هل أن أثر إحياء الأرض الملكية أو الحق؟
السيد محمد باقر الصدر
وخلافا لهذه الطائفة من النصوص، الدالة – بصراحة – على بقاء الأرض المحياة ملكا للإمام وحقه في الخراج.. توجد طائفتان، تدلان على تملك المحيي للأرض التي أحياها، وعدم كونه مسؤولا عنها بشيء.. إحداهما تعطي هنا المعنى على مستوى الظهور، والأخرى تدل عليه بصراحة.
أما الطائفة الأولى: فهي نظير ما جاء في رواية محمد بن مسلم عن أهل البيت (ع): ((أيما قوم أحيوا شيئا من الأرض فهم أحق بها وهي لهم)) (1). لأن اللام في كلمة (لهم) تدل على الاختصاص، وظاهر إطلاقها الاختصاص بنحو الملكية.
وأما الطائفة الثانية: فهي نظير خبر عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله الصادق (ع) قال: ((سئل وأنا حاضر عن رجل أحيى أرضا مواتا فكري فيها نهرا، وبنى فيها بيوتا، وغرس نخلا وشجرا. فقال: هي له، وله أجر بيوتها، وعليه فيها العشر (أي الزكاة) 2) فان اقتصاده على ذكر الزكاة في مقام تحديد ما عليه، كالصريح في نفي الخراج، وانقطاع صلة الإمام برقبة الأرض. ولابد للمعارضة بين هاتين الطائفتين، وبين الطائفة المشار إليها في المتن، الدالة على بقاء الأرض على ملكية الإمام بعد الإحياء.. من علاج.
قد يقال: إن هذه الطائفة مما لا محصل لها بعد استقرار السيرة القطعية على عدم إعطاء المحيي للخراج، منذ زمان الأئمة إلى زماننا هذا، كما لا معنى لحملها على زمان ظهور الحدة، فلا بد من رفع اليد عنها.
ونجيب على ذلك بمنع جدوى السيرة المشار إليها لأنه إن أريد سيرة المتعبدين بنصوص أهل البيت، فلعل عدم إعطائهم للأجرة بلحاظ أخبار التحليل لا باعتبار انقطاع صلة الأرض بالإمام رأسا بعد الاحياء. وان أريد سيرة غيرهم من المسلمين، فإن ذلك لأجل مشيهم على أساس فقهي آخر.
وقد يقال: إن هذه الطائفة – الدالة على بقاء ملكية الإمام – قد اعرض عنها الأصحاب، فتسقط عن الحجية.
الجواب أولا: أن العارض الجميع غير ثابت وتسالم الجميع على عدم وجوب الطسق بالفعل لجل أخبار التحليل، لا يدل على العارض الجميع عن مفادها.
وثانيا: أنه لو سلم إعراضهم عن مفادها فلعله لإعمال قواعد باب التعارض وترجيح المعارض، لا لخلل خاص فيها.
وعلى هذا فلابد من حل للتعارض، ويتصور لذلك وجوه:
الأول: حمل الطائفة الآمرة بالخراج على الاستحباب، جمعا بينها وبين ما هو كالصريح في عدم وجوبه.
ويرد عليه: ان هذا خلط بين الأحكام التكليفية والوضعية، لأن هذا الجمع إنما يصح في الأحكام التكليفية، حيث يحمل الأمر فيها إذا وردت الرخصة على الاستحباب، دون الأحكام الوضعية، لأن نكتة صحة الجمع هناك غير موجودة هنا. فان الوجه في حمل دليل الأمر التكليفي على الاستحباب، بعد مجيء الرخصة: أما بناء على مبنى المحقق النائيني في دلالة الأمر على الوجوب، فلأن الوجوب والاستحباب على هذا المبنى ليس مدلولين للفظ، إنما ينتزع الوجوب من حكم العقل بلزوم إيجاد مطلوب المولى، ما لم ترد الرخصة منه، فإذا جاءت الرخصة ارتفع موضوع الوجوب حقيقة، وثبت بضمها إلى جامع الطلب، المدلول للفظ الاستحباب. واما بناء على كون الوجوب ثابتا بإطلاق مدلول الأمر، فيرجع الحمل على الاستحباب، إلى التقييد الإطلاق الذي هو منشأ الوجوب، والتقييد على مقتضى القاعدة. واما بناء على كون الوجوب مدلولا وضعيا بنحو، الانحاء، فالحمل على الاستحباب يتوقف على دعوى وجود ظهور ثانوي للصيغة في الاستحباب، تصل النوبة اليه، بعد رفع اليد عن ظهورها الأولي في الوجوب، ليكون الاستحباب ثابتا بالظهور لا بالتأويل.
وكل هذه الوجوه لا تتم في الأمر الظاهر في بيان حكم وضعي، كما في المقام. حيث ان قوله: (فليؤد طسقها أو فعليه طسقها) بيان عرفا للاستحقاق الوضعي للإمام وليس مجرد طلب تكليفي صرف فلا يتجه الحمل على الاستحباب.
الثاني: إن الطائفة والدالة بالصراحة على بقاء مالكية الإمام، تسقط بالمعارضة مع الطائفة الصريحة في ارتفاعها، وتنتهي النوبة إلى الطائفة الأخرى الظاهرة في ارتفاعها، وتملك المحيي للرقبة بالإطلاق.
والوجه في ذلك: أن هذه الطائفة الظاهرة، لا يعقل أن تكون طرفا للمعارضة مع الطائفة الصريحة في بقاء مالكية الإمام، لأن الظهور الإطلاقي لا يعارض الصراحة، بل يكون الصريح مقيدا له.
وعليه فالمعارضة في المرتبة السابقة تقع بين الصريحين، وتصل النوبة إلى الظهور الإطلاقي بلا معارض.
وتقوم الكفرة في هذا البيان على قاعدة عامة في باب التعارض وهي: أنه متى تعارضت طائفتان من الأخبار، وكان إحداهما صريحة كلها في النفي مثلا، وكان في الطائفة الأخرى ما هو صريح في الإثبات وما هو ظاهر فيه.. فلا يلتزم بسقوط الجميع في درجة واحدة، لأن ما هو ظاهر في الإثبات لا يمكن أن يعارض ما هو صريح في النفي، إذا كانت الصراحة بدرجة تصلح للقرينية عرفا. فالصريح في النفي يعارض الصريح في الإثبات فقط، وبعد التساقط يرجع إلى الظاهر في النفي، بدون معارض في درجته.
وهذه القاعدة العامة وإن لم تكن مقررة عمليا عند الفقهاء، ولكنها في الحقيقة تمديد لقاعدة مقررها عندهم نظريا وعمليا، وهي اللا رجوع إلى العام الفوقي بعد تساقط الخاصين، فإن نفس الفكرة التي تبرهن على أن العام لا يقع طرفا للمعارضة في مستوى الخاصين، تدل على ذلك بالنسبة إلى أمثال المقام.
وهذا الوجه يتوقف على تعيين تساقط الصريحين، وعدم ترجيح أحدهما وسيأتي بيان المرجح.
الثالث: مبني على انقلاب النسبة، بدعوة: أن النصين متعارضان بنحو التباين، وأخبار التحليل تقيد النص الدال على عدم تملك المحيي وثبوت الخراج عليه، وتخرج عن تحته الأفراد الذين شملهم التحليل، فيصبح النص بسبب ذلك أخص مطلقا من النص النافي للخراج مطلقا، وترتفع المعارضة بالتخصيص.
ويرد عليه – مضافا إلى الإشكال في كبرى انقلاب النسبة – أن انقلاب النسبة بين العامين المتباينين إنما يتم، إذا ورد خاص موافق لأحدهما مخالف للآخر ليحمل العام الموافق على مورد الخاص. وفي المقام أخبار التحليل وإن كانت مخالفة أو مخصصة لما دل على ثبوت الخراج، إلا أنها ليست موافقة العام النافي للخراج، والدال على تملك المحيي لرقبة الأرض، لأن ظاهر العام النافي هو بيان الحكم الإلهي الكلي لا التحليل المالكي كما هو مفاد أخبار التحليل.
ويؤيد ذلك ورود بعض روايات الطائفة النافية في مورد اليهودي والنصراني، الذي لا يشمله التحليل المالكي المجعول في أخبار التحليل قطعا، الأمر الذي يدل على أن الطائفة النافية بصدد بيان حكم إلهي لا إذن شخصي مالكي فلا يمكن حملها على مورد أخبار التحليل بانقلاب النسبة.
الرابع: إن النصين متعارضان، ويرجح النص الدال على تملك المحيي لرقبة الأرض: أما للشهرة، وإما لموافقته لعمومات السنة القطعية، حيث ان جملة (من أحيى أرضا فهي له) متواترة إجمالا عنهم عليهم السلام، وهي دالة بإطلاق اللام على الملكية فتكون مرجحا للنص الدال على تملك المحيي للأرض.
والجواب ما ذكرناه في الأصول: من أن شهرة الخبر، بالدرجة التي لا تؤدي إلى القطع بصدوره. ليست مرجحة، وكذلك موافقة السنة القطعية، مضافا إلى أن السنة لم تصل إلى حد التواتر في المقام.
الخامس: إن النص الدال على عدم تملك المحيي للرقبة، وبقائها على ملكية الإمام.. هو المرجح في مقام التعارض، وذلك لأن النص الآخر المعارض له، مخالف لعموم الكتاب ومظنة للتهمة. أما العموم الكتابي فهو قوله تعالى ((لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل، إلا أن تكون تجارة عن تراض)) (3) فان هذه الآية حكمت بأن كل سبب للتملك والأكل باطل، إلا التجارة عن تراض. ومن الواضح أن تملك مال الإمام بالإحياء ليس تجارة عن تراض، فهو باطل باطلاق الآية الكريمة. فيكون ما دل على عدم تملك المحيي لرقبة الأرض موافقا لإطلاق الكتاب، فيقدم. كما أن أصالة الجهة فيه قطعية، دون ما دل على تملك المحيي فتدبر جيدا.
السادس: إن رواية عبد الله بن سنان صريحة في نفس الخراج وظاهرة في أن هذا النفي حكم شرعي وليس نفيا ناشئا من الاسقاط والتحليل من صاحب الحق، لأن ظهور رجوع السائل إلى الإمام وهو غير مبسوط اليد رجوعه اليه بما هو مفت لا بما هو ولي الأمر. والطائفة الأخرى صريحة في عدم النفي الشرعي وظاهرة في عدم الاسقاط من قبل صاحب الحق والتعارض إنما هو بين ظهور رواية ابن سنان وأمثالها في النفي الشرعي للخراج وصراحة الطائفة الأخرى في ثبوته الشرعي، ومقتضى الجمع العرفي حينئذ بقرينة أظهرية هذه الطائفة في الثبوت الشرعي للخراج حمل النفي في أمثال رواية ابن سنان على نفي فعلية الخراج المناسب مع الإسقاط أيضا.
_____________________________
1: الوسائل ج 17، ص 327، الحديث 32223.
2: المصدر السابق، الحديث 32227.
3: النساء / 29.
كتاب (اقتصادنا) للسيد محمد باقر الصدر