الالتزام بالسجدة على الأرض أو ما أنبتته
الشيخ جعفر السبحاني
السجدة في الصلاة وغيرها، من مظاهر العبودية أمام المسجود له، ومن أركان الصلاة وفي بعض المأثورات «أقرب ما يكون العبد إلى ربّه حال سجوده» فمهما أتى بالتذلّل والخضوع كان أوقع وافضل في العبودية، فالسجود على التراب والرمل والحجر والحصى أبين لبيان العبودية والتصاغر، من السجود على الحصر والبواري، فضلا عن السجود على الألبسة الفاخرة والفرش الغالية والذهب والفضة، وإن كان الكل سجوداً، لكن العبودية تتجلّى في الأوّل بما لا تتجلّى في غيره .
والامامية ملتزمة بالسجدة على الأرض في حضرهم وسفرهم، ولا يعدلون عنها إلاّ إلى ما اُنْبِت منها من الحصر والبواري بشرط أن لا يؤكل ولا يلبس. ولا يرون الجسود على غيرهما صحيحاً في حال الصلاة أخذاً بالسنّة المتواترة عن النبىّ الأكرم وأهل بيته وصحبه. وسيظهر ـ في ثنايا البحث ـ أن الالتزام بالسجود على الأرض أو ما أنْبتت، كانت هي السنّة بين الصحابة وانّ العدول عنها حدث في الأزمنة المتأخّرة، ولأجل توضيح المقام نقدم اُموراً:
1- اختلاف الفقهاء في شرائط المسجود عليه
اتّفق المسلمون على وجوب السجود في الصلاة في كل ركعة مرّتين، ولم يختلفوا في المسجود له فإنّه هو اللّه سبحانه الّذي له يسجد من في السموات والأرض طوعاً وكرها1وشعار كل مسلم قوله سبحانه:﴿ … لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ … ﴾ 2وانّما اختلفوا في شروط المسجود عليه ـ أعني ما يضع الساجد جبهته عليه ـ فالشيعة الامامية على أنّه يشترط أن يكون المسجود عليه أرضاً أو ما ينبت منها غير مأكول ولا ملبوس كالحصر والبواري، وما أشبه ذلك. و خالفهم في ذلك غيرهم من المذاهب وإليك نقل الآراء.
قال الشيخ الطوسي3وهو يبيّن آراء الفقهاء: لا يجوز السجود إلاّ على الأرض أو ما أنبتته الأرض ممّا لا يؤكل ولا يلبس من قطن أو كتان مع الاختيار. وخالف جميع الفقهاء في ذلك وأجازوا السجود على القطن والكتان والشعر والصوف وغير ذلك ـ إلى أن قال ـ : لا يجوز السجود على شيء هو حامل له ككور العمامة، وطرف الرداء، وكم القميص، وبه قال الشافعي، وروي ذلك عن علي ـ عليه الصلاة والسلام ـ وابن عمرو عبادة بن الصامت، ومالك،وأحمد بن حنبل، وقال أبو حنيفة وأصحابه: إذا سجد على ما هو حامل له كالثياب الّتي عليه، أجزأه، وإن سجد على ما لا ينفصل منه مثل أن يفترش يده ويسجد عليها أجزأه لكنّه مكروه، وروي ذلك عن الحسن البصري4.
وقال العلاّمة الحلّي5ـ وهو يبيّن آراء الفقهاء فيما يسجد عليه ـ : لا يجوز السجود على ما ليس بارض ولا من نباتها كالجلود والصوف عند علمائنا أجمع، وأطبق الجمهور على الجواز .
وقد اقتفت الشيعة في ذلك أئمّتهم الذين هم أعدال الكتاب وقرناؤه في حديث الثقلين نكتفي بالنزر القليل:
روى الصدوق باسناده عن هشام بن الحكم أنّه قال لأبي عبداللّه ـ عليه السلام ـ : أخبرني وعمّا يجوز السجود عليه، عمّا لا يجوز؟ قال: السجود لا يجوز إلاّ على الأرض، أو على ما أنبتت الأرض إلاّ ما اُكل أو لبس. فقال له: جعلت فداك ما العلّة في ذلك؟ قال: لأنّ السجود خضوع للّه عزّوجلّ فلا ينبغي أن يكون على ما يؤكل ويلبس، لأنّ أبناء الدنيا عبيد ما يأكلون ويلبسون، والساجد في سجوده في عبادة اللّه عزّوجلّ، فلا ينبغي أن يضع جبهته في سجوده على معبود أبناء الدنيا الذين اغترّوا لغرورها6.
فلا عتب على الشيعة إذا التزموا بالسجود على الأرض أو ما أنبتته إذا لم يكن مأكولا ولا ملبوساً اقتداءً بأئمّتهم، على أنّ ما رواه أهل السنّة في المقام، يدعم نظرية الشيعة وسيظهر لك فيما سيأتي من سرد الأحاديث من طرقهم، ويتّضح انّ السنّة كانت هي السجود على الأرض، ثم جاءت الرخصة في الحصر والبواري فقط، ولم يثبت الترخيص الآخر بل ثبت المنع عنه كما سيوافيك .
2- الفرق بين المسجود له والمسجود عليه
كثيراً ما يتصوّر أنّ الالتزام بالسجود على الأرض أو ما أنبتت، بدعة، ويتخيّل الحجر المسجود عليه، وثناً، وهؤلاء هم الذين لا يفرّقون بين المسجود له، والمسجود عليه، ويزعمون أنّ الحجر أو التربة الموضوعة أمام المصلّي، وثناً يعبده المصلّي بوضع الجبهة عليه. ولكن لاعتب على الشيعة إذا قصر فهم المخالف، ولم يفرّق بين الأمرين وزعم المسجود عليه، مسجوداً له، وقاس أمر الموحّد، بأمر المشرك بحجّة المشاركة في الظاهر، فأخذ بالصور والظواهر مع أنّ الملاك هو الأخذ بالبواطن والضمائر، فالوثن عند الوثني معبود ومسجود له يضعه أمامه ويركع ويسجد له، ولكن الموحّد الّذي يريد أن يصلّي في أظهار العبودية إلى نهاية مراتبها، يخضع للّه سبحانه ويسجد له، ويضع جبهته ووجهه على التراب والحجر، والرمال والحصى، مظهراً بذلك مساواته معها عند التقييم قائلا: أين التراب وربّ الأرباب.
3- السنّة في السجود في عصر الرسول وبعده
إنّ النبىّ الأكرم وصحبه كانوا ملتزمين بالسجود على الأرض مدّة لا يستهان بها، متحمّلين شدّة الرمضاء وغبار التراب ورطوبة الطين، طيلة أعوام. ولم يسجد أحد يوم ذاك على الثوب وكور العمامة بل ولا على الحصر والبواري والخمر، وأقصى ما كان عندهم لرفع الأذى عن الجبهة، هو تبريد الحصى بأكفّههم ثمّ السجود عليها، وقد شكى بعضهم رسول اللّه من شدّة الحر، فلم يجبه، إذ لم يكن له أن يبدل الأمر الإلهي من تلقاء نفسه، إلى أن ورد الرخصة بالسجود على الخمر والحصر فوسع الأمر للمسلمين لكن في اطار محدود، وعلى ضوء هذا فقد مرّت في ذلك المجال على المسلمين مرحلتان لا غير:
1- ما كان الواجب فيها على المسلمين، السجود على الأرض بأنواعها المختلفة من التراب والرمل والحصى والطين، ولم تكن هناك أية رخصة .
2- المرحلة التي ورد فيها الرخصة بالسجود على نبات الأرض من الحصر والبواري والخمر، تسهيلا للأمر، ورفعاً للحرج والمشقّة ولم تكن هناك أية مرحلة اُخرى توسع الأمر للمسلمين أكثر من ذلك كما يدّعيه أهل السنّة وإليك البيان:
المرحلة الاُولى: السجود على الأرض
1- روى الفريقان عن النبىّ الأكرم أنّه قال: «وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً»7.
والمتبادر من الحديث انّ كل جزء من الأرض مسجد وطهور يُسْجد عليه ويُقْصَد للتيمّم، وعلى ذلك فالأرض تقصد للجهتين: للسجود تارة والتيمّم اُخرى.
وأمّا تفسير الرواية بأنّ العبادة والسجود للّه سبحانه لا يختص بمكان دون مكان، بل الأرض كلّها مسجد للمسلمين بخلاف غيرهم حيث خصّوا العبادة بالبيع والكنائس، فهذا المعنى ليس مغايراً لما ذكرناه، فانّه إذا كانت الأرض على وجه الاطلاق مسجداً للمصلّي فيكون لازمه كون الأرض كلّها صالحة للعبادة، فما ذكر معنى التزامي لما ذكرناه، ويعرب عن كونه المراد ذكر «طهوراً» بعد «مسجداً» وجعلهما مفعولين لـ «جعلت» والنتيجة هو توصيف الأرض بوصفين كونه مسجداً وكونه طهوراً، وهذا هو الّذي فهمه الجصاص وقال: إنّ ما جعله من الأرض مسجداً هو الّذي جعله طهوراً8.
ومثله غيره من شرّاح الحديث.
تبريد الحصى للسجود عليها
2- عن جابر بن عبداللّه الأنصاري، قال: كنت اُصلّي مع النبىّ الظهر، فآخذ قبضة من الحصى، فأجعلها في كفّي ثمّ اُحوّلها إلى الكف الاُخرى حتّى تبرد ثمّ أضعها لجبيني حتّى أسجد عليها من شدّة الحر9.
وعلّق عليه البيهقي بقوله: قال الشيخ: ولو جاز السجود على ثوب متّصل به لكان ذلك أسهل من تبريد الحصى بالكف ووضعها للسجود10. ونقول: ولو كان السجود على مطلق الثياب سواء كان متصلاً أم منفصلا جائزاً لكان أسهل من تبريد الحصى ولأمكن حمل منديل أو ما شابه للسجود عليه .
3- روى أنس قال: كنّا مع رسول اللّه في شدّة الحرّ فيأخذ أحدنا الحصباء في يده فإذا برد وضعه وسجد عليه11.
4- عن خباب بن الأرت قال: شكونا إلى رسول اللّه شدة الرمضاء في جباهنا وأكفّنا فلم يشكنا12.
5- قال ابن الاثير في معنى الحديث: إنّهم لمّا شكوا إليه ما يجدون من ذلك لم يفسح لهم أن يسجدوا على طرف ثيابهم13.
هذه المأثورات تعرب عن أنّ السنّة في الصلاة كانت جارية على السجود على الأرض فقط حتّى انّ الرسول لم يفسح للمسلمين العدول عنها إلى الثياب المتّصلة أو المنفصلة وهو ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ مع كونه بالمؤمنين رؤوفاً رحيماً أوجب عليهم مس جباههم الأرض، وإن آذتهم شدة الحر .
والّذي يعرب عن التزام المسلمين بالسجود على الأرض وعن اصرار النبىّ الأكرم بوضع الجبهة عليها لا على الثياب المتصله ككور العمامة أو المنفصلة كالمناديل والسجاجيد، ما روي من حديث الأمر بالتتريب في غير واحد من الروايات.
الأمر بالتتريب
6- عن خالد الجهني قال: رأى النبىّ صهيباً يسجد كأنّه يتّقي التراب فقال له: ترّب وجهك يا صهيب14.
7- والظاهر أنّ صهيباً كان يتّقي عن التتريب بالسجود على الثوب المتّصل والمنفصل، ولا أقل بالسجود على الحصر والبواري والأحجار الصافية، وعلى كل تقدير، فالحديث شاهد على أفضلية السجود على التراب في مقابل السجود على الحصى لما دل من جواز السجدة على الحصى في مقابل السجود على غير الأرض.
8- روت اُمّ سلمة ـ رضي الله عنها ـ رأى النبي غلاماً لنا يقال له «افلح» ينفخ إذا سجد، يا افلح ترّب15.
9- وفي رواية: يا رباح ترّب وجهك16.
10- روى أبو صالح قال: دخلت على اُمّ سلمة، فدخل عليها ابن أخ لها فصلّى في بيتها ركعتين فلمّا سجد نفخ التراب، فقالت اُمّ سلمة: ابن أخي؟! لا تنفخ، فإنّي سمعت رسول اللّه يقول لغلام له يقال له يسار ـ ونفخ ـ : ترّب وجهك للّه17.
الأمر بحسر العمامة عن الجبهة
11- روي أنّ النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ كان إذا سجد رفع العمامة عن جبهته18.
12- روي عن علي أميرالمؤمنين أنّه قال: إذا كان أحدكم يصلّي فليحسر العمامة عن وجهه، يعني حتّى لا يسجد على كور العمامة19.
13- روى صالح بن حيوان السبائي أنّ رسول اللّه رأى رجلا يسجد بجنبه وقد اعتمّ على جبهته فحسر رسول اللّه عن جبهته20.
14- عن عياض بن عبداللّه القرشي: رأى رسول اللّه رجلا يسجد على كور عمامته فأومأ بيده: ارفع عمامتك وأومأ إلى جبهته20.
هذه الروايات تكشف عن أنّه لم يكن للمسلمين يوم ذاك تكليف إلاّ السجود على الأرض ولم يكن هناك أي رخصة سوى تبريد الحصى ولو كان هناك ترخيص لما فعلوا ذلك، ولما أمر النبي بالتتريب، وحسر العمامة عن الجبهة.
المرحلة الثانية: الترخيص في السجود على الخمر والحصر
هذه الأحاديث والمأثورات المبثوثة في الصحاح والمسانيد وسائر كتب الحديث تعرب عن التزام النبي وأصحابه بالسجود على الأرض بأنواعها، وأنّهم كانوا لا يعدلون عنه وإن صعب الأمر واشتدّ الحر لكن هناك نصوص تعرب عن ترخيص النبىّ ـ بايحاء من اللّه سبحانه إليه ـ السجود على ما أنبتت الأرض، فسهل لهم بذلك أمر السجود، ورفع عنهم الاصر والمشقّة في الحر والبرد وفيما إذا كانت الأرض مبتلّة، وإليك تلك النصوص:
- عن أنس بن مالك قال: كان رسول اللّه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ يصلّي على الخمرة21.
- عن ابن عباس: كان رسول اللّه يصلّي على الخمرة وفي لفظ: وكان النبيّ يصلّي على الخمرة22.
- عن عائشة: كان النبيّ يصلّي على الخمرة23.
- عن اُمّ سلمة: كان رسول اللّه يصلّي على الخمرة24.
- عن ميمونة: ورسول اللّه يصلّي على خمرته فإذا أصابني طرف ثوبه25.
- عن اُمّ سليم قالت: وكان يصلّي الخمرة26.
- عن عبداللّه بن عمر: كان رسول اللّه يصلّي على الخمر27.
السجود على الثياب لعذر
قد عرفت المرحلتين الماضيتين ولو كان هناك مرحلة ثالثة فانّما مرحلة جواز السجود على غير الأرض وما ينبت منها لعذر وضرورة. ويبدو أنّ هذا الترخيص جاء متأخّراً عن المرحلتين لما عرفت أنّ النبيّ ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ لم يُجب شكوى الأصحاب من شدّة الحرّ والرمضاء وراح هو وأصحابه يسجدون على الأرض متحمّلين الحر والأذى ولكنّ الباري عزّ اسمه رخّص لرفع الحرج السجود على الثياب لعذر وضرورة وإليك ما ورد في هذا المقام.
- عن أنس بن مالك: كنّا إذا صلّينا مع النبيّ ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ فلم يستطع أحدنا أن يمكن جبهته من الأرض، طرح ثوبه ثم سجد عليه .
- وفي صحيح البخاري: كنّا نصلّي مع النبيّ ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ فيضع أحدنا طرف الثوب من شدّة الحر. فإذا لم يستطع أحدنا أن يمكّن جبهته من الأرض، بسط ثوبه .
- وفي لفظ ثالث: كنّا إذا صلّينا مع النبىّ ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ فيضع أحدنا طرف الثوب من شدّة الحر مكان السجود28.
وهذه الرواية الّتي نقلها أصحاب الصحاح والمسانيد تكشف الغطاء عن بعض ما روي في ذلك المجال الظاهر في جواز السجود على الثياب في حالة الاختيار أيضاً. وذلك لأنّ رواية أنس نص في اختصاص الجواز على حالة الضرورة، فتكون قرينة على المراد من هذه المطلقات وإليك بعض ما روي في هذا المجال.
1- عبداللّه بن محرز عن أبي هريرة: كان رسول اللّه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ يصلّي على كور عمامته29.
إنّ هذه الرواية مع أنّها معارضة لما مرّ من نهي النبىّ ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ عن السجود عليه، محمولة على العذر والضرورة وقد صرّح بذلك الشيخ البيهقي في سننه، حيث قال:
قال الشيخ: «وأمّا ما روي في ذلك عن النبىّ ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ من السجود على كور العمامة فلا يثبت شيء من ذلك وأصحّ ما روي في ذلك قول الحسن البصري حكاية عن أصحاب النبىّ30.
وقد روي عن ابن راشد: قال: رايت مكحولا يسجد على عمامته فقلت: لِمَ تسجد عليها؟ قال: أتّقي البرد على أسناني31.
2- ما روي عن أنس: كنّا نصلّي مع النبىّ ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ فيسجد أحدنا على ثوبه32.
والرواية محمول على صورة العذر بقرينة ما رويناه عنه، وبما رواه عنه البخاري: كنّانصلّي مع النبىّ ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ في شدة الحرّ فاذا لم يستطع أحدنا أن يمكن وجهه من الأرض بسط ثوبه فسجد عليه33.
ويؤيّده ما رواه النسائي: كنّا إذا صلينا خلف النبىّ بالظهائر سجدنا على ثيابنا اتّقاء الحرّ34.
وهناك روايات قاصرة الدلالة حيث لا تدل إلاّ على أنّ النبىّ ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ صلّى على الفرو. وأمّا انّه سجد عليه فلا دلالة لها عليه .
3- عن المغيرة بن شعبة: كان رسول اللّه يصلّي على الحصير والفرو المدبوغة35.
والرواية مع كونها ضعيفه بيونس بن الحرث، ليست ظاهرة في السجود عليه. ولا ملازمة بين الصلاة على الفرو والسجدة عليه ولعلّه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ وضع جبهته على الأرض أو ما ينبت منها وعلى فرض الملازمة لا تقاوم هي وما في معناها، ما سردناه من الروايات في المرحلتين الماضيتين .
حصيلة البحث
إنّ الناظر في الروايات يجد أنّه مرّ على المسلمين مرحلتان أو مراحل ثلاثة ففي المرحلة الاُولى كان الفرض السجود على الأرض ولم يُرخَّص للمسلمين السجود على غيرها، وفي الثانية جاء الترخيص فيما تنبته الأرض وليست وراء هاتين المرحلتين، مرحلة اُخرى إلاّ جواز السجود على الثياب لعذر وضرورة فما يظهر من بعض الروايات من جواز السجود على الفرو وأمثاله مطلقاً، فمحمولة على الضرورة أو لا دلالة لها على السجود عليها بل غايتها الصلاة عليها.
فاللازم على فقهاء أهل السنّة إعادة النظر في هذه المسألة حتّى يحيوا السنّة ويميتوا البدعة. فانّ الرائج في بلادهم هو افتراش المساجد بالسجاد، والسجود عليها. كما أنّ السائد هو السجود على كل شيء. من البسط المنسوجة من الصوف والوبر، والحرير، وطرف الثوب فانّ هذا العمل حسب مامرّ من الروايات بدعة حدثت بعد النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ وكانت السنّة غيرهما فلا عتب على الشيعة إذا ما تمسّكوا بالسنّة ولم يسجدوا الاّ على الأرض وما أنبتته تبعاً للسنن النبوية والأحاديث المروية عن أئمّة أهل البيت.
ما هو السر في اتّخاذ تربة طاهرة؟
بقي هنا سؤال يطرحه اخواننا أهل السنّة يقولون ما هو السر في اتّخاذ تربة طاهرة في السفر والحضر والسجود عليها دون غيرها. وربّما يتخيّل البسطاء انّ الشيعة يسجدون لها لا عليها، ويعبدون الحجر والتربة ولكن المساكين لا يفرّقون بين السجود على التربة، والسجود لها وعلى أي تقدير فالاجابة عنها واضحة فانّ المستحسن عند الشيعة هو اتّخاذ تربة طاهرة طيّبة ليتيقن من طهارتها من أي أرض اُخذت، من اي صقع من أرجاء العالم كانت، وهي كلّها في ذلك سواء.
وليس هذا الالتزام إلاّ مثل إلتزام المصلّي بطهارة جسده وملبسه ومصلاّه وأمّا سرّ الالتزام في اتّخاذ التربة هو أنّ الثقة بطهارة كل أرض يحل بها، ويتّخذها مسجداً لا تتأتّى له في كل موضع من المدن والرساتيق والفنادق والخانات ومحال المسافرين ومحطّات وسائل السير والسفر ومهابط فئات الركاب ومنازل الغرباء، أنّى له ذلك وقد يحل بها كل إنسان من الفئة المسلمة وغيرها ومن أخلاط الناس الذين لا يبالون ولا يكترثون لأمر الدين في موضوع الطهارة والنجاسة.
فاي مانع من أن يحتاط المسلم في دينه، ويتّخذ معه تربة طاهرة يطمئن بها وبطهارتها يسجد عليها لدى صلاته حذراً من السجدة على الرجاسة والنجاسة، والأوساخ الّتي لا يتقرّب بها إلى اللّه قط ولا تجوّز السنّة السجود عليها ولا يقبله العقل السليم، خصوصاً بعد ورود التأكيد التام البالغ في طهارة أعضاء المصلّي ولباسه والنهي عن الصلاة في مواطن منها:
المزبلة، والمجزرة، وقارعة الطريق، والحمام، ومواطن الابل والأمر بتطهير المساجد وتطييبها36.
وهذه القاعدة كانت ثابتة عند السلف الصالح وإن غفل التاريخ عن نقلها فقد روي أنّ التابعي الفقيه مسروق بن الأجدع المتوفّى عام 62 كان يصحب في أسفاره لبنة من المدينة يسجد عليها كما أخرجه ابن أبي شيبة في كتابه المصنف باب من كان حمل في السفينة شيئاً يسجد عليه. فأخرج بإسنادين أنّ مسروقاً كان إذا سافر حمل معه في السفينة لبنة يسجد عليها37.
إلى هنا تبيّن انّ التزام الشيعة باتّخاذ التربة مسجداً ليس إلاّ تسهيل الأمر للمصلّي في سفره وحضره عسى أن لا يجد أرضاً طاهرة أو حصيراً طاهراً فيصعب الأمر عليه وهذا كادّخار المسلم تربة طاهرة لغاية التيمّم عليه .
وأمّا السر في التزام الشيعة استحباباً بالسجود على التربة الحسينية فانّما هو من جهة الأغراض العالية والمقاصد السامية منها، أن يتذكّر المصلّي حين يضع جبهته على تلك التربة، تضحية ذلك الإمام بنفسه وأهل بيته والصفوة من أصحابه في سبيل العقيدة والمبدأ ومقارعة الجور والفساد .
ولمّا كان السجود أعظم أركان الصلاة وفي الحديث «أقرب ما يكون العبد إلى ربّه حال سجوده» فيناسب أن يتذكّر بوضع جبهته على تلك التربة الزاكية اُولئك الذين جعلوا أجسامهم ضحايا للحق، وارتفعت أرواحهم إلى الملأ الأعلى، ليخشع ويخضع ويتلازم الوضع والرفع، وتحتقر هذه الدنيا الزائفة وزخارفها الزائلة ولعلّ هذا هو المقصود من أنّ السجود عليها يخرق الحجب السبع كما في الخبر فيكون حينئذ في السجود سر الصعود والعروج من التراب إلى ربّ الأرباب38.
وقال العلامة الأميني: نحن نتّخذ من تربة كربلاء قطعاً لمعاً، وأقراصاً نسجد عليها كما كان فقيه السلف مسروق بن الأجدع يحمل معه لبنة من تربة المدينة المنوّرة يسجد عليها، والرجل تلميذ الخلافة الراشدة، فقيه المدينة، ومعلّم السنّة بها، وحاشاه من البدعة. فليس في ذلك أي حزازة وتعسّف أو شيء يضاد نداء القرآن الكريم أو يخالف سنّة الله وسنّة رسوله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ أو خروج من حكم العقل والاعتبار .
وليس اتّخاذ تربة كربلاء مسجداً لدى الشيعة من الفرض المحتّم ولا من واجب الشرع والدين ولا ممّا ألزمه المذهب ولا يفرّق أي أحد منهم منذ أوّل يومها بينها وبين غيرها من تراب جميع الأرض في جواز السجود عليها خلاف ما يزعمه الجاهل بهم بآرائهم، وإن هو عندهم إلاّ استحسان عقلي ليس إلاّ، واختيار لما هو الأولى بالسجود لدى العقل والمنطق والاعتبار فحسب كما سمعت وكثير من رجال المذهب يتّخذون معهم في أسفارهم غير تربة كربلاء ممّا يصحّ السجود عليه كحصير طاهر نظيف يوثق بطهارته أو خمرة مثله ويسجدون عليه في صلواتهم39.
هذا إلمام اجمالي بهذه المسألة الفقهية والتفصيل موكول إلى محلّها وقد أغنانا عن ذلك ما سطّره أعلام العصر وأكابره وأخص بالذكر منهم:
- المصلح الكبير الشيخ محمّد حسين كاشف الغطاء 1295 ـ 1373 في كتابه الأرض والتربة الحسينية.
- العلاّمة الكبير الشيخ عبدالحسين الأميني مؤلّف الغدير 1320 ـ 1390 فقد دوّن رسالة في هذا الموضوع طبع في آخر كتابه سيرتنا وسنّتنا.
- لسجود على الأرض للعلاّمة الشيخ علي الأحمدي ـ دام عزّه ـ فقد أجاد في التتبّع والتحقيق.
فما ذكرنا في هذه المسألة اقتباس من أنوار علومهم. رحم اللّه الماضين من علمائنا وحفظ اللّه الباقين منهم 40.
- 1. إشارة إلى قوله سبحانه:﴿ وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ ﴾
- 2. القران الكريم: سورة فصلت (41)، الآية: 37، الصفحة: 480.
- 3. من أعلام الشيعة في القرن الخامس صاحب التصانيف والمؤلّفات ولد 385 توفّي عام 460 من تلاميذ الشيخ المفيد 336 ـ 413، والسيد الشريف المرتضى 355 ـ 436ـ رضي الله عنهم ـ.
- 4. الخلاف 1 / 357 ـ 358 كتاب الصلاة، المسألة 112 ـ 113.
- 5. الحسن بن يوسف بن المطهر الحلّي 648 ـ 726 وهو اُستاذ الشيعة في قرن السابع لا يسمع الدهر بمثله إلاّ في فترات خاصة.
- 6. الوسائل 3 الباب 1 من أبواب ما يسجد عليه، الحديث 1، وهناك روايات بمضمونه. والكل يتضمن انّ الغاية من السجود الّتي هي التذلل لا تحصل بالسجود على غيرهما فلاحظ.
- 7. صحيح البخاري 1 / 91 كتاب التيمّم الحديث 2 وسنن البيهقي 2 / 433 باب: أينما أدركتك الصلاة فصل فهو مسجد، ورواه غيرهما من أصحاب الصحاح والسنن.
- 8. احكام القرآن للجصاص 2 / 389 نشر بيروت.
- 9. مسند أحمد 3 / 327 من حديث جابر وسنن البيهقي 1 / 439 باب ما روي في التعجيل بها في شدة الحرّ.
- 10. سنن البيهقي 2 / 105.
- 11. السنن الكبرى 2 / 106.
- 12. سنن البيهقي 2 / 105 باب الكشف عن الجبهة.
- 13. ابن الأثير: النهاية 2 / 497 مادة «شكى».
- 14. المتقي الهندي: كنز العمال 7 / 465 برقم 19810.
- 15. المتقي الهندي: كنز العمال 7 / 459 برقم 19776.
- 16. المصدر نفسه برقم 19777.
- 17. المتقي الهندي كنز العمال 7 / 465، برقم 19810 ومسند أحمد 6 / 301.
- 18. الطبقات الكبرى 1 / 151 كما في السجود على الأرض 41.
- 19. منتخب كنز العمال المطبوع في هامش المسند 3 / 194.
- 20. البيهقي: السنن الكبرى 2 / 105.
- 21. أبو نعيم الاصفهاني: ذكر أخبار اصبهان 2 / 141.
- 22. مسند أحمد 1/ 269 ـ 303 ـ 309 و 358.
- 23. مسند أحمد 6 / 179 وفيه أيضاً قال للجارية وهو في المسجد: ناوليني الخمرة.
- 24. مسند أحمد 6 / 302.
- 25. مسند أحمد 6 / 331 ـ 335.
- 26. مسند أحمد 6 / 377.
- 27. مسند أحمد 2 / 92 ـ 98.
- 28. صحيح البخاري 1 / 101، صحيح مسلم 2 / 109، مسند أحمد 1 / 100، السنن الكبرى 2 / 106.
- 29. كنز العمال 8 / 130 برقم 22238.
- 30. البيهقي: السنن 2 / 106.
- 31. المصنف لعبد الرزاق 1 / 400 كما في سيرتنا وسنّتنا، والسجدة على التربة 93.
- 32. البيهقي السنن الكبرى 2 / 106، باب من بسط ثوباً فسجد عليه.
- 33. البخاري 2 / 64 كتاب الصلاة باب بسط الثوب في الصلاة للسجود.
- 34. ابن الأثير: الجامع للاُصول 5 / 468 برقم 3660.
- 35. أبو داود: السنن / باب ما جاء في الصلاة على الخمرة برقم 331.
- 36. العلامة الأميني: سيرتنا وسنّتنا 158 ـ 159.
- 37. أبوبكر بن أبي شيبة: المصنف 1 / 400 كما في السجدة على التربة 93.
- 38. الأرض والتربة الحسينية 24.
- 39. سيرتنا وسنّتنا 166 ـ 167 طبع النجف الأشرف.
- 40. من كتاب بحوث في الملل والنحل لأية الله الشيخ جعفر السبحاني.