التصور ومصدره الأساسي في نظرية المعرفة
تدور حول المعرفة الإنسانية مناقشات فلسفية حادّة تحتلّ مركزاً رئيسياً في الفلسفة وخاصّة الفلسفة الحديثة، فهي نقطة الانطلاق الفلسفي لإقامة فلسفة متماسكة عن الكون والعالم، فما لم تُحدَّد مصادر الفكر البشري ومقاييسه وقيمه لا يمكن القيام بأيّة دراسة مهما كان لونها.
وإحدى تلك المناقشات الضخمة هي: المناقشة التي تتناول مصادر المعرفة ومنابعها الأساسية بالبحث والدرس، وتحاول أن تستكشف الركائز الأوّلية للكيان الفكري الجبّار الذي تملكه البشرية. فتجيب بذلك على هذا السؤال: كيف نشأت المعرفة عند الإنسان ؟ وكيف تكوّنت حياته العقلية بكلّ ما تزخر به من أفكار ومفاهيم ؟ وما هو المصدر الذي يمدّ الإنسان بذلك السيل من الفكر والإدراك ؟
إنّ الإنسان ـ كلّ إنسان ـ يعلم أشياء عديدة في حياته، وتتعدّد في نفسه ألوان من التفكير والإدراك، ولا شكّ في أنّ كثيراً من المعارف الإنسانية ينشأ بعضها عن بعض، فيستعين الإنسان بمعرفة سابقة على تكوين معرفة جديدة.
والمسألة هي: أن نضع يدنا على الخيوط الأوّلية للتفكير، على الينبوع العامّ للإدراك بصورة عامّة.
ويجب أن نعرف قبل كلّ شيء أنّ الإدراك ينقسم بصورة رئيسية إلى نوعين: أحدهما التصوّر، وهو: الإدراك الساذَج. والآخر التصديق، وهو: الإدراك المنطوي على حكم. فالتصوّر، كتصوّرنا لمعنى الحرارة أو النور أو الصوت. والتصديق، كتصديقنا بأنّ الحرارة طاقة مستورَدة من الشمس، وأنّ الشمس أنور من القمر، وأنّ الذرّة قابلة للانفجار [ولبعض الفلاسفة الحسّيين (كجون ستوارت ميل) نظرية خاصّة في التصديق حاولوا بها تفسيره بتصوّرين متداعيين. فمردّ التصديق إلى قوانين تداعي المعاني، وليس المحتوى النفسي إلاّ تصوّر الموضوع وتصوّر المحمول.
ولكنّ الحقيقة: أنّ تداعي المعاني يختلف عن طبيعة التصديق كلّ الاختلاف، فهو قد يتحقّق في كثير من المجالات ولا يوجد تصديق، فالرجال التاريخيون الذين تسبغ عليهم الأساطير ألواناً من البطولات يقترن تصوّرهم في ذهننا بتصوّر تلك البطولات، وتتداعى التصوّرات، ومع ذلك فقد لا نصدّق بشيء من تلك الأساطير. فالتصديق ـ إذن ـ عنصر جديد يمتاز على التصوّر الخالص، وعدم التمييز بين التصوّر والتصديق في عدّة من الدراسات الفلسفية الحديثة، أدّى إلى جملة من الأخطاء، وجعل عدّة من الفلاسفة يدرسون مسألة تعليل المعرفة والإدراك من دون أن يضعوا فارقاً بين التصوّر والتصديق. وستعرف أنّ النظرية الإسلامية تفصِّل بينهما، وتشرح المسألة في كلّ منهما بأُسلوب خاصّ. (المؤلّف (قُدِّسَ سِرُّه))].
ونبدأ الآن بالتصوّرات البشرية لدرس أسبابها ومصادرها، ونتناول بعد ذلك التصديقات والمعارف.
التصور ومصدره الأساسي:
نقصد بكلمة (الأساسي) المصدر الحقيقي للتصوّرات والإدراكات البسيطة؛ ذلك أنّ الذهن البشري ينطوي على قسمين من التصوّرات:
أحدهما المعاني التصوّرية البسيطة، كمعاني الوجود والوحدة والحرارة والبياض وما إلى ذلك من مفردات للتصوّر البشري.
والقسم الآخر المعاني المركّبة، أي: التصوّرات الناتجة عن الجمع بين تلك التصوّرات البسيطة. فقد نتصوّر (جبلاً من تراب) ونتصوّر (قطعة من الذهب) ثمّ نركّب بين هذين التصوّرين، فيحصل بالتركيب تصوّر ثالث، وهو: (تصوّر جبل من الذهب). فهذا التصوّر مركّب في الحقيقة من التصوّر الأوّلين، وهكذا ترجع جميع التصوّرات المركّبة إلى مفردات تصوّرته بسيطة.
والمسألة التي نعالجها هي: محاولة معرفة المصدر الحقيقي لهذه المفردات، وسبب انبثاق هذه التصوّرات البسيطة في الإدراك الإنساني.
وهذه المسألة لها تأريخ مهمّ في جميع أدوار الفلسفة اليونانية والإسلامية والأُوروبية، وقد حصلت عبر تأريخها الفلسفي على عدّة حلول تتلخّص في النظريات الآتية:
1 ـ نظرية الاستذكار الأفلاطونية (1):
وهي النظرية القائلة: بأنّ الإدراك عملية استذكار للمعلومات السابقة. وقد ابتدع هذه النظرية أفلاطون، وأقامها على فلسفته الخاصّة عن المُثل وقِدم النفس الإنسانية، فكان يعتقد أنّ النفس الإنسانية موجودة بصورة مستقلّة عن البدن قبل وجوده، ولمّا كان وجودها هذا متحرّراً من المادّة وقيودها تحرّراً كاملاً، أُتيح لها الاتّصال بالمثل أي: بالحقائق المجرّدة عن المادّة، وأمكنها العلم بها، وحين اضطرّت إلى الهبوط من عالمها المجرّد للاتّصال بالبدن والارتباط به في دنيا المادّة، فقدت بسبب ذلك كلّ ما كانت تعلمه من تلك المثل والحقائق الثابتة، وذهلت عنها ذهولاً تاماً، ولكنّها تبدأ باسترجاع إدراكاتها عن طريق الإحساس بالمعاني الخاصّة والأشياء الجزئية ؛ لأنّ هذه المعاني والأشياء كلّها ظلال وانعكاسات لتلك المثل والحقائق الأزلية الخالدة في العالم الذي كانت تعيش النفس فيه. فمتى أحسّت بمعنى خاصّ انتقلت فوراً إلى الحقيقة المثالية التي كانت تدركها قبل اتّصالها بالبدن، وعلى هذا الأساس يكون إدراكنا للإنسان العامّ ـ أي: لمفهوم الإنسان بصورة كلّية ـ عبارة عن استذكار لحقيقة مجرّدة كنّا قد غفلنا عنها، وإنّما استذكرناها بسبب الإحساس بهذا الإنسان الخاصّ أو ذاك من الأفراد التي تعكس في عالم المادّة تلك الحقيقة لمجرّدة.
فالتصوّرات العامّة سابقة على الإحساس، ولا يقوم الإحساس إلاّ بعملية استرجاع واستذكار لها، والإدراكات العقلية لا تتعلّق بالأُمور الجزئية التي تدخل في نطاق الحس، وإنّما تتعلّق بتلك الحقائق الكلّية المجرّدة.
وهذا النظرية ترتكز على قضيّتين فلسفيتين:
إحداهما: أنّ النفس موجودة قبل وجود البدن في عالم أسمى من المادّة.
والأُخرى: أنّ الإدراك العقلي عبارة عن إدراك الحقائق المجرّدة الثابتة في ذلك العالم الأسمى، والتي يصطلح عليها أفلاطون بكلمة (المُثل).
وكلتا القضيّتين خاطئتان كما أوضح ذلك ناقدو الفلسفة الأفلاطونية، فالنفس في مفهومها الفلسفي المعقول ليست شيئاً موجوداً بصورة مجرّدة قبل وجود البدن، بل هي نتاج حركة جوهرية في المادّة، تبدأ النفس بها مادّية متّصفة بخصائص المادّة وخاضعة لقوانينها، وتصبح بالحركة والتكامل وجوداً مجرّداً عن المادّة لا يتّصف بصفاتها ولا يخضع لقوانينها، وإن كان خاضعاً لقوانين الوجود العامة ؛ فإنّ هذا المفهوم الفلسفي عن النفس هو المفهوم الوحيد الذي يستطيع أن يفسِّر المشكلة، ويعطي إيضاحاً معقولاً عن العلاقة القائمة بين النفس والمادّة، بين النفس والبدن. وأمّا المفهوم الأفلاطوني ـ الذي يفترض للنفس وجوداً سابقاً على البدن ـ فهو أعجز ما يكون عن تفسير هذا العلاقة، وتعليل الارتباط القائم بين البدن والنفس، وعن إيضاح الظروف التي جعلت النفس تهبط من مستواها إلى المستوى المادّي.
كما أنّ الإدراك العقلي يمكن إيضاحه مع إبعاد فكرة المُثل عن مجال البحث بما شرحه أرسطو في فلسفته: من أنّ المعاني المحسوسة هي نفسها المعاني العامّة التي يدركها العقل بعد تجريدها عن الخصائص المميّزة للأفراد واستبقاء المعنى المشترك، فليس الإنسان العامّ الذي ندركه حقيقة مثالية سبق أن شاهدناها في عالم أسمى، بل هو صورة هذا الإنسان أو ذاك بعد إجراء عملية التجريد عليها، واستخلاص المعنى العامّ منها.
(1) يراجع للتفصيل والتوضيح: صدر الدين الشيرازي، الأسفار الأربعة: 2 / 46، الفصل 9. مصطفى غالب، أفلاطون: 41. محمّد عبد الرحمن مرحبا، من الفلسفة اليونانيّة إلى الفلسفة الإسلامية: 126 ـ 130.
السيد محمد باقر الصدر
الوسوم: الإسلام, الفلسفة, نظرية المعرفة