنايات وغيرها أو لم يصاحبه مثل هذا المحرم، أو صاحبه محرم آخر كاختلاط الرجال بالنساء أو لم يصاحبه، فالغناء بذاته محرم، وهذا موضع اتفاق بين الفقهاء، إلى هذا القدر هو موضع اتفاق، وبغض النظر عن مدلول الكلمات سواء كانت مدلول الكلمات حقاً كما لو كانت في مدح الله سبحانه وتعالى أو الثناء عليه أو كانت باطلاً أيضاً لا ينظر إلى مدلول الألفاظ من هذه الناحية بعد أن كان الغناء هو كيفية من كيفيات الصوت كما مر تحديده وتعريفه، فقلنا إنهم اختلفوا في مسائل.
ومن هذه المسائل التي اختلفوا فيها الغناء في الأعراس، وذكرنا أن المشهور بين الفقهاء هو جواز الغناء للنساء خاصة في الأعراس بشروط تعرضنا لها في الأسبوع الماضي، ومنها عدم استعمال آلات اللهو، حتى ولو كانت هذه الآلة دفاً أو أمثاله، ومنها عدم دخول الرجال عليهن وعدم تعمد إيصال أصواتهن إلى الرجال كاستعمال مكبرات الصوت وأمثاله، على أن بعض الفقهاء أيضا لا يقولون بحليته في مثل هذا المورد كصاحب تحرير الوسيلة فإنه لا يستثني حالة الأعراس مطلقاً.
ومن هذه الموارد أو المواضع التي اختلفوا فيها الحداء، واليوم الناس لا تحتاج للحداء فقد فات زمن الجمال، ففي السابق كانوا يسافرون ويذهبون ويأتون على الجمال، ومن طبيعة الجمال أنها إذا سارت تسير سيراً عنيفاً وعلى غير انتظام في رفع أيديها وأرجلها بحيث إذا كان على ظهرها مثلاً نساء يتأذين بهذا السير، وكذلك الرجال المترفون إذا ركبوا الناقة وسارت بهم ذلك السير الذي لا ينظم رفع الأرجل والأيدي يحصل عندهم التعب، فوجدوا بأن النوق تسير بموجب الصوت الحسن، إذ إنها إذا سمعت صوتاً حسناً جعلت حركاتها وسكناتها موافقةً إلى المد والسكتة وغير ذلك مما يشتمل عليه الصوت الحسن، فأوجدوا لهم نوعاً من الصوت أسموه الحداء، وقد اختلف العلماء في الحداء، أهو محرم أم محلل؟ والواقع أن الذين قالوا بحليته لم يذكروا على ذلك رواية أو آية أو غير ذلك، وإنما ذكروه استثناء من الغناء، أو ربما لأنهم لا يرونه داخلاً في موضوع الغناء، أي باعتبار أن عنوانه الحداء فلا ينطبق عليه عنوان الغناء، ولكن معظم الفقهاء أي غالبية فقهاء الشيعة منذ صدر الإسلام إلى اليوم أيضاً يدخلون الحداء في مفهوم الغناء، وحيث إنه لا توجد أدلة على استثنائه، لا يستثنون الحداء من الغناء، طبعاً لا داعي للتوسع في بحث هذه المسألة ولا في شرحها لأنه لا يوجد داعٍ للحداء في الوقت الحاضر.
ومن الموارد التي اختلفوا فيها أيضاً الغناء في أيام الأعياد وليالي الجمعات، والظاهر أن أصل المسألة لم يكن قد جاء من فقه الشيعة وإنما جاء من فقه غير الشيعة، حيث جوزوا الغناء في الأعياد وفي ليالي الجمعات، لأن غير الشيعة لا يرون أن الغناء في حد ذاته حرام وإنما يكون حراماً إذا خالطه محرمٌ من خارج، وأما الغناء في حد ذاته عندهم فهو ليس محرماً، يقول الغزالي: لا يوجد أحد من أهل الحجاز من يقول بحرمة السماع؛ يعني أن كافة علماء الحجاز – طبعا من غير الشيعة – لا يوجد فيهم من يقول بأن السماع وهو الغناء حرام، وكذلك معظم فقهاء العراق لا يوجد فيهم من يقول بحرمة الغناء، نعم قال أبو حنيفة بأنه مكروه، وكأنما هو شذوذ عن علماء العراق في ذهابه إلى الكراهة، فهذه المسألة – مسألة الغناء في الأعياد – لم تكن في الأصل من فقه الشيعة ولكن وجدت روايات فيها؛ فلذلك بحثها علماء الشيعة، ولا شك أن معظم العلماء الأقدمين والمعاصرين يقولون بحرمة الغناء حتى في الأعياد، وذهب بعض المتأخرين من العلماء إلى حلية الغناء في الأعياد الدينية والمواسم الملية كعيد الفطر والأضحى وليالي مواليد الأئمة صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، لوجود رواية عن علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليه السلام، قال سألته عن التلهي في الأعياد أو في العيد، قال: لا بأس به مالم يعص به، – وفي نسخة أخرى – ما لم يؤزر به، وفي نسخة ثالثة – ما لم يزمر به. ولا شك أن النسخة الثالثة تصحيح، يعني ليست صحيحة وإلا فالمقصود بالرواية ما لم يعص به، مالم يعص الله بذلك التلهي أو لم يؤزر به؛ يعني ما لم يؤثم به والمعنى فيهما واحد، فتكون واحدة قد رويت باللفظ والأخرى قد رويت بالمعنى، فذهبوا إلى جواز الغناء بسبب هذه الرواية في الأعياد وفي بعض مواسم الدينية والملية، لكن عموم الفقهاء من الأحياء والأموات المتقدمين والمعاصرين يذهبون أيضاً إلى حرمة الغناء حتى في الأعياد، وسواء كان فيه محرمٌ يعني صاحبه محرم من الخارج أو لم يصاحبه، ولفظة التلهي ليست خاصة في الغناء، بل التلهي حتى في الضحك والقصص و غير ذلك مما يعد تلهياً، فما لم يؤزر به أو مالم يعص به، يعني مالم يكذب في قصصه ونكته وغير ذلك بحيث يكون قد عصى الله سبحانه وتعالى، ومنه ما لو غنى، فيكون قد عصى الله سبحانه وتعالى، على أن هذه الرواية في الحقيقة عجيب أمرها، وغريب ورودها، والأولى حملها على موافقة التقية وذلك لأن من يتصفح أعمال العيدين، وما أمر الله فيهما من الصلاة والدعاء والتبتل والانصياع وغير ذلك يجد أن المسيطر على جو الأعياد الشرعية، إنما هو حالة العبادة لا حالة التلهي والضحك وأمثال ذلك، أي بغض النظر عن كون الرواية يستفاد منها الغناء أو لا يستفاد منها الغناء، فالروايات الواردة عن أهل البيت عليهم السلام في استحباب الانقطاع إلى الله في العيدين، عيد الفطر وعيد الأضحى وغيرها من أيام الأعياد الدينية والملية، كلها تدل على أن الأعياد لم تجعل للتلهي والتضاحك وغير ذلك، وإنما جعلت أياماً فاضلةً عند الله سبحانه وتعالى للعبادة، فإذا جاءت هذه الرواية تقول بالتلهي فلابد من تأويلها لأنها موافقة للتقية، فإن من يلاحظ الأدعية الواردة عن أهل البيت عليه السلام وسائر الروايات والأخذ بالصيام في كثير من الأعياد في عيد الغدير مثلا أو الأمر بالصلاة والصدقة والدعاء في عيد الفطر وعيد الحج يعرف أنه لا يبقى مجال عندئذ للتلهي بجميع أشكاله، سواء كان غناء أو غير غناء، فكيف يمكن أن يقال إنه يباح الغناء؟
وخذ مثلا عيد شوال [عيد الفطر] يستحب الغسل في أول الليل، ويستحب الدعاء طيلة الليل، ويستحب الغسل في أول النهار، وتجب الصلاة من حين طلوع الشمس، ويستحب الدعاء إلى زوال الشمس، فمتى يبقى وقت للتلهي الذي يتكلم عنه السائل الذي يسأل الإمام؟ وما هي هذه الرواية مع هذه الروايات الكثيرة المتعددة التي هي باليقين ثابتة عن الأئمة عليهم السلام. وكذلك عيد الحج [عيد الأضحى] وما فيه من الأعمال وما فيه من العبادات، كل ذلك ينافي بالتصور هذه الرواية وغير ذلك، ولذلك ذهب معظم العلماء إلى أن التلهي – وإن كان لا يعصى به الله وليس حراماَ – فإنه ليس من الأمور المستحبة أو الفاضلة، وأما الغناء فلا يفهم عندهم قطعا من هذه الرواية، فهم جميعا – ماعدا الشاذ النادر منهم – ذهبوا للجزم بحرمة الغناء حتى في الأعياد وليالي الجمعات.
ومن الموارد التي ربما يختلف فيها العلماء، قضية القرآن الكريم، التغني بالقرآن الكريم، فهناك روايات عن النبي صلى الله عليه وآله وعن الإمام الصادق عليه السلام وعن بقية الأئمة عليهم السلام منها قول النبي صلى الله عليه وآله: “اقرؤوا القرآن بالصوت الحسن فإن الصوت الحسن يزيد القرآن زينة”.
ومنها قول الصادق عليه السلام: “من لم يتغن أو يغتن بالقرآن فليس منا”، ولكن الصوت الحسن ليس دائماً معناه الغناء، وأما الرواية الثانية فالمقصود منها من لم يكن غنياً بالقرآن عن غيره من الكتب فليس منّا، وليس المقصود منها من لم يجعل القرآن مورد أغنية يغني بها فليس منا، ولذلك لا تتنافى هاتان الروايتان وأمثالهما مع ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وآله: “اقرؤوا القرآن بألحان العرب وأصواتها، وإياكم وألحان أهل الفسق والفجور” وفي رواية أخرى طويلة في وصف آخر الزمان قال: “وعندئذ يأتي أقوام يتعلمون القرآن لغير الله يجعلونه مزامير” إلى أن قال صلى الله عليه وآله: “أن أولئك من أهل النار”.
على أي حال قوله [يجعلونه مزامير] ليس المقصود به أنه يقرؤونه في النايات والعيدان والأوتار لأنها لا تخرج أصواتاً ذات حروف ومقاطع حتى يقرأ بها القرآن، وإنما يجعلونه مزامير أي يقرؤونه بطريقة النفخ في المزامير، أي يجعلون القرآن أغنية يتغنون بها، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وآله في الرواية الأولى: “اقرؤوا القرآن بألحان العرب وأصواتها وإياكم وألحان أهل الفسق”، والمقصود بألحان أهل الفسق إنما هي ألحان المغنين، فإذن حتى لو كان مدلول الأغنية هو آيات القرآن الكريم، يكون التغني بها حراماً، ويكون الاستماع لها حراماً، بل لابد أن يقرأ القرآن بأصوات العرب وألحانها، وطبعاً يستحب تحسين الصوت بالقرآن، ولقد كان الإمام زين العابدين عليه السلام يحسّن صوته بالقرآن حتى أن السقائين إذا مروا بداره صباحاً يقفون، يأخذهم حسن صوته فيقفون يستمعون إلى تلاوته حتى ينتهي من التلاوة، فهل معنى ذلك أنه عليه السلام يجعل القرآن أغنية يغني بها؟ طبعاً لا، لا شك أن الصوت الحسن كما ذكرنا في تعريف الغناء عنصر من عناصر الغناء، لكن ليس كل صوت حسن هو غناء، فقد ذكرنا فيما سبق من تعريف الغناء بأنه الصوت الحسن المرجع فيه بطريقة معينة متعارف عليها، يقتضي تكرارها إيجاد الطرب، وقلنا إن الطرب إنما هو خفة تعتري النفس توجد الحزن أو الفرح، فإذاً ليس كل صوت حسن غناء، وإن كان الصوت الحسن عنصراً من عناصر الغناء، فإن الصوت الأبح بطبعه أو الأجش بطبعه لا يشتهي الإنسان الاستمرار في استماعه حتى يجذب الناس ويثير فيهم طرباً، فإذن يستحب تحسين الصوت بالقرآن، ولكن لا يجوز اتخاذ القرآن مزامير، ولا يجوز التغني بالقرآن، بل يذهب بعض الفقهاء أيدهم الله إلى أن التغني بالقرآن والدعاء وبالأشعار التي فيها مدح لله سبحانه وتعالى أو مدح للأنبياء والأئمة عليهم السلام أشد حرمةً من التغني بسائر الأشعار الغزلية وأمثالها؛ لأن في هذا إيهاماً بأن هذا إنما يفعل هذا المحرم عبادة والحال أنه فسق وليس عبادة، وإن الله سبحانه وتعالى لا يطاع من حيث يعصى.
وأيضاً من المسائل التي تثار في هذا الصدد مسألة المراثي على أهل البيت عليهم السلام، المراثي والمدائح التي تقال في أبي عبد الله الحسين عليه السلام وسائر أهل البيت عليهم السلام، فهذه هل تستثنى من حرمة الغناء؟ أو أنها لا تستثنى من حرمة الغناء؟ والمقصود أنه لو أن المنشد اتخذ للقصيدة التي ينشدها لحناً غنائياً كألحان أهل الفسوق، كما نشاهده عند بعض من ينشدون [الرداديات] بالأخص، يستمعون إلى ألحان أهل الفسوق ويصيغون ذلك على إيقاعاتهم وأنغامهم، فمثل هذه الحالة، هل تستثنى؟ أو لا تستثنى من الحرمة؟ أي انه ليس مجرد قراءة الشعر بطور من الأطوار التي لا تدخل في أطوار الغناء أو تقسيم الصوت بالشعر يكون حراماً، لا، لا يفهم أحد منكم ذلك، أنا لا أقصد ذلك، والعلماء الذين يقولون بالحرمة لا يقصدون ذلك، وإنما يقصدون: لو أن الخطيب الحسيني أو الرادود الحسيني اتخذ للقصيدة لحناً غنائياً فهل تكون أجرته حلالاً أم حراماً؟ وهل يكون مأثوماً أم مستثنى في هذه الحالة من الإثم؟ وهل يجوز الجلوس والاستماع إلى تلك [الردة] أو تلك القصيدة التي ألقيت بلحن الغناء؟ أو يجب القيام ويجب إنكار المنكر عند القدرة عليه؟
بعض الفقهاء استثنوا من ذلك المراثي في أبي عبد الله الحسين عليه السلام خاصة، وقسم قال إن جميع مراثي الأئمة عليهم السلام ومدائحهم تستثنى، ومعظم العلماء من الأحياء والأموات يقولون لا تستثنى، لا يستثنى من ذلك هذا الأمر، والذين استثنوا ذلك اعتمدوا طبعاً على رواية عن الإمام الصادق عليه السلام عندما دخل أحد العراقيين عليه في المدينة المنورة فأنشده قصيدة في الحسين عليه السلام فقال “أنشدني كما تقرؤون في العراق”، يقول هذا البعض إن أهل العراق كانوا ينشدون بطريقة الغناء، فإذاً بموجب هذه الرواية تستثنى مراثي أبي عبد الله الحسين عليه السلام.
الباقون يقولون إن المعروفين بحلية الغناء وأطوار الغناء ليسوا هم أهل العراق وإنما هم أهل الحجاز، وقوله عليه السلام “أنشدني كما تنشدون عندكم في العراق”، يعني لا تنشدني بلحن أهل الحجاز لأنه محرم وأنشدني بطريقة أهل العراق لأنهم لا يستعملون الغناء، أو على الأقل تكون طريقة الإنشاد في العراق في ذلك الزمان مجهولة لنا فلا نعلم ما هي، أهي طريقة الرقة أم هي طريقة الغناء.
فإذاً لا يمكننا التمسك بهذه الرواية في القول بتحليل شيء ثبت بالضرورة من الدين وبشرع سيد المرسلين أنه حرام، وعندئذ لا يجوز لمن ينشد على أبي عبد الله الحسين عليه السلام أن يتتبع أساليب أهل الفسق وألحانهم وإيقاعاتهم في إنشاد ما يرثي به الحسين أو أهل البيت عليهم السلام أو يمدحهم بذلك.
وبعض العلماء يقول إن الغناء معروف عرفاً، وهذا لا يكون غناءً حتى إذا كان بأسلوب الغناء، وحتى لو صار بألحان المغنين لا يسمى غناءً، وإنما هو نوح، وفرق بين الغناء والنوح، والمحرم إنما هو النوح بالباطل وليس مطلق النوح، فيكون عندئذ إنشاد هذه المراثي ولو على طريقة المغنين حلالاً، طبعا هذه شبهة لطيفة ونقول فيها إنه لا شك أن النوح يختلف عن الغناء في اللغة، وفي الحديث المنقول عن النبي صلى الله عليه وآله “صوتان يكرههما الله، نوح في فجيعة، وصوت في نعمة” أي أن النوح والغناء محرمان، وفي رواية أن امرأة كانت لها جارية وهذه الجارية كانت تنوح على الموتى، وكانت هي تأكل من كسب هذه الجارية، يعني إذا مات شخص يدعون الجارية لتنوح عليه، وسمعت أن النوح حرام فذهبت إلى رجل من أهلها وقالت له إذا ذهبت إلى الحج فاسأل أبا عبد الله عليه السلام وتعني الصادق عليه السلام هذا حلال أم حرام؟ وأنت تعلم أنه ليس لي مورد أرتزق منه إلا هذه الجارية، فإن قال حلال أبقيتها وأكلت من كسبها، وإن قال حرام بعتها وأكلت من ثمنها حتى يفتح الله سبحانه وتعالى، فقال لها أخوها إني أجل أبا عبد الله أن أسأله مثل هذه المسألة، وأبى أن يعدها بالسؤال، فلما سافروا إلى الحج تذكر ابن أخيها ذلك فسأل أبا عبد الله عليه السلام فقال: “أتشارط؟ [يعني تشترط أجرة معينة] فقال لا أدري إن كانت تشارط أم لا، ولكن على الحالين، قال قل لها لا تشارط، فإذا لم تشارط حلّ لها ذلك”.
طبعاً هذا مقيّد، نحن هنا في البحرين لا يوجد عندنا نوح على الموتى، إذا مات الميت نقرأ على الحسين وعلى أهل البيت عليهم السلام، ولكن في العراق والشام وفارس ومصر وغير ذلك النوح على الميت باق إلى اليوم لم ينقرض، وقد رأيته في النجف الأشرف، والمقصود بالنوح على الميت أن يؤتى بالنائحة فتعدد فضائل ذلك الميت ومكارمه وترفع من قدره، وفي العادة أن النائحة تضطر إذا كانت مهنة الميت وضيعة أن تعطي هذه المهنة أوصافاً وألقاباً لتقلبها مدحاً، فتقلب الأفعال الشائنة مدحاً، هذا ما يسمى نوحاً بالباطل، وقد شاهدناه، وبعد النوح توجد عند أهل العراق عادة أخرى يسمونها [الحر]، و[الحر] هو أن تجتمع نساء المحلة مع أقارب الميت أو الميتة من النساء ويتعرين من الثياب ويلطمن الصدور بأقسى ما يمكنهن حتى تدمي صدورهن لمدة أربعين يوماً، حتى لو كانوا يتمنون موت ذلك الإنسان فإنه إذا مات يفعلون له ذلك. أربعين يوماً بهذه المثابة، بالإضافة إلى النوح وهو أن تأتي النائحة وتعدد فضائله ومناقبه وما فعله في حياته من المكارم، طبعاً أحياناً يكون الميت ممن له فضائل ومناقب واقعية، كما لو كان عالماً جليلاً وعمل من الأعمال الخيرية ما شاء الله، فإذا جاءت النائحة لا تحتاج للباطل وإنما تقول عمل كذا وكذا وغير ذلك، ولكن والعياذ بالله إذا كان مستهتراً سكيراً أو غير ذلك، وكانت جميع الخصال الدانية هي فيه فماذا تفعل النائحة؟ تقلب تلك الرذائل فضائل، تصوغها بصيغة الفضائل، يعني تصوغ للفضائح ألقاب فضيلة، وهذا يسمى نوحاً بالباطل، فطبعاً قوله عليه السلام: “قل لها لا تشارط” ليس معناه أنها لو ناحت بالباطل يكون نوحها حلالا ولا تأثم، تـأثم ولكن السيدة التي هي مالكة الأمة لا يلحقها إثم أن جاريتها ارتكبت المحرم، وإنما لو كانت قد شارطت يكون الكسب حراماً، فإذا أكلته السيدة أكلت حراماً، وأما إذا لم تشارط وقبلت بما أعطوها لا يكون ذلك أجرة على النوح لأن الأجرة هي ما تمت عليه المشارطة، وأما بدون مشارطة وما يعطى لها من قليل أو كثير تأخذه لا يسمى أجرة فيكون الدخل حلالاً، فإذا أكلت منه مالكتها أو سيدتها تكون قد أكلت حلالا.
فمورد نظره عليه الصلاة والسلام إيجاد الطريق الذي يجعل ما تأكله تلك السيدة المؤمنة حلالا؛ لأنها ليس لها مورد رزق غير هذه الجارية، فلا يدل كلامه هنا على أنه في حالة النوح يكون كل شيئ حلالا ويُغض النظر عن الروايات والأحكام الثابتة أيضاً في حرمة النوح، نعم استثني النوح بالحق فهو ليس حراماً، ولكن لا شك أن النوح يختلف عن الغناء لا لأن هذا يثير الحزن والغناء يثير الفرح كما يقول أصحاب هذه الشبهة، لا، ليس من هذا القبيل، فبعض [الرداديات] التي قد سمعنا جزءً منها لو تركت وشأنها تثير فرحاً، لكن لما كان مدلول الألفاظ في تعداد مصائب الآل عليه السلام فمدلول الألفاظ هو الذي أثار الحزن.
إذن فالكلام إنما هو في الكيفية، ولما كانت الكيفية محرمة فإذا صاغ هذا [ردته] بالطريقة التي حرمها الله فلا شك أنه يكون مأثوماً على ذلك لأنه يكون سلك مسلك أهل الفسوق، ويكون مستمعوه مأثومين أيضاً على الاستماع إليه، فإذن لا يستثنى من ذلك [الردات] وأمثالها، حتى لو كانت في الأئمة المعصومين عليه السلام إذا كانت بألحان أهل الفسق وإيقاع المغنين، وأما مثلا الأطوار التي يستعملها الخطباء في الأبيات الدارجة فالظاهر أنها لا يشملها مفهوم الغناء، لأنها ليست على إيقاع المغنين، وإنما هي نمط خاص اتخذ في هذه المجالس منذ أن بزغ فجرها فلا تدخل في أصوات المغنين، نعم كما قلت بعض الذين يصيغون [الردات] و[اللطاميات] يتعمدون أحياناً أصوات أهل الفسق فإذا تعمدوا ذلك وجب القيام عنهم وعدم الاستماع إليهم.
وهذا آخر ما نورده في هذا البحث المتعلق بالغناء وأرجو من الأخوات اللواتي طلبن الخوض في هذه المسألة أن ينظفن مجتمعهن من المغنيات اللواتي ينتحلن لأنفسهن اسم الملايات وما هن بملايات، فيطردن كل من تحمل دفاً في عرس، لا من ذلك العرس فقط ولكن من المآتم حتى في أيام عشرة محرم؛ فإن من ترضى أن تدنس نفسها بحمل الدف وأمثاله لا ينبغي أن تنسب إلى أهل البيت عليه السلام، فنرجو من الأخوات اللواتي طلبن السير في هذا البحث أن يطهرن مجتمعهن من هذه الجاهلات اللواتي يردن التشبه بأهل الفسق فيقولون هذه فرقة فلانة وهذه فرقة فلانة، ليس عند الشيعة فرقة لضرب الدفوف والأغاني، وإنما عند الشيعة مؤمنات وقرات يطعن الله ولا يعصينه، ويتمسكن بأهل البيت وبأقوالهم عليهم السلام ويتبعنهم.
وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.