Search
Close this search box.
logo_black

التصور ومصدره الأساسي في نظرية المعرفة – 2

ـ النظريات العقلية:

وهي لعدّة من كبار فلاسفة أوروبا كـ‍ (ديكارت [راجع: مدخل إلى فلسفة ديكارت: 109 ـ 114]) و(كانت [راجع: زكريا إبراهيم، كانت أو الفلسفة النقديّة: 46 ـ 82]) وغيرهما. وتتلخّص هذه النظرية في الاعتقاد بوجود منبعين للتصوّرات:

أحدهما: الإحساس، فنحن نتصوّر الحرارة والنور والطعم والصوت ؛ لأجل إحساسنا بذلك كلّه.

والآخر: الفطرة، بمعنى: أنّ الذهن البشري يملك معانٍ وتصوّرات لم تنبثق عن الحسّ وإنّما هي ثابتة في صميم الفطرة، فالنفس تستنبط من ذاتها. وهذه التصوّرات الفطرية عند (ديكارت) هي فكرة (الله والنفس والامتداد والحركة) وما إليها من أفكار تتميّز بالوضوح الكامل في العقل البشري. وأمّا عند (كانت) فالجانب الصوري للإدراكات والعلوم الإنسانية كلّه فطري بما يشتمل عليه من صورتي الزمان والمكان والمقولات الاثنتي عشر المعروفة عنه.

فالحسّ على أساس هذه النظرية مصدر فهم للتصوّرات والأفكار البسيطة، ولكنّه ليس هو السبب الوحيد، بل هناك الفطرة التي تبعث في الذهن طائفة من التصوّرات.

والذي اضطرّ العقليين إلى اتخاذ هذه النظرية في تعليل التصوّرات البشرية، هو أنهم لم يجدوا لطائفة من المعاني والتصوّرات مبرراً لانبثاقها عن الحسّ ؛ لأنّها معانٍ غير محسوسة، فيجب أن تكون مستنبطة للنفس استنباطاً ذاتياً من صميمها. ويتّضح من هذا: أنّ الدافع الفلسفي إلى وضع النظرية العقلية يزول تماماً إذا استطعنا أن نفسر التصوّرات الذهنية تفسيراً متماسكاً من دون حاجة إلى افتراض أفكار فطرية.

ولأجل ذلك يمكننا تفنيد النظرية العقلية عن طريقين:

أحدهما: تحليل الإدراك تحليلاً يرجعه برمته إلى الحسّ وييسر فهم كيفية تولد التصوّرات كافة عنه. فإن مثل هذا التحليل يجعل نظرية الأفكار الفطرية بلا مبرر مطلقاً ؛ لأنها كانت ترتكز على فصل بعض المعاني عن مجال الحسّ فصلاً نهائياً، فإذا أمكن تعميم الحسّ لشتى ميادين التصوّر لم تبق ضرورة للتصوّرات الفطرية، وهذا الطريق هو الذي اتخذه (جون لوك) للرد على (ديكارت) ونحوه من العقليين، وسار عليه رجال المبدأ الحسّي مثل (باركلي) و (دافيد هيوم) بعد ذلك.

والطريق الآخر: هو الأُسلوب الفلسفي للرد على التصوّرات الفطرية ويرتكز على قاعدة: أن الآثار الكثيرة لا يمكن أن تصدر عن البسيط باعتباره بسيطاً، والنفس بسيطة فلا يمكن أن تكون سبباً بصورة فطرية لعدّة من التصوّرات والأفكار، بل يجب أن يكون وجود هذا العدد الضخم من والإدراكات لدى النفس بسبب عوامل خارجية كثيرة، وهي آلات الحسّ وما يطرأ عليها من مختلف الأحاسيس(1).

ونقد هذا البرهان بصورة كاملة يتطلّب منّا أن نشرح القاعدة التي قام على أساسها، ونعطي إيضاحاً عن حقيقة النفس وبساطتها، وهذا ما لا يتّسع له مجالنا الآن، ولكن يجب أن نشير:

أوّلاً: إلى أنّ هذا البرهان ـ إذا أمكن قبوله ـ فهو لا يقضي على نظرية الأفكار الفطرية تماماً لأنه إنما يدلل على عدم وجود كثرة من الإدراكات بالفطرة، ولا يبرهن على أنّ النفس لا تملك بفطرتها شيئاً محدوداً من التصوّرات يتّفق مع وحدتها وبساطتها، وتتولّد عنه عدّة أُخرى من التصوّرات بصورة مستقلّة عن الحسّ.

ونوضّح ثانياًً ـ أنّ النظرية العقلية إذا كانت تعني وجود أفكار فطرية بالفعل لدى النفس الإنسانية أمكن للبرهان الذي قدمناه أن يرد عليها قائلاً: إنّ النفس بسيطة بالذات، فكيف ولّدت ذلك العدد الضخم من الأفكار الفطرية ؟! بل لو كان العقليون يجنحون إلى الإيمان بذلك حقّاً لكفى وجداننا البشري في الردّ على نظريتهم ؛ لأنّنا جميعاً نعلم أنّ الإنسان لحظة وجوده على وجه الأرض لا توجد لديه أيّة فكرة مهما كانت واضحة وعامّة في الذهنية البشرية (وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مّن بُطُونِ أُمّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شيئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلّكُمْ تَشْكُرُونَ)[ النحل: 78].

ولكن يوجد تفسير آخر للنظرية العقلية، ويتلخّص في اعتبار الأفكار الفطرية موجودة في النفس بالقوّة، وتكتسب صفة الفعلية بتطوّر النفس وتكاملها الذهني. فليس التصوّر الفطري نابعاً من الحسّ، وإنّما يحتويه وجود النفس لا شعورياً، وبتكامل النفس يصبح إدراكاً شعورياً واضحاً، كما هو شأن الإدراكات والمعلومات التي نستذكرها فنثيرها من جديد بعد أن كانت كامنة وموجودة بالقوّة.

والنظرية العقلية على ضوء هذا التفسير لا يمكن أن تردّ بالبرهان الفلسفي أو الدليل العلمي السابق ذكرهما.

 

ـ النظرية الحسّية:

وهي النظرية القائلة: إنّ الإحساس هو المموِّن الوحيد للذهن البشري بالتصوّرات والمعاني، والقوّة الذهنية هي القوّة العاكسة للإحساسات المختلفة في الذهن. فنحن حين نحسّ بالشيء نستطيع أن نتصوّره ـ أي: أن نأخذ صورة عنه في ذهننا. وأمّا المعاني التي يمتدّ إليها الحسّ، فلا يمكن للنفس ابتداعها وابتكارها ذاتياً وبصورة مستقلّة.

وليس للذهن بناء على هذه النظرية إلاّ التصرّف في صور المعاني المحسوسة، وذلك بالتركيب والتجزئة: بأن يركّب بين تلك الصور أو يجزّئ الواحدة منها، فيتصوّر جبلاً من ذهب أو يجزّئ الشجرة التي أدركها إلى قطع وأجزاء. أو بالتجريد والتعميم: بأن يفرز خصائص الصورة ويجرّدها عن صفاتها الخاصّة ؛ ليصوغ منها معنىً كلّياً، كما إذا تصوّر زيداً وأسقط من الحسّاب كلّ ما يمتاز به عن عمرو ؛ فإنّ الذهن بعملية الطرح هذه يستبقي معنىً مجرّداً يصدق على زيد وعمرو معاً.

ولعلّ المبشّر الأوّل بهذه النظرية الحسّية هو (جون لوك) الفيلسوف الإنكليزي الكبير الذي بزغ في عصر فلسفي زاخر بمفاهيم (ديكارت) عن الأفكار الفطرية، فبدأ في تفنيد تلك المفاهيم، ووضع لأجل ذلك دراسة مفصّلة للمعرفة الإنسانية في كتابه (مقالة في التفكير الإنساني)، وحاول في هذا الكتاب إرجاع جميع التصوّرات والأفكار إلى الحسّ. وقد شاعت هذه النظرية بعد ذلك بين فلاسفة أوروبا، وقضت إلى حدّ ما على نظرية الأفكار الفطرية، وانساق معها جملة من الفلاسفة إلى أبعد حدودها حتّى انتهت إلى فلسفات خطرة جدّاً، كفلسفة (باركلي) و(دافيد هيوم) كما سوف نتبيّن ذلك إن شاء الله تعالى(2).

والماركسية تبنّت هذه النظرية في تعليل الإدراك البشري، تمشّياً مع رأيها في الشعور البشري، وأنّه انعكاس للواقع الموضوعي ؛ فكلّ إدراك يرجع إلى انعكاس لواقع معيّن، ويحصل هذا الانعكاس عن طريق الإحساس. وما يخرج عن حدود الانعكاسات الحسّية لا يمكن أن يتعلّق به الإدراك أو الفكر، فنحن لا نتصوّر إلاّ إحساساتنا التي تشير إلى الحقائق الموضوعية القائمة في العالم الخارجي.

قال جورج بوليتزير:

(ولكن ما هي نقطة البدء في الشعور أو الفكر، إنّها الإحساس. ثمّ إنّ مصدر الإحساسات التي يعالجها الإنسان بدافع من احتياجاته الطبيعية) [المادّية والمثالية في الفلسفة: 75].

(الرأي الماركسي يعني ـ إذن ـ أنّ محتوى شعورنا ليس له من مصدر سوى الجزئيات الموضوعية التي تقدِّمها لنا الظروف الخارجية التي نعيش فيها، وتعطى لنا في الإحساسات. وهذا كلّ ما في الأمر) [المصدر السابق: 71 ـ 72].

 


(1) وبكلمة أكثر تفصيلاً: أنّ كثرة الآثار تكشف عن أحد أُمور: إمّا كثرة الفاعل، وإمّا كثرة القابل، وإمّا الترتّب المنطقي بين الآثار ذواتها، وأمّا كثرة الشرائط. وفي مسألتنا لا شكّ في أنّ التصوّرات التي نبحث عن منشئها كثيرة ومتنوّعة مع أنّه لا كثرة في الفاعل والقابل ؛ لأنّ الفاعل والقابل للتصوّرات هو النفس، والنفس بسيطة، ولا ترتّب ـ أيضاً ـ بين التصوّرات، فلا يبقى إلاّ أن نأخذ بالتفسير الأخير، وهو: أن تستند التصوّرات الكثيرة إلى شرائط خارجية، وهي: الإحساسات المختلفة المتنوّعة. (المؤلّف (قُدِّسَ سِرُّه)).

(2) يراجع: أحمد أمين وزكي نجيب محمود، قصّة الفلسفة الحديثة: 1 / 130 ـ 135. عبد الرحمن بدوي، خريف الفكر اليوناني: 168. توفيق الطويل، أُسس الفلسفة: 355.

 

السيد محمد باقر الصدر