Search
Close this search box.
logo_black

السنة النبوية: دورها ومكانتها في الاجتهاد الإسلامي

الشيخ حيدر كامل حب الله

مدخل

يبدو موضوع تدوين السنّة اليوم بالغ الأهميّة في ضوء مناهج النقد التاريخي المعاصرة، كما ويبدو تخطّي القرن الأول للهجرة بواسطة إجابات نمطيّة ناجزة توحي بردم الهوة التي خلقتها السنّة الشفويّة لقرن كامل، يبدو هو الآخر ضرباً من التعامي أو التعمية لحقائق باتت اليوم أساساً هاماً للدعوة لإعادة قراءة السنّة النبوية عموماً.

وفي هذا السياق، يتمّ كسر الطوق المضروب على السنّة المنقولة، وتحطيم الحواجز النفسية المصطنعة حولها، ويؤسّس لنقد مضموني للحديث تبرّره الفترة المظلمة المجهولة من تاريخ الحديث، عنيت القرن الأول للهجرة، وهذا السياق نفسه ساهم إلى حدّ كبير في ظهور نزعات حادّة وبنيوية في العالم العربي والإسلامي، أبدت الحديث أكثر ضعفاً وأشدّ هزالة في واقعه التاريخي ومحتواه العلمي، فمن الشيخ محمد رشيد رضا وأستاذه ـ ومعهما محمّد توفيق صدقي ـ (والقرآنيون في الهند وباكستان) مروراً بأبي ريّة وأحمد أمين، وصولاً إلى حنفي وقاسم أحمد وآخرين، بدأت حركات النقد الداخلي والخارجي للسنّة المنقولة في عملية تعرية شديدة ومكثّفة لم يسلم منها أحياناً النص القرآني نفسه.

وفي هذا الإطار، جاء كتاب «تدوين السنّة»([1])لإبراهيم فوزي في العقد الأخير من القرن العشرين، ليطرق هذه الإشكالية، التي تنادي بإعادة تكوينٍ للعلاقة مع السنّة، وتحديد دورها في ضوء قيمتها المعرفية والعملانية اليوم.

وسوف نحاول ـ وبإيجاز ـ استعراض نظرية الكتاب، مسجّلين في الختام تقييماً إجمالياً لها.

 

أولاً: نظريّة الكتاب في قيمة السنّة ودورها

يحاول الكتاب تكوين موقف علمي ـ عملي من السنّة المنقولة، وهذا ما يجعله كتاباً هادفاً لا يحدّد وضعاً تاريخياً فحسب بقدر ما يحاول اتخاذ مواقف قائمة على معايير، وتعتمد المواقف المتخذة إزاء السنّة النبوية على أركان توزّعت في ثنايا الكتاب، ولاحت أنها الأساس الذي قام عليه.

ويؤكّد الكاتب في مجمل الكتاب على أنّ للسنة دوراً ومكانة مختلفين عمّا هو لها الآن، فمكانتها أقل، ودورها أكثر محدودية، وذلك لعوامل داخلية وخارجية استبطنتها في تكوينها وعرضت عليها عبر التاريخ مشكّلةً ـ وفق ما سيحاوله الكتاب ـ توليفةً محكمةً أحاطت بها مخضعةً إيّاها لتأثيراتها، كان أهمّها:

 

1ـ تعريف السنّة

ثمة ضرورة في البداية لتعريف السنّة، ذلك أنّ الشيء المفهوم في الوعي العام لهذه المفردة، هو كلّ ما جاء عن النبي|من قول أو فعل أو تقرير، وهذا هو ما جرت عليه تصوّرات علماء الفقه وأصوله عدا المذهب الظاهري الذي اكتفى بالسنّة القولية، كما هو الحال مع القرآن الذي لا يتشكل سوى من نصٍّ مقول([2]).

وتبدو محاولة الكتاب لصالح استبعاد السنتين الفعلية والتقريرية، وهو ما نراه واضح الهدف، ذلك أنّ هذه المقولة تفرغ المجريات العملية التي سار المسلمون عليها صدر الإسلام وكانت موافقة للأعراف الجاهلية … تفرغها من القيمة التشريعية، فما هو سنة ليس إلا قول النبي|، أما فعله أو تقريره فلا يعدو أن يكون أمراً مباحاً للمسلمين آنذاك دون أن يتخذ صفة التشريع الديني([3]).

وبهذه الطريقة، يرسم الكتاب في فصوله الأولى المسار العام له في الفصل الأخير الذي عقده لملاحظة السنّة بعد تدوينها، محاولاً تقرّي أهم ما فيها من تشريعات جنائية وعقدية وأسرية وغيرها، وحينما نعلم مدى التركيز الذي عنى به هذا الفصل الأخير في التأكيد على اتصال ما بين تشريعات إسلامية وموروثات العصر الجاهلي، فإن الصورة المتكاملة ستبدو جليّة، ذلك أنّ السير العملي للمسلمين على وفق أعراف الجاهلية لا يساوق تقنيناً إسلامياً ما دامت السنّة ـ حتى الآن ـ هي القول النبوي لا غير.

 

2ـ السنّة الملزمة

وتتلو ضرورة تعريف السنّة، حاجةٌ أخرى ماسّة أيضاً، يثيرها هذا التساؤل: ما هي السنّة (القولية) الملزمة؟

وفي هذا السياق، يحاول الكتاب إدخال عنصر جديد يفترض أنه هو الذي يخلق أو يساهم مساهمة جادة في خلق عنصر الإلزام في السنّة، وهذا العنصر هو الإعلان على الملأ، فعندما يعلن النبي|أمراً تشريعياً ما على الملأ، فسيغدو هذا الأمر قانوناً ملزماً، أمّا عندما يكون الموقف النبوي جواباً عن تساؤل شخصي لأحد الصحابة غير معلن بصورة رسمية، فسيفقد حينئذٍ صفة الإلزام([4])، وهذا هو الطبع العقلائي الانساني في سنّ القوانين، وبالتالي ستبدو أمامنا أرتال كبيرة من أخبار الآحاد غير ذات معنى أو إلزام حتى لو كانت سنّة قوليّة.

 

3ـ ظاهرة الخلط بين العبادات والمعاملات

وفي سياق السنّة الملزمة ومجالها التقنيني، ثمّة خلط أساسي ساهم في خلق إرباك في العلاقة مع السنّة نفسها، وهو الخلط بين العبادات والمعاملات، إذ يذهب الكتاب إلى أن العبادات ثبتت بالتواتر وأنه لم يقع خلافٌ فيها إلا نادراً، ولذلك أمكن الاخذ بالسنّة فيها، أما المعاملات فلم تكن سوى أخبار آحاد غير معلنة لا إلزام فيها([5]).

ويتصل هذا الخلط بين العبادات وغيرها، بآخر بينهما، ذلك أن العبادات سلوكيات ثابتة زمكانياً، الأمر الذي تختلف عنها فيه المعاملات القائمة على التحوّل والصيرورة، وهذا ما أفضى إلى تشوش كبير نتيجة سوق الطرفين مساقاً واحداً من جانب رجالات الفقه الإسلامي([6]).

 

4ـ ظاهرة النصوص عديمة الفائدة

ومن مجموع الأفكار المتقدّمة يبدو موقف الكتاب واضحاً ومنطقياً إزاء إدراج كتب الحديث الكثير من النصوص التي لا علاقة لها بعقيدة ولا بعبادة ولا معاملة… مما يفيد المسلمين([7])، وتبدو هذه الفكرة هامة بالنسبة للكاتب، إذ على أساسها سوف يتم التنازل عن عدد كبير من الأحاديث انطلاقاً من عدم جدواها العملي اليوم في حياة المسلمين، سواء صحت سندياً أم لم تصح.

 

5ـ حظر التدوين وتداعيات السنّة الشفويّة

إلا أنّ ظاهرةً هامّةً في تاريخ الحديث لا يمكن تجاهلها على الإطلاق، حيث امتدّت قرابة القرن من الزمن، ألا وهي منع تدوين السنّة النبوية، وتبدي التحليلات التي خرج بها العلماء المسلمون عبر الزمن حول ظاهرة النهي عن التدوين هذه والتي نسبت إلى النبي|، أكثر من رأي وتصوّر، بعيداً عن الجدل حول تحديد تاريخ النهي النبوي، هل بداية نزول الوحي كما يقول الدكتور صبحي الصالح أو بعد السنة السابعة للهجرة حيث زاد اهتمام الناس بالحديث كما يرجحه الكتاب نفسه([8]).

ويختار الكاتب من بين التحليلات ما يصفه أنّه التحليل الموروث عن الصحابة والتابعين، وهو ـ استناداً إلى نصوص لأبي هريرة وابن مسعود و… ـ الحذر من ظهور كتاب إلى جانب كتاب الله، في إشارة معرّضة بالتوراة والإنجيل([9])، وميزة هذا التفسير تاريخية، ذلك أن بقية التفاسير لظاهرة النهي لم تحظ بالعمق التاريخي إذ ظهرت بعد عصر عمر بن عبدالعزيز وإعلانه الرخصة في تدوين السنّة([10])، والنتيجة المنطقية إثر استبقاء هذا التفسير الوحيد لن تكون ـ بعد استعراض نصوص تجويز الكتابة التي وصفت بالناسخة، واستعراض بعض ما كتبه الصحابة إلى جانب كلّ تشدّدهم إزاء ظاهرة الكتابة حدّاً بلغ درجة التحريم ـ سوى التأسيس لرفض مرجعية السنة النبوية، مرجعيةً تماثل ما حصل لها بداية القرن الثالث الهجري وما بعد مع الصحاح وغيرها، فالهدف من المنع كان إفراد القرآن بالمرجعية، والهدف من التجويز كان الحفظ لا غير، لاسيما وأننا نعرف أنه لم يبق أثر لمدوّنات عصر الصحابة والتابعين الأوّلين بعد إتلافهم أنفسهم لها([11]).

ومن هذا كلّه، يمكن فهم الخطوة التاريخية التي قام بها عمر بن عبدالعزيز، فلم يرد هذا الخليفة الأموي إعادة تشكيل مرجعية السنّة بقدر ما استهدف وقف تيار الكذب على النبي|، في خطوة إصلاحية ترافقت وخطوته الأخرى في وقف سبّ علي× على المنابر([12])(وإن ناقض هذا التفسير الذي يختاره الكاتب النصَّ المشهور لعمر بن عبدالعزيز والذي أرسله إلى واليه على المدينة معللاً خطوته بـ«خفت دروس العلم وذهاب العلماء» وهو نص ذكره المؤلف نفسه ص69).

 

6ـ ظاهرة الكذب والاختلاق

ودون أن تقلّ أهميةً عن ظاهرة منع التدوين، كانت ظاهرة الكذب هي الأخرى موغلةً في التأثير على وضع السنّة ومكانتها المعرفية و…

ثمّة ما يدعو لدراسة أكثر عمقاً وجدية لظاهرة الكذب، ودورها وتأثيرها في اتخاذ مواقف من السنّة المنقولة، وقد جرت دراسات على هذا الصعيد، ساهم المؤلف في واحدةٍ منها في الإدلاء بدلوه، معلّلاً ظواهر الكذب على النبي بأسباب عدة ترجع إلى سلبيات نظام الحكم بعده|، معتقداً عدم وجود نصّ في هذا الموضوع، كما يضمّ هذا العامل إلى ظاهرة تدوين السنّة وعدم وجود سلطة تشريعية منتقداً إقصائها لصالح مقولة الاجتهاد([13]).

وفي هذا السياق تأتي ظاهرة المناقب والمثالب، إذ تختلف الأحاديث لصالح هذا الصحابي أو ذاك إلى أن يبلغ الحال درجة تقديس الصحابة، وتقع معركة حادّة بين الأمويين والشيعة([14])، وفي إطار استعراضه نماذج من هذه النصوص حول الخلفاء الراشدين وفاطمة وعائشة والحسنين والعباس ومعاوية([15])، يسجّل المؤلف نقداً قوياً على البخاري متهماً إيّاه بعدم الحيادية إزاء علي وأهل بيته([16])، وكذلك ينتقد إيراده نصوصاً في مدح الحسن دون الحسين في خطوة تتناسب وعلاقتهما بالسلطة الأموية([17])، على خلاف بقية الكتب الحديثية([18])، وعلى نفس السياق إيراد البخاري أحاديث مناقب معاوية، متجاهلاً عامر بن وائلة الكناني بعدم روايته عنه لاتهامه بالتشيّع لعلي([19]).

وفي سياق تحليله لظاهرة الدسّ والتزوير، حاول الكتاب استكشاف الدوافع التي أدت إلى نشوئها وشيوعها، آتياً على ذكر ثلاثة منها بشكل رئيسي:

1ـ دعم السلطات، وهو ما يفسّر ظهور أحاديث الطاعة للسلطان، وهي أحاديث تناقض تصرفات أمثال عائشة وطلحة والزبير ومعاوية وابن الزبير والحسين بن علي وزيد بن علي، الأمر الذي يعسر تفسيره([20]).

2ـ الترغيب في الزهد والعبادة([21]).

3ـ اليهود المتأسلمون، الذين اختلقوا قصصاً تناسب ما في التوراة وتعظّم عظماءهم كرواية رد الشمس ليوشع بن نون، ولم يتكشّف أمر هؤلاء إلا بعد ترجمة التوراة إلى اللغة العربية في عهد هارون الرشيد، وهكذا دخلت الإسلام مقولات اليهودية والنصرانية في التشبيه والتجسيم والعلم الإلهي و…([22]).

وبهذا ساهمت ظاهرة الكذب في المزيد من افراغ السنّة من مرجعيّتها.

 

7ـ العلاقة بين القرآن والسنّة

العنصر الآخر الذي ساهم في إضعاف مكانة السنّة في النظام المعرفي الإسلامي، كان وقوع الحديث في الرتبة التالية للقرآن، ومن هنا تتأسّس المعادلة القاضية بتقدّم القرآني على الحديثي، وهذا التقدّم يمثل أحد أهم نماذج نقد المعنى في الحديث، وتتعاضد هنا مقولتان: إحداهما: إن النهي عن تدوين السنة كان يراد منه التأسيس لمرجعية قرآنية متقدّمة الأمر الذي يحيل مجال نسخ القرآن بالسنّة، لاسيما إذا علمنا أن علم الناسخ والمنسوخ في هذا المجال ظهر مع الديناري(318هـ) بعد تدوين السنّة بقرنين([23])، وثانيتهما: الاختلاف الموجود بين الأحاديث وشيوع ظاهرة التعارض، الأمر الذي يفسح المجال للنص القرآني لتكوين مرجعية له في هذا المضمار([24]).

 

8ـ الأثر الاجتماعي السلبي للسنّة

حاول الكتاب ـ وفي أكثر من فرصة ومناسبة ـ التأكيد على الدور التفريقي للحديث في التاريخ الإسلامي، وقد أوحى الفصل الأخير منه بأن الغرض من استعراض الأحكام المالية والجنائية والأسرية … هو لفت النظر إلى أن الاختلافات التي وقعت بين الفقهاء والمدارس الفقهية كان مردّها إلى ظاهرة التعارض في الحديث و…([25])، وفي هذا السياق يستعرض المؤلف سلسلة من الأعراف والتقاليد الجاهلية التي بقيت في الإسلام، وحصل خلاف فيها بين الفقهاء نتيجة اختلاف الحديث (ولو أنهم تركوا الحديث وأدركوا أن المهم في الإسلام غير العبادي ضبط السلوك والتعامل بقوانين العدل والإنصاف والإحسان وعدم الضرر أو الحرج أو … دون اختلاق أنظمة معاملاتية فقهية (ص347)، لأعرضوا عن أعراف الجاهلية التي لا نص في إقرارها وإنما سيرة عملية)، وأمثلة هذا النوع كثيرة ليس أقلّها أن دية المرأة نصف دية الرجل الذي كان معمولاً به في الجاهلية([26])، والانقسام الاجتماعي الطبقي إلى أحرار وعبيد بحيث لا يقاد حرٌّ بعبد([27])، وأنه لا جمع بين قصاص ودية([28])، وأن السرقة أخذ مال الغير سراً من حرز كما كانت تفهمه العرب([29])، وأن للزواج حفلة علنية([30])، والرخصة في تزويج غير البالغين([31])، وأن لا ولاية للأم على بناتها([32])، وطبقات الإرث وعامل قوّة القرابة([33])و…

 

9ـ من نقد السند إلى نقد المتن

وبملاحظة ظاهرة التعارض بين الأحاديث، إلى جانب معارضتها أحياناً للقرآن الكريم، ينفتح الحديث واسعاً أمام اتجاه نقد النص دون الاستغراق في نقد السند وحده، وهي نقطة الضعف التي وقع فيها الفكر الإسلامي عموماً مقسّماً الحديث بلحاظ سنده إلى صحيح وضعيف، أو بإضافة «الحسن» كما فعله الترمذي([34])، وأفضى النحو منحى الأسانيد مع التغافل عن المضمون إلى سيول من الدراسات السندية حول صفات الراوي والتي تركّز البحث فيها على صفات تمس عنصر النقل فحسب، كالوثاقة والعدالة والضبط و…([35])دون تلك التي تمسّ عقل الناقل وفكره وأفقه الذهني ومستوى الوعي والإدراك عنده، مما أقصى رجال العلم والفكر عن الرواية وأدّى في النهاية إلى ظهور مستوى متدنٍّ من الروايات في الكتب الحديثية([36]).

وفي إطار السند وتجاهل المتن، تبدو مفارقات عدّة ومسارات جرى عليها السلف:

أ ـ الخلاف القديم والذي يعود إلى عصر الصحابة والتابعين حول النقل باللفظ أو بالمعنى، والذي امتاز عبدالله بن عمر بن الخطاب ومن بعده الشافعي بالتشدّد في النقل باللفظ فيه([37]).

كيف يمكن الإقرار بنقل لفظي، بعد قرن من منع التدوين؟ أليس من المنطقي الأخذ بالنظرية الثانية، والقول بأن نقولاتهم كانت بالمعنى، وما استنتجوه وفهموه من المضمون([38])؟

ب ـ ما هي الأسباب التي دعت بالبخاري وأمثاله للرواية عن الخوارج ومناصبي علي العداء، دون الشيعة أو المتهمين بمشايعة علي كابن طفيل([39])؟ هل هذا ترجيح سندي أو إقصاء على أساس لا يمت إلى السند بصلة؟

ج ـ التأسيس لنظرية عدالة الصحابة التي تخالف وقائع التاريخ، ولا تدعمها الآيات القرآنية الواقعة في سياق الثناء على الجيل الأوّل في المراحل الأولى([40])، علاوةً على الاشتباه الكبير في تعريف الصحابة تعريفاً يناقض المدلول اللغوي للكلمة، ولا ينسجم مع حملات القرآن على المنافقين..([41]).

وقد أدت نظرية عدالة الصحابة إلى وقف حركة نقد المتن كلياً رغم ما نقله للمسلمين (عن كعب الأحبار) أبو هريرة من نصوص يأباها العقل والمنطق والتاريخ في التجسيم وخُلُق الأنبياء ومكانتهم([42])و….

وبهذا تبدو قضية نقد المتن ملحّة جداً، ويوافق المؤلف أحمد أمين في الإقرار بضعف هذه الظاهرة في الأوساط العلمية الإسلامية قياساً بنقد السند، محاولاً (المؤلف) إيجاد عمق تاريخي لظاهرة نقد المتن مع ابن قيم الجوزية وغيره حتى في مواجهة روايات نقلها البخاري نفسه([43]).

وبجماع هذه العناصر التسعة، حاول المؤلّف تكوين موقف جديد من السنّة يعطيها مكانتها الحقيقية غير المبالغ فيها، ويؤسّس لفقه إسلامي لا يستغرق في القضايا الجزئية بقدر ما يسعى لتغطيتها بضوابطه وكلّياته.

هذا، وقد عقد المؤلف فصلاً حول الاجتهاد في الإسلام عالج فيه أدواته من القياس والاستحسان والمصالح المرسلة و…([44])كما سجل في الفصل الأخير جملة ملاحظات على بعض القوانين الإسلامية بصورة متفرّقة([45]).

ثانياً: وقفات تحليلية نقدية

سعى الكاتب ـ اتكاءً على الأركان التسعة التي أشرنا إليها ـ لإعادة قراءة السنّة ودورها، مثيراً ملاحظات قوية في أحيان كثيرة، لكن إشكاليات تواجه خطوته تحتاج إلى تكميل بعضها شكلي وبعضها الآخر جوهري نشير إلى قسمٍ منها بإيجاز:

1ـ إشكالية العنوان

لم نعرف لماذا اختار الكاتب عنوان «تدوين السنة» رغم أن موضوع التدوين شغل حيزاً محدوداً نسبياً من الكتاب، حتى لو عبّر عن القسم الأخير بعنوان حاول فيه استحداث وصلة وهو «السنّة بعد التدوين»، ذلك أنّ هذا الفصل إنما يمثل نقداً فقهياً استحضر فيه النصوص لتسجيل ملاحظات عليها.

وحتى القسم الثاني «علوم الحديث»، لا يتصل بمقولة التدوين بقدر ما يتصل بالسنة والحديث عموماً، وعلى نفس السياق جاء الفصل السادس من القسم الأوّل حول الاجتهاد.

وبهذا تكون 130 صفحة من الكتاب (من أصل 412) فقط حول موضوع التدوين وما يتصل به، وعليه كان من الأنسب عنونة الكتاب بعنوان آخر يدور حول السنّة ومكانتها المعرفية والعملية.

 

2ـ نحو نظرية فلسفية فقهية لفهم العبادات والمعاملات

لم نفهم بشكل واضح فلسفة التمييز التي وضعها الكاتب بين العبادات والمعاملات، وهو تمييز راج في العقود الأخيرة وعلى نطاق واسع، فهناك من يقول بأن العبادات ثابتة سكونية أما المعاملات فمتحركة، ورغم اقتناعنا بالشق الثاني من الفكرة من حيث المبدأ إلا أننا لم نفهم سبب الإصرار على سكونية العبادات؟ ما هو الدليل الذي يحيل ـ رغم تطوّر العقل البشري حتى على صعيد علم النفس والأخلاق ـ إجراء تعديلات في العبادة رغم أن ثبوتها التشريعي لا يزيد على ثبوت المعاملات؟ فقد ثبتت العبادات بالسنّة الفعلية كما كان الحال مع المعاملات التي جاء إلى جانبها سنّة التقرير، كما اقتصر القرآن على الضوابط العامة والخطوط العريضة ـ كما يقال ـ في المجال العبادي كما كان الحال تماماً في مجال المعاملات وغيرها، فلم ترد أحكام الصلاة ولا الصيام ولا الخمس ولا الزكاة ولا الحج كما نمارسها اليوم في أيّ نص قرآني، وما ورد لا يعدو أن يكون عموميات تشابه الكليات القرآنية من نوع ﴿أَوْفُواْ بِالعُقُودِ﴾، ﴿إِلا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ﴾، ﴿كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ﴾، ﴿وَالصُّلْحُ خَيْرٌ﴾، ﴿إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ…﴾، ﴿إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾…، لا بل يمكن القول بأن النصوص القرآنية الواردة في قضايا الحرب والسلم والدولة والجزاء وأحكام الجناية والأسرة والمال والثروة والعلاقات الاجتماعية ـ السياسية أكثر تفصيلاً مما ورد حول الصلاة (وهي أهم عبادة) والصوم (وهو من العبادات الأكثر إيجازاً في القرآن الكريم) والحج و… .

أـ فإذا افترضنا أنّ الأساس في الحديث عن ثبات عبادي هو المفاضلة النصيّة فالأمر ليس كذلك، فنصوص الأمور غير العبادية في الكتاب والسنة أكثر من الأمور العبادية.

ب ـ وإذا كان الأساس هو سيرة المسلمين وعلمائهم عبر الزمن وكذلك سيرة أصحاب الأديان مع طقوسهم الدينية، فهذا برهان قد يقنع غير تيار التحديث في العالم الإسلامي، ذلك أن هذا التيار لا يولي ـ محقاً ـ أهمية للتجربة التاريخية بوصفها مقدّساً يلزم الآخرون باتباعه، كيف وقد جرت السير نفسها أيضاً في غير القضايا العبادية.

ج ـ أن نفترض غياب الرؤية إزاء أسرار التشريع العبادي الأمر الذي يميزه عن المعاملات، وفي هذا السياق تبدو ملاحظة ناقدة، إذا كنّا ندخل في الحساب الروايات والأحاديث المنقولة عن النبي| (وأهل بيته عند الشيعة)، فإن جملة من التشريعات المعاملاتية تبدو هي الأخرى غير مفهومة على نحو القطع واليقين، وإذا ما كانت قابلةً لتفسير محتمل جداً فإن العبادات ليست بأقل من ذلك، فقد كتب العلماء والمتصوّفة كلاماً كثيراً حول فلسفة العبادات حتى بأدق التفاصيل، بحيث لا يبدو الصوم أمراً غريباً غير مفهوم مثلاً، واذا لم تكن عندنا تجربة لفهم وتفسير الظواهر فذلك لأن مقولة الرمز في العبادات كانت حاكمةً على أنماط تفكيرنا إلى جانب فقدان نتاج غربي على هذا الصعيد على النقيض مما حصل في بقية القضايا.

وأما إذا ما اقتصرنا على القضايا الثابتة بالقرآن الكريم فإن الأمور العبادية قابلة للتفسير بشكل واسع بالمقدار المبيّن لها في النص القرآني.

د ـ أن نفترض ـ كما ظهر من كلام المؤلّف وفق ما تقدّم ـ أن الأمور العبادية ثابتة بالتواتر وأن الخلاف فيها نادر جداً، على النقيض من القضايا غير العبادية التي وقع خلاف واسع فيها قدّم نماذج له الكاتب نفسه في القسم الثالث من كتابه.

غير أن هذا العنصر لا يستطيع الوفاء بدعوى الثبات العبادي والتزلزل غير العبادي ذلك:

أولاً:إن إثبات أمرٍ ما على نحو اليقين لا يرتبط منطقياً بسكونيته، إذ إن التواتر أو اليقين يعبران عن وسائل ثبوت الشيء لدى العقل الإنساني، أما ثبات ذلك الشيء وعدم قابليته للتغير على مرّ الزمن فإنه أمرٌ يتصل بالواقع الخارجي نفسه (ولو الاعتباري)، ومن ثم فالحديث عن التواتر أو اليقين يفضي إلى الخلط المنهجي بين مقام الوجود العيني والوجود المعرفي، أي خلط بين الذهن والخارج.

ثانياً:إن نفس ادّعاء اليقين والوضوح في العبادات على النقيض من المعاملات كما ذهب إليه الكاتب، لا دليل عليه، بل الشواهد على العكس من ذلك تماماً، لاسيما إذا أردنا أن ندخل في الحسبان مدارس الفقه الإسلامي بأجمعها ولا نمارس انتقاء طائفياً زائفاً، فحتّى الآن لا يوجد اتفاق فقهي على شكل الوضوء وكيفيته رغم أن المسلمين شاهدوا النبي يومياً ومراراً يتوضأ أمامهم لسنين طويلة، فهل كان يمسح الرأس على الطريقة الشيعية أو السنية، وهل يجب غسل الرجلين أو مسحهما؟ هل كان التكتف مستحباً أو بدعة؟ هل صلاة الضحى أو التراويح بدعة أو سنة؟ كيف يتشهد الإنسان في الصلاة وما هي طريقة التسليم الأمر الذي وقع فيه خلاف طويل بين المذاهب؟ … ولولا الإطالة لعرضنا مئات النماذج للاختلافات الفقهية بين المذاهب كلها، ومن أراد فليراجع أمثال «الفقه على المذاهب الخمسة» للشيخ محمد جواد مغنية، و«الفقه على المذاهب الأربعة» لعبد الرحمن الجزيري، وموسوعة الفقه الاسلامي (الكويتية)، وموسوعة جمال عبدالناصر، وكتاب «التذكرة» للعلامة الحلي، و«الخلاف» للشيخ أبي جعفر الطوسي… وغيرها من المؤلفات المهتمّة بالمدارس الفقهية الإسلامية على جميع الانتماءات المذهبية، فأين هو الوضوح العبادي والخلاف غير العبادي؟ وأين هو التواتر الذي تميزت به العبادات عن غيرها؟

وغرضنا من كل هذه الملاحظات التأكيد على أنّه لم تقدّم دراسة جادّة تؤسّس لتمايز واضح على صعيد اتجاه التطوير الفقهي بين العبادات والمعاملات، وهذا يعني ـ ودون أن نرجّح احتمالاً ـ إمكانية اتحاد القسمين في هذه الموائز التي افترضت لندّعي كشف ملاكات العبادات أو قابليتها للتطوير الزمني (وهو ادعاء لا ينبغي رفضه برد فعل نفسي) أو ندّعي في المقابل وحدة القسمين بمعنى مرجعيّة النص بدرجة أكبر حتى في المعاملات كما تميل إلى ذلك أغلب التيارات المدرسية في الفقه الإسلامي، فما لم تجر دراسة فلسفية فقهية معمّقة لا يمكن ادعاء تمايز توحي به الصورة الأولية الجامدة للعبادات.

 

3ـ التراث وإشكاليّة القراءة المؤدلجة

يلاحظ على كتاب «تدوين السنّة» ـ كالكثير غيره من الكتب ـ خضوعه للضغط الأيديولوجي المسبّب عن ردّة الفعل على التيار الأصولي في العالم الإسلامي، فمنذ المقدّمة وفي صفحتها الأولى (ص9) يقدّم الكاتب ثنائية العالم العربي المخيمة عليه منذ عقود (الإخوان المسلمين و…) وهي ثنائية يصبغ عليها الكاتب تسمية مؤدلجة: التيار العلمي التقدّمي ـ التيار الديني الأصولي، ويبدو الكتاب هادفاً لسلب شرعية دعوى تطبيق الشريعة، بمحاولة إفراغها عبر نقد السنّة المنقولة.

ورغم أننا نميل إلى الاعتقاد بضرورة أن لا ينعزل المثقف الديني عن الحياة السياسية الاجتماعية، إلاّ أن هذا لا يعني الخضوع أو التأثر بالمحيط العام لإسقاط أفكار أو رؤى على التراث، ولهذا كان من الأفضل تجاوز هذا المنحى لتقديم قراءة محايدة إزاء موضوع يبدو من المواضيع الشائكة للغاية، والتي تزيد أدلجتها من تعقيدها وغموضها.

 

4ـ هل المشكلة في السنّة أم في المنهج؟

لعل ما يستوقف القارئ لكتاب «تدوين السنّة» تحميله المكرّر مسؤولية الاختلاف في المدارس الفقهية للحديث الشريف، وهي مسؤولية لا يمكن إنكار تحمّل السنّة المنقولة لها بدرجة أو بأخرى، إلاّ أن الايحاء بأن مشكلة مشاكل المسلمين هي السنّة وأحاديثها المتعارضة ايحاء يتسم بالإفراط ومجانبة الاعتدال.

ولعل الكاتب لم يلتفت إلى أنّ مشكلة مشاكل المسلمين هي المنهج بالدرجة الأولى لا السنّة ولا غيرها، ولو أن إصلاحات عميقة جرت في العقل الإسلامي لربما نجح هذا العقل في تخطي إشكالية التخلّف الذي يعيشه العالم الإسلامي اليوم، ومن ثم بإمكاننا تسجيل هذه الملاحظة على الكتاب، وهي اعتقاده المستوحى من مجموعه بوحدة عامل التخلّف والانحطاط الإسلامي، والسؤال هو هل أن المنهج المدرسي في قراءة النص ـ حتى لو أقصينا السنّة عن المرجعية المعرفية والتشريعية ـ لن يفضي إلى نتائج مشابهة على صعيد الواقع الإسلامي؟ ألن يتحوّل النص القرآني نفسه إلى عقبة قد تجري المطالبة ـ كما حصل ـ باستبعادها والرجوع إلى مرجعية أخرى على الصعيد التشريعي وغيره؟

وحتى لا نحمّل الكتاب أكثر مما يتحمّل، يمكننا صياغة نقدنا على صورة مشروطة:

أـ إذا قُصد حصر المشكلات المعرفية الإسلامية بظاهرة السنّة والاعتقاد بمرجعيتها فهذا الحصر في غير محلّه، ذلك أنّ مشاكل المنهج قد تؤدي إلى إشكاليات مشابهة حتى لو جرى التعامل مع النص القرآني.

ب ـ وإذا قصد منح إشكالية السنّة الأولوية على غيرها، فإن هذا الكلام هو الآخر غير واضح؛ لأن مشاكل المنهج والعقل الإسلامي أكثر عمقاً وحساسية من السنّة، وإذا كانت إشكالياتنا نابعة من عدم منح العقل مرجعيةً فإن الأمر يتساوى فيه إلى حد ما النصان القرآني والروائي، وهو ما أدى بجماعة من الناقدين المعاصرين إلى الحديث عن تاريخية النص القرآني وغيره.

ج ـ وأما إذا كان المقصود وضع إشكالية السنّة في مصاف بقية الإشكاليات فالأمر صحيح، لكن هذا ما يستدعي تحديد العلاقة مع السنّة بشكل واضح وجلي، الأمر الذي لم يبد كذلك في كتاب «تدوين السنة» إذ لم يحدّد بشكل جلي الموقف النهائي من السنّة، فهل يراد تنحية السنة الفعلية والتقريرية فقط لصالح السنة القولية؟ أو يراد أكثر من ذلك، تنحية السنة القولية غير المعلنة على الملأ نظراً لافتقادها سمة الإلزام حينئذٍ؟ وإذا كان كذلك فهل نأخذ بالسنن القولية المعلنة أم نطرحها لوجود تعارض فيها أدى إلى بروز اختلاف بين الفقهاء؟ أو نطرحها لأنها (كما في العقوبات الجسدية) تعارض الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الأمر الذي يدفع حتى إلى الامتداد للنص القرآني نفسه (الجلد، القطع)؟…

لم يحدّد في الكتاب بالدقة الموقف النهائي، الذي يلوح ــ تخميناً ــ أنه تنحية السنة كلّياً (دون أن نجزم) والاستعاضة عن هذه المرجعية بمرجعية العقل ومنح الإعلان العالمي دوراً أكبر.

والخلاصة: إن الكتاب مطالب أكثر بتحديد موقف نهائي من السنّة، والأهم من القرآن نفسه.

 

5ـ بين التراث الإسلامي والموروث العربي

حاول الكتاب إدخال عنصر التشابه ما بين بعض الأحكام الإسلامية التي جرى تداولها في الفقه الإسلامي، والوضع السياسي ـ الاجتماعي الذي كان سائداً في العصر الجاهلي، وفي هذا السياق لم يتحدّد بشكل واضح ماذا كان يريد من ذلك؟ هل تسجيل ملاحظة على السنّة الأمر الذي يسري إلى القرآن نفسه بعد أن أقرّ الكاتب باشتماله على قضايا كانت دارجةً في العصر الجاهلي؟

وإذا لم تكن ملاحظة على السنّة فقط بل أريد منها الحديث بصورة كلّية تحاول أخذ التشريعات الإسلامية مأخذاً تاريخياً يضع أمامها العراقيل على الاستطالة للشمول للعصر الراهن، فإن هذه المحاولة بنفسها انقلاب شامل في الفقه الإسلامي قد تُبدّد أهمية البحث عن تدوين السنّة، فلا تصح أن توضع في سياق الحديث عن تدوين السنة الأمر الذي يوحي أنها مشكلة تتصل بالسنّة والأحاديث، بقدر ما يفترض أخذها عنصراً منهجياً مستقلاً غير مختلط ببقية موضوعات السنّة وإشكالياتها.

ورغم أننا لسنا في صدد الحديث عن هذا النمط من معالجة الفقه الإسلامي ودوائر صحته واستقامته، إلاّ أن تسجيل تذكير عام لا يبدو سلبياً، فمجرّد اشتراك الأحكام الإسلامية بعادات وتقاليد عربية سابقة هو تماماً كاشتراكها بما عند اليهود والنصارى في التوراة والتلمود والإنجيل، لا يدلّل ـ كما حاولـه دائماً المستشرقون وكان من أبرزهم جولدتسيهر (1850 ـ 1921م) ـ على حالات استقاء تُفرغ هذه التشريعات من قيمتها، ذلك أنّ هذا الاشتراك يحتمل التفسير الاستشراقي كما يحتمل تفسيرات اُخرى ليس آخرها ذاك التفسير الديني الذي يؤمن بوحدة الأديان في أصولها، ومن ثم فليس من البعيد أيضاً تسرّب أفكار وعادات وتشريعات من المنابع الصحيحة للأديان السماوية السابقة إلى الشعوب المختلفة عبر الزمن، ومنها عرب شبه الجزيرة الذين اختلطوا ـ وتأثروا ـ باليهود والنصارى الذين عاشوا في المدينة وغيرها، بل وأحاطوا بمركز الحجاز شمالاً في الشام وجنوباً في اليمن و… وهذا معناه أنه ليس من حقنا حصر التفسيرات بتفسير سلبي واحد، كما ليس من حقنا تفسير كل هذه الظواهر على أساس إيجابي دون ممارسة عمليات نقد داخلي تساهم وفق منهجيات مفتوحة في تكوين تصورّات لا تتّسم بطابع كلّياني ودوغمائي.

لقد أفرط كتّاب عرب من أبرزهم تركي علي الربيعو وسيد محمود القمني([46])في عمليات الربط هذه، وبدل تفسير اعتقادات خرافية على أنها ذات أصول دينية صحيحة جرى تحريفها سابقاً ولو احتمالاً، جرى العكس تماماً، إذ ذهب هذا التيار إلى إرجاع كافة المعتقدات الدينية اللاحقة إلى عقائد غير دينية كلدانية وآشورية و… وكان من الأجدى عدم استخدام منطق موحّد قائم على فرضية ذات جهة واحدة، لاسيما وأن علوماً من هذا النوع (الأسطورة مثلاً) يصعب فيها الحصول على يقين نهائي.

 

6ـ نحو قراءة للسنّة تتجاوز المناخات المذهبيّة

يبدو أنّ الكتاب كان يسلّط الضوء في سياق معالجاته الشاملة على الفقه السني ومصادر الحديث السنيّة، مثيراً نقاطاً جديرة، لكن البعض القليل من الملاحظات التي أبداها لا تكاد تعني فريقاً آخر من المسلمين، فمثلاً الحديث عن عنصر الإعلان العام في السنّة الملزمة قد يكون مفهوماً بالنسبة لمدرسة الخلافة التي كانت ترى النبي| مصدراً للتشريع، أمّا مدرسة الإمامة فيمكن إلزامها بعصر النبي والإمام علي وفترة الإمام الحسن، أما بالنسبة إلى بقية الأئمة^ فيبدو أن الحديث عن إعلان تشريعات غير منطقي تاريخياً، لأن أهل البيت^ لم يكونوا قادرين على إعلان أفكارهم بعدما تعرّضوا له من ظلم واضطهاد (لا أقل كثيرٌ منهم)، وهذا معناه أن الفرصة السانحة لهم لإعلان التشريعات الإسلامية وفق المعتقد الشيعي تبدو ضيّقة، الأمر الذي يضطرهم لاستخدام أسلوب السؤال والجواب، أو المراسلات والرسائل، أو بعض النصوص التدريسية أو…. لإيصال أفكارهم إلى الناس، وإذا ما كان الإعلان شرطاً أساسياً فهو كذلك في صورة إمكانه، أما في غير هذه الصورة فسوف تكون الوسائل المتخفيّة هي البديل دون أن نسلب نظرية الإعلان مجال التطبيق في عدد من الحالات لا مجال لتفصيلها.

ونستهدف بهذا الأنموذج، التأكيد على أنّ قراءة السنّة وموقعها ودورها، لا يتم دون تجاوز للأطر المذهبية والطائفية، لأنّ السنّة ليست صحيح البخاري ولا كتاب الكافي وإنما هي جماع التراث الذي ساهم الجميع في الحفاظ عليه، وإذا ما أردنا تحديد تقييم للسنة، فمن الضروري قراءة كل هذا النتاج لاستصدار أحكام أكثر عمومية، ومن ثم أكثر دقة وإنصافاً.

 

7ـ نقد نظرية وحدة العامل في نشوء ظاهرة اختلاف الحديث

حصر الكتاب ظاهرة الاختلاف بين الحديث بموقف سلبي أعاده إلى عدم صحّة الروايات، وكان من الأنسب ممارسة تحليل أكثر عمقاً لهذه الظاهرة الواسعة والشاملة في مصادر الحديث السنّية والشيعية، فعلى الصعيد الشيعي مثلاً ـ وفي بادرة هامّة ـ حاول السيد محمد باقر الصدر (1980م) في دراساته في علم أصول الفقه تحليل ظاهرة تعارض الأحاديث واختلافها، ذاكراً مجموعة من العوامل من بينها: 1ـ التعارض الذاتي غير الموضوعي والقائم على تصوّر معارضة لا واقع لها، (وهو أمرٌ حصل قليلاً في كتاب «تدوين السنة») 2ـ ظاهرة التقية عند أئمة أهل البيت^ 3ـ ظاهرة التدرّج في بيان الأحكام 4ـ النقل بالمعنى 5ـ ضياع القرائن 6ـ ملاحظة ظروف الراوي… مضيفاً إليها ظاهرة الدسّ والتزوير([47]).

وهذه الطريقة التي اتبعها السيد الصدر تحاول الإمساك بأكثر من عنصر لبروز ظاهرة التعارض دونما جمود على الكذب والدسّ والتزوير، أي أنها قراءة معتدلة الظن لا سيئته، إزاء تاريخ الحديث، وبهذه الطريقة يجري التروّي في الإقرار بحديث كما في الإطاحة به ورفضه، ومجرّد حشد نقاط الضعف في الحديث دون شرح لنقاط معاكسة قد يبدي الموقف مؤدلجاً أو متسرّعاً.

وإنما نقول ذلك لا رفضاً للنتيجة التي خرج بها الكاتب، بقدر ما هو بيان لحاجة الاستقصاء في معالجة كل ما يمس الحديث بصلة، لا التسرّع باتخاذ مواقف محيلين اياها إلى أسباب نمطيّة ناجزة.

إننا نقدّر الخطوات التحليلية التي قام بها الكاتب المحترم، ونرى أنّ تواصل هذه المسيرة وترشيدها يظل حاجة لتطوّر دراساتنا الفكرية والاجتهادية في الفقه الإسلامي والعلوم ذات الصلة به.


(*)نشر هذا البحث في مجلة المنهاج في بيروت، العدد 32، شتاء عام 2004م، ثم نشر في كتاب (دراسات في الفقه الإسلامي المعاصر) المجلّد الثاني، للمؤلّف.

([1])  كتاب «تدوين السنّة»، كتابٌ مؤلّف من 412 صفحة من الحجم الرقعي المتوسّط، يشتمل على أقسام ثلاثة، يعالج الأول منها والذي يحمل عنوان: «تعريف السنّة والخلافات على تدوينها» ستة فصول هي: 1ـ تعريف السنة 2 ـ النهي عن تدوين السنة 3 ـ إمساك الصحابة عن تدوين السنة 4 ـ إباحة تدوين السنة 5 ـ الكذب على النبي وأسبابه 6 ـ الاجتهاد في الفقه الإسلامي.

أما القسم الثاني (علوم الحديث) فيدرس 1 ـ علوم الحديث وأنواعها 2 ـ أنواع الحديث والخلافات حولها 3 ـ الخلافات حول صحة الحديث 4 ـ الخلاف على تعريف الصحابة 5ـ نقد الحديث من جهة المتن.

أما القسم الثالث (السنّة بعد التدوين)، فيعالج 1 ـ الأحكام الجنائية في السنّة 2 ـ أحكام العقود في السنّة 3 ـ أحكام الزواج والطلاق في السنّة 4 ـ أحكام الوصية والإرث.

ثم يختتم بخاتمة وفهرسٍ للأعلام.

والكتاب من تأليف إبراهيم فوزي، ونشر دار رياض الريّس للكتب والنشر، بيروت، الطبعة الثالثة، 2002م.

([2]) تدوين السنّة، إبراهيم فوزي، نشر رياض الريس للكتب والنشر، الطبعة الثالثة، 2002 م، ص35 ـ 36.

([3]) المصدر نفسه: 37.

([4]) المصدر نفسه: 22 ـ 23 و26 و202 ـ 203…

([5]) المصدر نفسه: 21 ـ 23 و143 و148 ـ 149 و201.

([6]) المصدر نفسه: 11 ـ 13.

([7]) المصدر نفسه: 28.

([8]) المصدر نفسه: 44 ـ 45.

([9]) المصدر نفسه: 45 ـ 46.

([10]) المصدر نفسه: 47.

([11]) المصدر نفسه: 48 ـ 54، وانظر حول تشدّد الصحابة، ص57 ـ 63.

([12]) المصدر نفسه: 68 ـ 69.

([13]) المصدر نفسه: 77 ـ 78.

([14]) المصدر نفسه: 89 ـ 90، وانظر 107 ـ 109.

([15]) المصدر نفسه: 89 ـ 106.

([16]) المصدر نفسه: 96.

([17]) المصدر نفسه: 101.

([18]) المصدر نفسه: 103 ـ 104.

([19]) المصدر نفسه: 104 ـ 105.

([20]) المصدر نفسه: 110 ـ 117.

([21]) المصدر نفسه: 117 ـ 119.

([22]) المصدر نفسه: 119 ـ 125.

([23]) المصدر نفسه: 173 ـ 181.

([24]) لمصدر نفسه: 167 ـ 173.

([25]) المصدر نفسه: 64 و293 ـ 409.

([26]) المصدر نفسه: 306.

([27]) المصدر نفسه: 307 ـ 308.

([28]) المصدر نفسه: 310.

([29]) المصدر نفسه: 313.

([30]) المصدر نفسه: 358.

([31]) المصدر نفسه: 359.

([32]) المصدر نفسه: 364 ـ 365.

([33]) المصدر نفسه: 397.

([34]) المصدر نفسه: 191 ـ 192.

([35]) المصدر نفسه: 209 ـ 212.

([36]) المصدر نفسه: 212 ـ 213.

([37]) المصدر نفسه: 182 ـ 183.

([38]) المصدر نفسه: 184.

([39]) المصدر نفسه: 219 ـ 222.

([40]) المصدر نفسه: 227 ـ 228.

([41]) المصدر نفسه: 232 ـ 261.

([42]) المصدر نفسه: 274 ـ 285.

([43]) المصدر نفسه: 267 و269 ـ 270 ـ 271، ومما ينقله المؤلّف، الحديث الذي رواه البخاريعن أبي بكرة عن النبي|: «لن يفلح قوم ولّوا أمرهم إمرأة» لما بلغه أنّ الفرس ولّوا إبنة كسرى عليهم، وينقد المؤلف هذا الحديث بصدوره من أبي بكرة بعد هزيمة عائشة زوج النبي|في معركة الجمل، مما يثير الشكوك، علاوة على أن التاريخ لم ينقل على الإطلاق أنّ الفرس فعلوا ذلك ولا في أيّ حقبة زمنية سابقة، وبعد تسجيله تساؤل الباحثة فاطمة المرنيسي: «هل كان محمد ضدّ المرأة؟»، يشرح الأثر الذي تركه هذا الحديث في الفقه الإسلامي ليحدّ من حقوق المرأة السياسية والاجتماعية، انظر ص273 ـ 274، وكذا من جملة الأحاديث عن النبي:«لا يبقى على ظهر الأرض بعد مئة سنة نفس منفوسة»، الذي يناقض التاريخ، انظر ص267 ـ269.

([44]) المصدر نفسه: 131 ـ 158، وقد درس أيضاً في هذا الفصل ظاهرة «قفل باب الاجتهاد»، وحصيلة ما يثيره الكاتب في هذا الفصل:

1ـ رفضه مقولة الإجماع واعتبارها مقولة وهمية لا يمكن تحققها (ص131 ـ 134).

2ـ القياس أسلوب قانوني استخدمه الفقهاء الفرنسيون عند فقدان النص، ثم استبدلوه ـ مع نظرية جيني ـ بالعودة إلى جوهر القانون وهو العدالة (ص135 ـ 136).

3ـ إن الاستحسان طريقة لإصلاح المفاسد الناجمة عن استخدام القياس حينما تكون النتيجة ظالمة (136).

4 ـ إن السبب في معارضة المصالح المرسلة (التي قال بها مالك) من جانب الآخرين بمن فيهم الشافعي والغزالي هو الخلط بين العبادات والمعاملات، بدعوى أنه حيث لا تعرف المصلحة من العبادات فالأمر كذلك في المعاملات (137).

5ـ إن الشيعة فتحوا باب الاجتهاد، وهو يعني اجتهاد أئمة أهل البيت^ المتواصل عبر الزمن (146)، ويبدو أن المؤلف خلط في فهم مصطلح الاجتهاد هنا بين معنيين له، وإلا فإن ما تدّعيه الشيعة هو فتح باب الاجتهاد ـ بأحد معانيه ـ في حق غير الأئمة^ وعدم حاجة الأئمة له حتى يمارسوه كما هو المشهور بينهم.

([45]) من جملة ما سجّله كمثال:

1ـ عدم موافقته على إجراء مبدأ المماثلة في العقوبة على الأطراف في عصرنا بعد تحريم الإعلان العالمي لحقوق الإنسان العقوبات الجسدية، معترفاً بالإجماع الإسلامي، ودون أن يضع حلاّ لآية ﴿السنّ بالسن﴾ (ص312 ـ 313).

2ـ رفضه مختلف انواع العقوبات على الزنا عدا الجلد مئة جلدة، تمسّكاً بالآية الكريمة، دون تفريق بين المحصن وغيره و… (ص325).

3ـ يؤكّد على مبدأ «لا عقوبة إلا بقانون»، رافضاً نظام التعزير الذي يخضع لاستنسابات القاضي والحاكم (ص334 ـ 338).

4ـ يفهم من نصوص«ولو بخاتم من حديد» أن الاسلام لم يلزم بالمهر (357 ـ 358) دون أن يشرح آية ﴿وآتوا النساء صدقاتهن نحلة﴾ التي ذكرها أيضاً، ولم يفسّر المخرج من الإلزام الوارد فيها.

5ـ يرى أن الرضاع تاريخياً مثّل ظاهرة يفصل الولد فيها عن أهله، ليعيش في كنف عائلة ثانية، كما حصل بين النبي محمد 2وحليمة السعدية، ومن ثم فالرضاع ليس مجرّد رضعات محدّدة أو إنبات لحم واشتداد عظم و… ووفقاً لذلك من الضروري إعادة النظر في كل أحكام الرضاع في الفقه الإسلامي، لنكتشف أنه لم يعد هناك اليوم من نماذج عملية لهذه الظاهرة (371 ـ 372 و374 ـ 375).

وبهذه النماذج التي أتى على ذكرها، يدرج المؤلّف نتاجه في عداد نتاجات الاتجاه التاريخاني في فهم الأحكام، وهو ما قدّمت نماذج كثيرة للغاية فيه في أوساط تيار التحديث الإسلامي بالخصوص: من نوع حصر الظهار والإيلاء بالعادات العربية، والأشهر الحرم بالوضع الخاص الذي كان يحكم حركة الحج إلى مكةً آنذاك واستتباعاً موضوع النسيئة وتغليظ العقوبة في هذه الأشهر حماية لحركة الحج وما يستتبعها من أوضاع اقتصادية في مكّة وجوارها، وكذلك موضوع الرقّية الذي ذهب بعض الفقهاء أيضاً إلى ربطه بالوضع السياسي ـ تحت عنوان التعامل بالمثل ـ وتجريده من سمات الخلود، وما ذكره البعض أيضاً في قضية اختصاص حرمة حلق اللحية وكذلك التحنّك بالمراحل الأولى من تاريخ المسلمين نظراً للحاجة إلى تميّز الجماعة الجديدة، وهكذا موضوع العاقلة في الدية الذي أحال بعضهم إلى تركيبة المجتمع الزراعي والقبلي آنذاك… وغيرها الكثير الكثير من العيّنات التي وقع ـ وما يزال ـ بحث فيها حتى داخل التيار الفقهي المدرسي من زاوية محدوديتها التاريخيّة.

([46]) انظر الإسلام وملحمة الخلق والأسطورة، والعنف والمقدّس والجنس في الميثولوجيا الإسلامية، والأسطورة والتراث وغيرها…

)1(بحوث في علم الأصول، السيد محمود الهاشمي، تقرير درس الشهيد محمد باقر الصدر، نشر مركز الغدير للدراسات الإسلاميّة، إيران، الطبعة الخامسة، 1997م، ج7: 28 ـ 41.