
التواتر بين نظرية الشهيد الصدر ومسلك المشهور
الشيخ محمود حسين محمد
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه على ما أولانا من التفقّه في الدين، والهداية إلى الحقّ المبيّن والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين حبيب إله العالمين النبيّ الأكرم والمصطفى الأمجد أبي القاسم محمّد، وعلى آله المعصومين الكرام الميامين، ولا سيّما بقيّة اللّه في الأرضين، الإمام المهديّ المنتظر عجّل اللّه فرجه الشريف.
من المباحث المهمّة في علم أصول الفقه مبحث إثبات صغرى الدليل، ومن خلال دراسة كتاب دروس في علم الأصول للعالم الربّانيّ آية اللّه العظمى السيّد الشهيد محمّد باقر الصدر قدّس سرّه يتناول هذا المبحث في الحلقة الثانية من الكتاب.
الدليل الشرعي الّذي يصدر من الشارع المقدّس، والّذي له دلالة على الحكم الشرعي ينبغي أن ندرس كيفيّة إثبات صدوره من الشارع المقدّس، وهذا الّذي يعبّر عنه بإثبات صغرى الدليل الشرعي، لذلك يجب البحث في وسائل إثبات صدور الدليل الشرعي.
قسّم الشهيد الصدر وسائل الإثبات على نحوين، الإثبات الوجدانيّ والإثبات التعبّديّ.
وفي بحث وسائل الإثبات الوجدانيّ للدليل الشرعيّ بالنسبة لغير المعاصرين (الّذين لم يعاصروا المعصومين عليهم السلام)، ذكر السيد الشهيد قدّس سرّه أهمّ ثلاثة طرق رئيسيّة الّتي من شأنها أن توجب العلم واليقين بصدور الدليل الشرعيّ من الشارع، وهم التواتر، والإجماع، وسيرة المتشرّعة، فنثبت ونحرز بهذه الطرق أنّ هذا الدليل قطعاً ويقيناً صدر من المعصوم، والاحراز الوجدانيّ هو الإحراز القطعيّ اليقينيّ بصدور الدليل من المعصوم عليه السلام.
في هذا البحث سوف نتناول أحد هذه الطرق وهو التواتر، فقد ذكر الأصوليّون الخبر المتواتر بأنّه أوضح مصاديق الخبر القطعيّ المفيد للعلم بصدور من المعصوم، ولكن هناك اختلافاً في كيفيّة إفادة الخبر المتواتر لليقين، وما هي العوامل المؤثّرة في تسريع أو إبطاء عمليّة إفادة اليقين، لذلك أفرد الشهيد الصدر بحثاً مستقلّاً في التواتر، وتناوله بشيء من التفصيل سواء في كتاب دروس في علم الأصول، أو في تقرير درسه، فقد أسّس نظريّة جديدة في مجال الكشف عن حقيقة التواتر.
والسؤال المهمّ، ما هو الفرق بين نظريّة الشهيد الصدر ومسلك المشهور في حقيقة التواتر وكيفيّة إفادته لليقين وما هي العوامل المؤثّرة في تسريع أو إبطاء عمليّة إفادة العلم، لبيان ذلك والإجابة عن هذا السؤال، سيكون البحث في ثلاثة مطالب:
المطلب الأوّل: تعريف التواتر لغة واصطلاحاً.
المطلب الثاني: مسلك المشهور في حقيقة التواتر.
المطلب الثالث: نظريّة الشهيد الصدر في حقيقة التواتر.
المطلب الأول: تعريف التواتر لغة واصطلاحا
قبل أن نُعرٍف التواتر لا بدّ من الإشارة إلى أنّ علماء الحديث يقولون إنّ الخبر ينقسم إلى خبر متواتر وخبر الواحد أو الآحاد، فقد ذُكر تعاريف لخبر الواحد، منها أنّ خبر الواحد هو الّذي لا يبلغ حدّ التواتر، سواء كان الراوي واحداً أو أكثر، وأنّ خبر الواحد هو الّذي لا يفيد العلم بنفسه، وأيضاً بأنّ خبر الواحد هو ما يفيد الظنّ وإن تعدّد المخبرون.
هذا بالنسبة للخبر الواحد، وأمّا الخبر المتواتر لغة واصطلاحاً فهو:
تعريف التواتر لغة:
التواتر لغة هو التتابع، وقيل: هو تواتر الأشياء وبينها فجوات وفترات. وقال اللحياني: تواترت الإبل والقطا: جاء بعضه في إثر بعض، ولم تجئ مصطفّة. وأوتر بين أخباره وكتبه وواترها مواترة ووتاراً: تابع، وبين كلّ كتابين فترة قليلة.
فالمستفاد؛ ممّا ذكر في تعريف التواتر: أنّه التتابع والتعاقب بين الأشياء وتراً بفاصل يسير.
والخبر المتواتر: ما تتابعت نقوله وتعاقبت والتواتر هو عبارة عن مجيء الواحد بعد الواحد بفترة بينهما وفصل.
ومنه قوله عزّ من قائل: (ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا) المؤمنون 44، أي رسولاً بعد رسول بزمان بينهما،
وعن الأصمعيّ: واترت الخبر أتبعت وبين الخبرين هُنَيهه.
يقول الشيخ المامقانيّ في مقياس الهداية: (وظاهر إطلاق التواتر لغة على التتابع من غير فترة أيضاً).
ويقول العلّامة الفضليّ في أصول الحديث: (والّذي يظهر – معجميّاً – أنّ أكثر ما يستعمل هذا الفعل في الدلالة على التتابع، يستعمل في التتابع تتخلّله فترة، إلّا أنّ المحدثين عندما نقلوه مصطلحاً على الحديث الّذي نحن بصدد تعريفه، أرادوا منه المعنى الأقلّ استعمالاً، وهو التتابع مطلقاً، ولواضع الاصطلاح أن يصطلح وفق ما تقتضيه طبيعة علمه)
تعريف التواتر اصطلاحاً:
عرف التواتر اصطلاحاً بتعريفات متقاربة من المعنى اللغويّ.
يقول الشيخ المامقانيّ في مقياس الهداية: خبر جماعة بلغوا في الكثرة إلى حدّ أحالت العادة اتّفاقهم وتواطؤهم على الكذب، ويحصل بأخبارهم العلم.
أمّا السيّد الشهيد قدّس سرّه، فقد عرًف التواتر بأنّه الإخبار الحسّيّ المتعدّد بدرجة توجب اليقين.
ما معنى الإخبار الحسّيّ؟
الإخبار الحسّيّ معناه أنّ الناقل بنفسه يسمع قول المعصوم -عليه السلام- ويرى فعله، لا أنّ شخصاً آخر أخبره بذلك، فينقل لنا المُخبر ما يسمعه أو يراه بنفسه لا نقلاً عن الآخرين، مثلاً يقول سمعت الرسول صلّى اللّه عليه وآله، أو سمعت الإمام عليه السلام.
ومعنى المتعدّد في التعريف أنّه عندنا أكثر من ناقل، فتتكوّن عندنا إخبارات متعدّدة عن شيء واحد.
المطلب الثاني: مسلك المشهور في حقيقة التواتر
بالنسبة لمسلك المشهور في حقيقة التواتر، فمن الواضح أنّ الخبر المتواتر هو من مصاديق الخبر القطعيّ الّذي يؤدّي إلى اليقين بحصول القضيّة، وكون القضيّة المتواترة فيها من الوضوح البديهيّ في أنّه موجب للعلم والجزم.
ولكنّ السؤال الّذي يتبادر في الذهن هو كيف الخبر المتواتر يفيد اليقين والجزم؟
من هنا نحاول أن نستظهر كيفيّة إفادة العلم من الخبر المتواتر من خلال تعريف الخبر المتواتر عند الأصوليّين، فقد عُرٍف التواتر في كتب الأصول والدراية بتعريفات متقاربة معنىً وإن اختلفت لفظاً، وسوف نذكر بعض هذه التعريفات:
- الشهيد الثاني: خبر جماعة يفيد بنفسه العلم بصدقه. معالم الأصول ص 255
- الميرزا القمّيّ: خبر جماعة يؤمن تواطؤهم على الكذب عادة. قوانين الأصول ص420
- الفاضل التوني: خبر جماعة بلغوا من الكثرة مبلغاً أحالت العادة تواطؤهم على الكذب. الوافية ص 157
- السيّدالگلپايگاني: إخبار جماعة لا يجوز عند العقل تواطؤهم على الكذب. عادة إفاضة العوائد ج2 ص73
- السيّد الخوئيّ: أن يكون الخبر بلفظه منقولاً بكثرة يمتنع معها تواطؤ الناقلين على الكذب. أجود التقريرات ج2 ص113
- الشيخ المظفّر: ما أفاد سكون النفس سكوناً يزول معه الشكّ، ويحصل الجزم القاطع من أجل إخبار جماعة يمتنع تواطؤهم على الكذب. وزاد في المنطق بقوله، ويمتنع اتّفاق خطئهم في فهم الحادثة. أصول الفقه وفي المنطق ج3 ص71
- الشهيد الثاني: ما بلغت رواته في الكثرة مبلغاً “، أحالت العادة تواطؤهم – أي: اتّفاقهم – على الكذب. الدراية ص62
من خلال ملاحظة هذه التعاريف نفهم أنّ العلم الحاصل من التواتر عند المشهور هو من العلم الضروريّ الأوّليّ، فهو قريب للمسلك الأرسطيّ الّذي يفسّر حصول اليقين من الخبر المتواتر اعتماداً على بعض القضايا القبليّة مثل القاعدة الّتي تقول استحالة الصدفة المطلقة يعني الصدفة لا تكون أكثريّة وليست دائمية، وهذه القاعدة تجري أيضاً في التجريبيّات، وهناك عبارات وردت في بيان كيفيّة حصول العلم من التواتر،
فمثلاً يقول العلّامة الحليّ: الحقّ: أنّ الخبر المتواتر يفيد العلم الضروريّ؛ لأنّ جزمنا بوقوع الحوادث العظام كوجود محمّد (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) وكحصول البلدان الكبار لا يقصر عن العلم بأنّ الكلّ أعظم من الجزء، وغيره من الأوّليّات. مبادئ الأصول ص 200
ويقول صاحب الجواهر: كما أنّك عرفت في الأصول استفادة العلم الضروريّ من المتواتر الّذي هو كعلم المشاهدة. الجواهر ج 41 ص 130
وعلى هذا الأساس يقول السيّد الشهيد قدس سره: إنّ القضيّة المتواترة هي الصنف الثالث من القضايا اليقينيّة الأوّليّة في رأي المنطق الأرسطيّ. الأسس المنطقيّة للاستقراء صفحة 387
فهذه القضايا هي قضايا قبليّة أوّليّة، ويعتبرها من التصديقات الأوّليّة، فيذكر التعريف الأرسطيّ للقضيّة المتواترة، فيقول بأنّه أي القضيّة المتواترة: (إخبار جماعة يمتنع تواطؤهم على الكذب)، وهذا عينه التعريف الّذي ذكره الشيخ المظفّر في كتاب المنطق. وكان المنطق الأرسطيّ يفترض تصديقاً أوّليّاً بامتناع اتّفاق عدد كبير من الناس الكذب، وهذا التصديق هو الّذي يشكّل الأساس لثقتنا بتلك الحوادث، وهو يشابه تماماً التصديق بأنّ الاتّفاق لا يكون دائميً، فكما أنّ الاتّفاق لا يكون دائميً كذلك الكذب لا يكون دائميً
فلو أردنا أن نجعل الدليل على إفادة الخبر المتواتر على طريقة البرهنة إلى قياس منطقيّ مكوّن من صغرى وكبرى، فيكون كما يلي: صغراه: (إخبار جماعة كثيرة بقضيّة معيّنة)، وكبراه: حكم عقليّ أوّليّ غير مستمدّ من تجربة سابقة (استحالة تواطؤ ذلك العدد الكثير من المخبرين على الكذب صدفة)، النتيجة: (حقّانيّة الخبر أو القضيّة المتواترة).
فالقضيّة المتواترة مستنتجة من خلال الاستدلال القياسيّ الاستنباطيّ، وفي هذا القياس النتيجة دائماً مستبطنة في المقدّمات. ولكنّ السيد الشهيد قدس سره يقول: القضيّة المتواترة في رأينا ليست إلّا قضيّة استقرائيّة تقوم على أساس المناهج الاستقرائيّة للاستدلال، كالقضايا التجريبيّة والحدسيّة فهي نتيجة للدليل الاستقرائيّ. الأسس المنطقيّة للاستقراء ص 388
السؤال: هل هناك عدد محدّد من المخبرين ليتحقّق التواتر؟
علماء الإماميّة لم يحدّدوا عدداً معيّناً ليتحقّق التواتر، بل المعتبر عندهم هو تحقّق الوصف وهو امتناع اتّفاقهم على الكذب، حيث يقول الشهيد الثاني: ولا ينحصر ذلك (يعني كثرة الرواة المفيدة للعلم) في عدد خاصّ – على الأصحّ – بل المعتبر العدد المحصّل للوصف (وهو إحالة العادة اتّفاقهم على الكذب)، فقد يحصل في بعض المخبرين بعشرة وأقلّ، وقد لا يحصل بمائه. الرعاية في علم الدراية ص ٧٢
ولكنّ العلماء من الذاهب الأخرى ذكروا الأعداد المعيّنة المشروطة، فذكروا منه:
- أن لا يقلّ عدد المخبرين عن خمسة أشخاص، لعدم إفادة خبر الأربعة العدول، العلم كما في شهود الزنا نسب هذا القول للقاضي الباقلانيّ.
- أن لا يقلّ عدد المخبرين عن عشرة، لأنّه أوّل جموع الكثرة، نسب هذا القول للإصطخريّ.
- أن لا يقلّ عدد المخبرين عن اثني عشر، وهو عدد النقباء في قوله تعالى: (وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا) المائدة: آية 12
- أن لا يقلّ عددهم عن عشرين، لقوله تعالى: (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) الأنفال: آية 65
- أن لا يقلّ العدد عن أربعين، لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) الأنفال: آية 64 حيث كانوا أربعين.
- أن لا يقلّ العدد عن سبعين، لأنّه عدّ قوم موسى (ع) كما في قوله تعالى: (وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا) الأعراف: آية 155
- أن لا يقلّ عن ثلاثة عشر وثلاثمائة، لأنّه عدد أهل بدر أو لأنّه عدد أصحاب طالوت.
وكلّ هذه الأقوال لا تخرج عن كونها استحسانات شخصيّة، علّلت بما ذكر تعليلاً لا يلتقي وطبيعة الموضوع، لما ذكرناه آنفاً من أنّ إفادة الخبر العلم لا ينضبط بعدد معيّن. يقول الشيخ المامقانيّ في مقياس الهداية: وهذه الأقوال كلّها باطلة، لأنّ كلّ واحد من هذه الأعداد قد يحصل العلم معه، وقد يتخلّف عنه، فلا يكون ضابطاً له.
المطلب الثالث: نظرية الشهيد الصدر في حقيقة التواتر
السيّد محمّد باقر الصدر قدّس سرّه اتّخذ منهجاً مختلفاً عن المشهور في مسألة حقيقة التواتر، فعرف الخبر المتواتر بأنّه: (الإخبار الحسّيّ المتعدّد بدرجة توجب اليقين)، وإفادته لليقين يكون على أساس نظريّة حساب الاحتمالات على أساس نظريّة حساب احتمالات، ولنبيّن منهج الشهيد الصدر سوف نتكلّم عن التواتر بشيء من التفصيل في بعض الموارد لكي يتّضح الفرق بين نظريّته ومسلك المشهور في إفادة التواتر لليقين والجزم.
قبل أن نشرع في بيان نظريّة السيد الشهيد قدس سره، نبيّن ما هو الفرق بين الحسّ والحدس:
الحسّ: هو أنّ المخبر ينقل ما رآه أو ما سمعه مباشرة من المعصوم عليه السلام.
الحدس: هو استنتاج أو فهم أو استنباط، فالحدس هو ما يفهمه من النصّ المنقول، وهذا الحدس ليس هو الحدس المنطقيّ، بل هو حدس بما يفهمه الفقيه.
فالأخبار الحسّيّة يجب أن تكون مصدرها من الناقل الأوّل بالحسّ بمعنى أنّه هو بنفسه يسمع الخبر، أو يرى الفعل من المعصوم مباشرة، وكلّ خبر حسّيّ منقول يوجد فيه احتمال الخطأ، وكلّ ناقل يمكن أن يصيب الواقع أو يخالفه. والمخالفة يمكن أن تكون على أساسين:
الأساس الأوّل: خطأ الناقل في نقل الخبر وعدم تعمّد الكذب.
الأساس الثاني: تعمّد الناقل الكذب لمصلحة خاصّة به أو بغيره.
ولكي نفهم كيف استفاد الشهيد الصدر قدس سره من نظريّة حساب الاحتمالات نقول: عندما نواجه خبراً معيّناً، سواء كان هذا الخبر عن واقعة حصلت أو كلام ينقل، فالناقل الأوّل يحتمل احتمالاً أنّه مخطئ أو كاذب أو مشتبه إذا لم يكن ثقة، وإذا نقل ناقل ثاني نفس الخبر أو نفس الفعل فاحتمال الخطأ والاشتباه والكذب يتضاءل واحتمال الصدق يزيد، وإذا نقل ناقل ثالث وهكذا، فحينئذ احتمال الخطأ والاشتباه والكذب يتضاءل أكثر فأكثر، ويزداد احتمال الصدق، ومع زيادة عدد الناقلين يقترب احتمال الصدق تدريجيّاً إلى أن يصل إلى اليقين، فليس من المعقول أن يأتي عشرة ناقلين، ويروون الخبر نفسه بنفس الكيفيّة فهنا احتمال الكذب يزول عند السامع تماماً، ويصل إلى درجة الصفر، فيصير عنده يقين أنّ هذا الخبر صدر من المعصوم -عليه السلام- قولاً أو فعلاً.
كيفيّة حساب الاحتمالات في الخبر المتواتر:
لو واجهنا خبر نقل من مجموعة ناقلين، فنحسب قيمة احتمال المخالفة وقيمة احتمال المطابقة للواقع لكي يحصل لنا العلم بذلك بناء على نظريّة التوالد الذاتيّ كما يعبّر عنه الشهيد الصدر قدس سرّه.
فلو افترضنا أنّ المخبر الأوّل احتمال مخالفته للواقع بنسبة خمسين بالمئة والمخبر الثاني احتمال مخالفته بنفس النسبة والمخبر الثالث كذلك.
فإذا كنّا نريد أن نحسب قيمة الاحتمال، ننظر إلى احتمال مخالفة كلّ مخبر لا إلى احتمال إصابته للواقع، فإذا كان احتمال مخالفة الواقع للمخبر الأوّل خمسين بالمئة؛ وهكذا الثاني والثالث، فنضرب احتمال المخالفة للأوّل مع احتمال المخالفة للثاني واحتمال المخالفة للثالث والنتيجة ننقصها من احتمال المطابقة للواقع، وكلّما زاد عدد المخبرين تتضاءل نسبة احتمال المخالفة أكثر فأكثر، حتّى تصل إلى درجة قريبة إلى الصفر، ونقول قريبة إلى الصفر؛ لأنّ رياضيّاً ضرب الكسور لا يوصلك إلى الصفر، فنصل إلى درجة صغيرة من احتمال المخالفة للواقع والعقل البشريّ لا يهتمّ إلى الاحتمالات الصغيرة جدّاً في بعض الموارد، ويتعامل معها كأنّها غير موجودة، وهذا على حسب المورد؛ لأنّ هناك موارد يهتمّ بها.
وعليه إذا أردنا أن نحسب احتمال مطابقة الواقع، أوّلاً يجب أن ننظر إلى احتمال المخالفة، لأنّ من خلال حساب قيمة احتمال مخالفة الواقع نحدّد قيمة احتمال مطابقة الواقع، باعتبار أنّ هناك علاقة عكسية بين الاحتمالين، فكلّما تضاءل احتمال المخالفة ازداد احتمال المطابقة.
فالقيمة الكلّيّة لاحتمال المخالفة وهي نتيجة ضرب احتمال المخالفة للمخبرين جميعهم ناقص قيمة المطابقة للواقع وهو واحد تعطينا نتيجة المطابقة، وكلّما كثرت الروايات يتضاءل احتمال المخالفة.
فالتواتر عند السيّد الشهيد قدّس سرّه هو عدد الاختبارات الّتي يزول معها احتمال مخالفة الواقع عمليّاً أو واقعيّاً، والمقصود من عمليّاً هو أن يصل إلى درجة صغيرة جدّاً بحيث أنّ الذهن البشريّ لا يهتمّ به، والمقصود من واقعيّ هو أن يصل هذا الاحتمال إلى درجة الصفر.
بناء على مسلك السيّد الشهيد قدّس سرّه الّذي يأخذ بنظريّة حساب الاحتمالات لا نحتاج إلى تحديد العدد، فالعدد لا دلالة له في التواتر، فيمكن من خلال أيّ عدد أتحصل على اليقين، فقد يأتي ثلاثة مخبرين، وينقلون حادثة معيّنة، ويصبح عندنا يقين بمطابقة الواقع، وقد يأتي عدد أكثر من ذلك بكثير، ولكن لا يكفّون لأن يحصل عندنا علم، ويقين بمطابقة الواقع، ومن هنا تأتي مسألة صفات المخبرين وحالهم وما يتميّزون به.
فنسأل هنا، إذا كان العدد ليس له دلالة في حصول العلم واليقين، فما هي العوامل الّتي لها الدلالة في حصول اليقين من التواتر؟ نقول نعم العدد له دلالة، ولكن ليس هو العامل الوحيد في حصول اليقين
أهمّ العوامل الدخيلة في حصول اليقين ثلاثة عوامل:
العامل الأوّل: هو كمّيّة المخبرين (عدد المخبرين). وهذا العامل ليس هو العامل الوحيد الّذي يؤدّي إلى حصول اليقين.
العامل الثاني: نوعيّة المخبرين. فيلاحظ أوصاف وأحوال المخبرين من جهة قربهم من المعصوم أو بعدهم، هل المخبر ثقة أو غير ثقة، هل ضبطه للرواية جيّد وهكذا، فنسبة احتمال موافقة الواقع أو المخالفة لكلّ مخبر يختلف في حسبه.
العامل الثالث: خصائص المُخبَر عنه (مضمون ومفاد الخبر) فالنظر هنا إلى المتن، مثلاً لو أخبر مُخبِر عن فضائل الأئمّة -عليهم السلام- في ظروف صعبة مثل أن يكون في عصر بنو أمّيّة، فعندك نسبة أكبر أنّ هذا الراوي لا يكذب؛ لأنّه نقل الرواية في ظرف صعب، فيتكوّن احتمال الصدق وموافقة الواقع أكبر.
للمُخبَر عنه خصائص أيضاً، ذكر العلماء أنّ للمخبر عنه خصائص، وهذه الخصائص تنقسم إلى قسمين، خصائص عامّة وخصائص نسبيّة.
القسم الأوّل: خصائص عامّة
هنا النظر إلى خصوصيّة المعنى دون النظر إلى المُخبِر الّذي نقل الخبر، بمعنى ما هي القيمة الاحتماليّة لمطابقة الواقع بغضّ النظر من هو ناقل الخبر، فمثلاً لو كان الخبر غريباً من حيث المضمون فقيمة احتمال مطابقته للواقع ضئيلة جدّاً، لأنّ الناس عادة لا يصدّقون الأخبار الغريبة بسهولة، حتّى لو كان الراوي للخبر ثقة.
القسم الثاني: خصائص نسبيّة
هنا يكون النظر إلى الخبر أيضاً، ولكن مع ملاحظة المُخبِر، بمعنى النظر إلى المتن والسند، فمثلاً إذا أتى شخص من المخالفين ونقل فضيلة لأهل البيت -عليهم السلام- أو نقل ما يدلّ على إمامة أمير المؤمنين عليّ عليه السلام، فهذا الخبر بلحاظ المخبر المخالف يعطينا قيمة احتمال مطابقة للواقع أكثر من قيمة احتمال فيما لو كان الناقل للخبر شخص موّال لأهل البيت.
والمثال الّذي يذكر في اجتماع الخصوصيّتين العامّة والنسبيّة هو إذا نقل غير الموالي رواية في فضائل أهل البيت -عليهم السلام- في عصر بني أمّيّة.
أنواع الخبر المتواتر:
التواتر اللفظيّ: التواتر اللفظيّ هو أن تكون الأخبار جميعها بنفس الألفاظ فهنا النظر إلى اللفظ، فيوجد اتّحاد بين اللفظ واتّحاد في المعنى.
التواتر المعنويّ: التواتر المعنويّ هو الأخبار الّتي تختلف في ألفاظها، ولكن هناك اتّحاداً في المعنى والمضمون، فهنا النظر إلى المعنى.
التواتر الإجماليّ: التواتر الإجماليّ هناك اختلاف في الألفاظ وأيضاً اختلاف في المعاني، ولكن يوجد لوازم لهذه الأخبار متّفق عليه في جميعها فعندنا لازم وملزوم، فيكون الاتّحاد فقط في اللازم المنتزع من هذه الروايات.
فمثلاً الروايات الّتي ينتزع منها شجاعة الإمام أمير المؤمنين -عليه السلام- فاللازم في هذه الروايات هي الشجاعة من الرغم كلمة الشجاعة لم تذكر في هذه الروايات.
جرت عادة المناطقة على القول إنّ مناط ومعيار الصدق في القضايا هو المطابقة مع الواقع، فالقضيّة إذا طابقت الواقع هي صادقة، وإذا لم تطابق الواقع فهي كاذبة وهنا الكلام عن جمل خبريّة وهي القضيّة عند المناطقة الّتي هي قابلة للصدق أو الكذب، فمعيار حكمنا على القضيّة هو المطابقة أو عدم المطابقة للواقع.
ولكن هناك فرقاً بين الاعتقاد والواقع، فقيمة الصدق في القضيّة أو الجملة الخبريّة قيمة ثنائيّة إمّا أن تكون صادقة أو كاذبة، فلا يوجد احتمال ثالث، على حسب مطابقتها للواقع أو عدم مطابقتها، فهنا لا نتكلّم عن الاعتقاد فلا دخالة للاعتقاد في هذه القضيّة المنطقيّة الّتي تخبرنا عن شيء، ولكن في الاعتقاد أو كما يعبّر عنه السيّد الشهيد بدرجة الاعتقاد في بعض الجمل الخبريّة تعتمد على نوع هذه القضيّة، ففي القضايا البديهيّة عادة يكون الاعتقاد على نحو البداهة، ويصدق بها العقل لذاتها كما هي الأوّليّات، بأن يكون تصوّر الطرفين مع توجّه النفس إلى النسبة كافياً في الحكم والجزم بصدق القضيّة كاستحالة اجتماع النقيضين.
الدليل الاستقرائيّ في مرحلة التوالد الموضوعيّ والتوالد الذاتيّ:
حسب منهج السيّد الشهيد الصدر قدّس سرّه الّذي سمّاه بالمذهب الذاتيّ في المعرفة الدليل، فإنّ الدليل الاستقرائيّ يمرّ بمرحلتين، مرحلة التوالد الموضوعيّ ومرحلة التوالد الذاتيّ.
أوّلاً: مرحلة التوالد الموضوعيّ: هذه المرحلة هي مرحلة استنباطيّة من الدليل الاستقرائيّ، لأنّ الدليل في هذه المرحلة يمارس عمليّة استنباطيّة عقليّة، وفي هذه المرحلة ينمّي احتمال التعميم الاستقرائيّ، ويصل به إلى أعلى درجة من درجات التصديق الاحتماليّ، من خلال تراكم القيم الاحتماليّة.
الشهيد الصدر قدّس سرّه يقول إنّ الاستقراء يمكنه أن ينمّي قيمة احتمال التعميم، ويرتفع به إلى درجة عالية من التصديق من خلال افتراض علم إجماليّ على نحو يكون هناك عدد كبير من أطراف العلم الإجماليّ، ويجب أن تكون هذه الأطراف مستلزمة للقضيّة الاستقرائيّة، فتصبح هذه القضيّة محوراً لعدد من القيم الاحتماليّة بقدر عدد الأطراف، فنموّ القيم الاحتماليّة للقضيّة الاستقرائيّة مطّرداً مع نموّ الاستقراء وامتداده.
وقبل أن يطبّق الاستقراء يعتمد على مجموعة من القضايا القبليّة من قبيل السببيّة العامّة واستحالة الصدفة المطلقة وغيرها من القضايا القبليّة الّتي ذكرها في كتاب الأسس المنطقيّة للاستقراء.
ولكنّ مرحلة التوالد الموضوعيّ لا يؤدّي إلى اليقين بالتعميم الاستقرائيّ، وإنّما تعطينا قيمة احتماليّة كبيرة لدرجة التصديق بذلك التعميم.
ثانياً: مرحلة التوالد الذاتيّ: هي مرحلة الّتي في يتوالد درجة اليقين والجزم في النفس، سواء كانت هناك مبرّرات موضعيّة أو لا، وفي هذه المرحلة يرتفع درجة التصديق في النفس مع ارتفاع درجة الاحتمال من خلال المبرّرات الموضوعيّة وتطابقها مع بعضها إلى أن يصل درجة مرتفعة من درجات اليقين.
السؤال: هل هذه القيمة الاحتماليّة الكبيرة الّتي تنمو في مرحلة التوالد الموضوعيّ تتحوّل إلى اليقين في مرحلة التوالد الذاتيّ أم لا؟
والجواب نعم يجب أن تتحوّل إلى يقين في مرحلة التوالد الذاتيّ بشرط أن تتطابق القيمة الاحتماليّة في مرحلة التوالد الموضوعيّ مع القضيّة الّتي تعلق بها اليقين.
لذلك قسّم السيّد الشهيد اليقين إلى ثلاثة معان: اليقين المنطقيّ أو الرياضيّ، اليقين الموضوعيّ، واليقين الذاتي:
أوّلاً: اليقين المنطقيّ: وهو اليقين المركّب من يقينين، الأوّل هو اليقين والجزم بالقضيّة، والثاني هو العلم واليقين بأنّ من المستحيل أن تكون القضيّة بالشكل الّذي علم. يعني العلم بصدق القضيّة والعلم باستحالة كذب هذه القضيّة، ومثال ذلك لو قلنا كلّ إنسان فان فالقضيّة أنّ سقراط فان صادقة قطعاً، واليقين بالقضيّة الثانية يكون يقيناً مركّباً طالما افترضا صدق القضيّة الأولى؛ لأنّها لازمة لزوماً ضروريّاً بالقضيّة الثانية، فهناك تلازم منطقيّ بين القضيّتين، وحتّى في القضيّة الواحدة، حين يكون ثبوت المحمول للموضوع ثبوتاً ضروريّاً، فعلمنا مثلاً بأنّ الخطّ المستقيم أقرب مسافة بين نقطتين، فيعتبر عند المنطق الأرسطيّ للبرهان هذا يقيناً؛ لأنّنا نعلم من المستحيل أن لا يكون الخطّ المستقيم أقرب مسافة بين نقطتين. وهكذا في البرهان الّذي يعتمد على نحو أساسي على الأقيسة.
ثانياً: اليقين الذاتيّ: هو الاعتقاد والجزم بقضيّة من القضايا بأعلى درجة ممكنة، سواء كانت هناك مبرّرات موضوعيّة، أو لا توجد هناك مبرّرات موضوعيّة، لأنّ هذا النوع من اليقين يعتمد على حيثيّات ذاتيّة نفسيّة، وليس حيثيّات موضوعيّة، ولا يرجع إلى الإدراك والحسّ والأمور الخارجيّة، بل يرجع إلى خصائص ذاتيّة راجعة للمعتقد نفسه، فهو يقين نفسيّ، ومثال ذلك لو أراد شخص أن يلقي العملة المعدنيّة، ويجزم أنّ الوجه الّذي سوف يظهر هو الوجه الّذي فيه الصورة، فهذا اليقين هو يقين ذاتيّ؛ لأنّ هناك رغبة واعتقاداً ذاتيّاً عنده بأنّ الّذي سوف يظهر عند رمي العملة المعدنيّة هو الوجه الّذي فيه الصورة، وهذا الجزم ليس مرتكزاً على مبرّرات موضوعيّة، لأنّ المبرّرات الموضوعيّة تقول إنّ احتمال أن يظهر الوجه الّذي فيه الصورة هو 1/2؛ لأنّ للعملة وجهين، ولا يمكن الجزم عند رمي العملة أنّ الوجه الّذي فيه الصورة هي الّتي سوف يظهر.
ثالثاً: اليقين الموضوعيّ: هو الاعتقاد والجزم بقضيّة من القضايا بأعلى درجة ممكنة بحيث تكون هذه الدرجة متطابقة مع الدرجة الّتي تفرضها الشواهد والمبرّرات الموضوعيّة، بمعنى نفس المبرّرات الموضوعيّة والقرائن والشواهد تفرض هذه الدرجة من الاعتقاد والجزم، فيمكن أن يكون هناك درجات لليقين الموضوعيّ تتناسب مع ما تفرضه المبرّرات الموضوعيّة، فنفس مثال قطعة النقد عند رميها تفرض المبرّرات الموضوعيّة أنّ احتمال أن يظهر أحد الوجهين هو 1/2.
فالشهيد الصدر -رحمه اللّه-يميّز بين القضيّة الّتي تعلق بها اليقين ودرجة الاعتقاد الّتي يمثّلها ذلك اليقين أمكننا أن نلاحظ أنّ هناك نوعين ممكنين من الصدق والكذب في المعرفة البشريّة، أحدهما الصدق والكذب في اليقين من الناحية القضيّة نفسها، وهذا راجع إلى تطابق القضيّة الّتي تعلق بها اليقين مع الواقع أو عدم تطابقها، والثاني هو الصدق والكذب من ناحية الدرجة الّتي تمثّلها القضيّة من درجات التصديق، فقد يكون اليقين مصيباً وكاشفاً عن الواقع من ناحية القضيّة نفسها، ولكنّه مخطئ في درجة التصديق الّتي يمثّلها، فالسيّد يميّز بين القضيّة ودرجة الاعتقاد بالقضيّة ومثال ذلك، فإذا تسرّع أراد شخص عندما يلقي قطعة النقد، فجزم أنّ الّذي سوف يظهر هو وجه الصورة نتيجة لرغبته بذلك، وظهر نتيجة لذلك فإنّ هذا الجزم واليقين المسبق يعتبر صحيحاً وصادقاً من ناحية القضيّة الّتي تعلق بها اليقين، وهذا يقين ذاتيّ، وليس يقيناً موضوعيّاً، ولكن من حيث تطابق القضيّة مع الواقع هي قضيّة مطابقة للواقع وهي قضيّة صادقة، ولكن يعتبر ذلك يقيناً خاطئاً من ناحية درجة التصديق الّتي اتّخذها بصورة مسبقة؛ لأنّه لم يكن من حقّه أن يعطي درجة للتصديق للقضيّة أنّ وجه الصورة سوف يظهر أكبر من الدرجة الّتي يعطيها التصديق بالقضيّة الأخرى أنّ وجه الكتاب سوف يظهر، وهذا يعني أنّه خالف المبرّرات الموضوعيّة وهي أنّ احتمال أن يظهر وجه الصورة وهو 50%، فدرجة الاعتقاد كان خاطئاً.
وعليه، فليس من الضروريّ أن تكون جميع اعتقاداتنا يقينيّة وجزميّة دائماً 100%، فهي درجات من الاعتقاد، فمن الممكن أن تفرض المبرّرات والشواهد الموضوعيّة اليقين بدرجة عالية فهنا دخلنا في مجال اليقين الموضوعيّ، وليس بدرجة اليقين الرياضيّ.
فالتمييز بين اليقين الذاتيّ والموضوعيّ هو أنّ الذاتيّ هو اليقين بأعلى درجة ممكنة، سواء كانت هناك مبرّرات موضوعيّة أم لا، واليقين الموضوعيّ هو اليقين بأعلى درجة ممكنة بشرط أن تكون مطابقة مع الدرجة الّتي تفرضها المبرّرات الموضوعيّة، فيمكن أن يوجد يقين ذاتيّ، ولا يوجد يقين موضوعيّ كما ذلك الشخص الّذي يرمي قطعة النقد، ويجزم مسبقاً بأنّ وجه الصورة سوف يظهر، وقد يوجد يقين موضوعيّ، ولا يوجد يقين ذاتيّ بمعنى أنّ المبرّرات الموضوعيّة وصلت إلى درجة الجزم، ولكنّ إنساناً معيّناً لا يجزم فعلاً؛ نظراً لظروف خاصّة غير طبيعيّة. فلا بدّ أن يتطابق اليقين الموضوعيّ مع اليقين الذاتيّ لكي يكون الجزم ثابتاً.
السيّد الشهيد قدس سره ابتكر منهجاً جديداً للدليل الاستقرائيّ في نظريّة الاحتمال القائم على حساب الاحتمالات، وقد حدّد هذا المنهج في خمس خطوات:
الخطوة الأولى: وهو أنّنا نواجه في حياتنا، وفي مجال الحسّ والتجربة ظواهر وشواهد عديدة، فنجمعها وملاحظتها.
الخطوة الثانية: بعد جمع هذه الظواهر والشواهد وملاحظتها ننتقل إلى مرحلة تفسيرها، والمطلوب هنا أن نجد فرضيّة صالحة لتفسير هذه الظواهر وتبريرها جميعاً، ونقصد بأنّ هذه الفرضيّة صالحة أنّ هذه الظاهر إذا كانت واقعيّة في تستبطن هذه الفرضيّة.
الخطوة الثالثة: نلاحظ أنّ هذه الفرضيّة إذا لم تكن صحيحة وثابتة في الواقع، فرصة وجود هذه الظواهر كلّها مجتمعة ضئيلة جدّاً، فلا يمكن تفسير وجود جميع هذه الظواهر إلّا من خلال هذه الفرضيّة الصالحة.
الخطوة الرابعة: نستخلص من ذلك أنّ الفرضيّة صادقة ودليل صدقها هي وجود تلك الظواهر الّتي تتبعناها ولاحظناها وجمعناها في الخطوة الأولى.
الخطوة الخامسة: إنّ درجة إثبات تلك الشواهد والظواهر للفرضيّة المطروحة تتناسب عكسيّاً مع نسبة احتمال وجودها جميعاً إلى نسبة احتمال عدمها، على افتراض كذب الفرضيّة، فكلّما كانت نسبة الكذب أقلّ كانت درجة الإثبات أكبر بحيث في الكثير من الحالات الاعتياديّة نصل إلى درجة اليقين الكامل بصحّة الفرضيّة، فالنسبة بين درجة احتمال الصدق واحتمال الكذب هي نسبة عكسيّة.
السؤال الّذي يمكن أن يطرح، هل يمكن تطبيق هذه الخطوات على القضيّة المتواترة؟
الجواب: نعم يمكن تطبيق ذلك، ولكن من خلال حساب الاحتمالات حسب الحالات والأشكال الّتي ذكرها السيد الشهيد قدس سره (يمكن مراجعة كتاب الأسس المنطقيّة للاستقراء).
نطبق بشكل مبسّط منهج الدليل الاستقرائيّ حسب الخطوات الخمس على الخبر المتواتر، فمثلاً:
الخطوة الأولى: نواجه مجموعة أخبار كلّها تنصبّ في موضوع واحد من مخبرين متعدّدين، فنجمع هذه الأخبار المتكثّر، ونلاحظ الموضوع نفسه الّتي تشترك فيها جميع هذه الأخبار وأيضاً نلاحظ المخبرين وخصوصيّاتهم.
الخطوة الثانية: بعد جمع هذه الأخبار نفترض أنّ القضيّة المشتركة في الأخبار جميعهم الّتي ذكرها المخبرون هي القضيّة الصالحة وهي مطابقة للواقع، وتبرّر نقل جميع هذه الأخبار من المخبرين.
الخطوة الثالثة: نلاحظ أنّه لو لم تكن هذه القضيّة المتواترة صحيحة وثابتة ومطابقة للواقع ففرصة صدق كلّ هذه الإخبارات ضئيلة جدّاً، ولا يمكن اجتماع هذه الإخبارات صدفة أو المخبرين جميعهم اتّفقوا على الكذب، واحتمال عدم مطابقة الواقع سواء خطئاً أو شبهة أو كذباً، فبحساب الاحتمالات مع ملاحظة احتماليّة مطابقة الواقع أو عدمه في خبر كلّ مخبر تتضاءل احتمال مخالفة الواقع.
الخطوة الرابعة: نستخلص أنّ القضيّة صادقة بدليل وجود جميع تلك الاختبارات مع ملاحظة نفس الخبر والمخبرين وخصوصيّاتهم بحساب احتمالات.
الخطوة الخامسة: درجة إثبات تلك الإخبارات لفرضيّة أنّ الخبر مطابق للواقع تتناسب عكسيّاً مع نسبة وجودها إلى نسبة عدمها، فكلّما كانت نسبة الكذب أقلّ كانت درجة الإثبات أكبر بحيث في الكثير من الحالات الاعتياديّة نصل إلى درجة اليقين الكامل بصحّة الخبر مع ملاحظة بقيّة العوامل المؤثّرة.
الخاتمة
يمكن أن نستخلص من هذا البحث المختصر ما يلي:
- السيد الشهيد قدًس سره يرى أنّ القضيّة المتواترة هي قضيّة استقرائيّة تقوم على أساس المناهج الاستقرائيّة للاستدلال، كالقضايا التجريبيّة والحدسيّة فهي نتيجة للدليل الاستقرائيّ عن طريق حساب الاحتمالات.
- إنّ العلم الحاصل من التواتر عند المشهور هو من العلم الضروريّ الأولى اعتماداً على بديهيّة امتناع اتّفاق عدد كبير من الناس الكذب أو الخطأ.
- علماء الإماميّة لم يحدّدوا العدد الّذي من خلاله يتحقّق التواتر المفيد للعلم، فيمكن أن يتحقّق التواتر حتّى بثلاثة مع توفّر الشروط الّتي ذكرناها في البحث.
- بعض علماء المذاهب الأخرى حدّدوا عدداً معيّناً لتحقّق التواتر، ولكن لا دليل على هذه الأعداد سوى الاستحسان.
- السيد الشهيد قدس سره استفاد من نظريّة الاحتمال في علم الأصول، فأدخل نظريّة الاحتمال في العلوم الدينيّة، وهذا يدلّ على إمكان الاستفادة من بعض العلوم الحديثة في تطوّر علم الأصول والعلوم الدينيّة.
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على محمَّد واله الطيبين الطاهرين، والله سبحانه وتعالى العالم بالصواب والموفِّق إليه.
المراجع والمصادر
- المظفر، الشيخ محمد رضا. أصول الفقه. الطبعة الثالثة 1430 مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، الجزء 2 صفحة 60.
- المظفر، الشيخ محمد رضا. أصول الفقه. الطبعة الثالثة 1427 دار التعارف للمطبوعات، صفحة 276.
- الشهيد الصدر، السيد محمد باقر الصدر. الأسس المنطقية للاستقراء. الطبعة الخامسة 1406، دار التعارف للمطبوعات، صفحة 322-، 387-388
- الشهيد الصدر، السيد محمد باقر الصدر. دروس في علم الأصول الحلقة الثانية. الطبعة الأولى 1433، العارف للمطبوعات، صفحة 276-278
- الشهيد الصدر، السيد محمد باقر الصدر. المرسل الرسول الرسالة. طبعة سنة 1412، دار التعارف للمطبوعات، صفحة 23-25.
- الشهيد الثاني، الشيخ زين الدين بن علي العاملي. الرعاية في علم الدراية. الطبعة الثانية 1408 – مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي -قم المقدسة- صفحة
- السيد الخوئي، أبو القاسم بن علي أكبر بن هاشم تاج الدين الموسوي. أجود التقريرات المؤلف: تقرير بحث النائيني، الطبعة الثانية ،١٣٦٩ مطبعة أهل البيت عليهم السلام، الجزء الثاني، الصفحة 114-115.
- ابن منظور، محمد بن جلال الدين. لسان العرب. المكتبة الإسلامية الالكتروني. جزء 5 الصفحة 275.
- الصنقور، شيخ محمد الصنقور البحراني. شرح الحلقة الثانية. الطبعة الثانية 1424. دار المجتبى. الصفحة 359-364.
- صاحب الجواهر، الشيخ محمد حسن. جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام، الطبعة السابعة، ناشر: دار إحياء التراث العربي بيروت، المجلد 41 صفحة 130.
- المامقاني، الشيخ عبد الله محمد المامقاني. مقباس الهداية في علم الدراية. الجزء الأول. طبعة الكترونية من مكتبة مدرسة الفقاهة. صفحة 79-85، 109.
- الآخوند الخراساني، الشيخ محمد كاظم الخراساني. كفاية الأصول. مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، طبعة الكترونية. الصفحة 292.
- الفضلي، الشيخ عبد الهادي الفضلي. أصول الحديث. مؤسسة أم القرى للتحقيق والنشر. الطبعة الثانية 1416، الصفحة 71-81.
- العلامة الحلي، الحسن بن يوسف بن مُطهّر الحلي. مبادئ الوصول إلى علم الأصول. مطبعة مكتب الاعلام الاسلامي، طبعة الكترونية. الصفحة 199-200.
- بحث منشور في موقع مركز الأبحاث والدراسات التخصصية للشهيد الصدر للباحث الشيخ حامد الظاهري https://mbsadr.ir/ar/2021/12/21