Search
Close this search box.
logo_black

الأدلّة على وجوب ستر المرأة لجميع بدنها عدا الوجه والكفين

الشّيخ جعفر محمّد السّعيد

يهدف هذا البحث إلى دراسة وجوب ستر المرأة لجميع بدنها عدا الوجه والكفين من الناحية الفقهية، وذلك من خلال استعراض الأدلة القرآنية والروائية التي يعتمدها الفقهاء في تحديد نطاق الحجاب الشرعي. وقد انقسم البحث إلى ثلاثة محاور رئيسية، حيث تناول المحور الأول الأدلة القرآنية التي يمكن أن يُستند إليها في إثبات هذا الحكم. ومن بين هذه الأدلة آية القواعد من سورة النور، التي استثنت النساء الكبيرات في السن من وجوب الحجاب بشرط عدم التبرج، مما يشير إلى أن الحكم العام يقتضي وجوب التغطية لغيرهن. كما استند البحث إلى آية الزينة في سورة النور، التي فرّقت بين الزينة الظاهرة والباطنة، حيث ذهب الفقهاء إلى أن الزينة الظاهرة تشمل الوجه والكفين، مما يدل على جواز كشفهما. واستعرض البحث آية الجلابيب من سورة الأحزاب، والتي أمرت بإدناء الجلابيب، وقد تعددت التفسيرات حول شمولها للوجه، مما استدعى الرجوع إلى الروايات لتحديد المراد بدقة.

أما المحور الثاني، فقد ركّز على الأدلة الروائية التي وردت في تحديد حدود الحجاب. ومن أبرز الروايات التي استُند إليها معتبرة مسعدة بن زياد، التي صرّح فيها الإمام الصادق (عليه السلام) بأن الوجه والكفين هما المواضع التي يجوز للمرأة إظهارها. كما استعرض البحث معتبرة عبد الرحمن بن الحجاج، التي أكّدت وجوب تغطية الرأس للمرأة عند بلوغ سن التكليف، مما يستفاد منه ضمنًا أن الوجه مستثنى من ذلك الحكم. واستعرض معتبرة الفضيل بن يسار، والتي تناولت مفهوم الزينة الواجب سترها، حيث أوضحت أن ما يستره الخمار من الرأس والرقبة يعد من الزينة الواجب تغطيتها، بينما الوجه لا يدخل ضمن ذلك.

 

 

مقدمة

يحظى البحث الفقهي بأهمية خاصة في بيان الأحكام الشرعية، لا سيّما في المسائل التي تمثل موضع ابتلاء عملي، حيث يتطلب الأمر تحقيقاً دقيقاً واستنباطاً مستنداً إلى الأدلة الشرعية المعتبرة. ومن بين هذه المسائل التي شغلت اهتمام الفقهاء مسألة وجوب ستر المرأة لجميع بدنها عدا الوجه والكفين، والتي تُعد من القضايا الفقهية ذات الأثر المباشر في الحياة الاجتماعية، مما يستدعي دراسة معمقة للأدلة الشرعية المرتبطة بها.

يهدف هذا البحث إلى معالجة الإشكاليات المرتبطة بهذه المسألة من خلال الإجابة على عدة تساؤلات رئيسة: هل يوجد دليل قرآني واضح على وجوب الحجاب وستر المرأة لجميع بدنها عدا الوجه والكفين؟ وفي حال عدم توفر دليل قرآني صريح، فما مدى حجية الأدلة الروائية التي يعتمدها الفقيه في تحديد نطاق الستر؟ وهل هناك اختلاف في حدود هذا الستر وفقاً للمصادر الفقهية؟

ولتحقيق هذه الغاية، تم تقسيم البحث إلى ثلاثة محاور رئيسية، يتناول الأول الأدلة القرآنية التي يمكن أن يستند إليها في تقرير هذا الحكم، فيما يسلط الثاني الضوء على الأدلة الروائية ودورها في عملية الاستنباط الفقهي، وأخيراً، يُخصص المحور الثالث لعرض النتائج المستخلصة من البحث والخاتمة التي تتضمن أبرز ما توصلت إليه الدراسة من استنتاجات.

 

 

المبحث الأول: الأدلة القرآنية

الدليل الأول: آية القواعد، الآية 60 من سورة النور

آية القواعد، وهي قوله تعالى: ﴿وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾([1]).

القواعد جمع قاعدة، والمراد منها المرأة التي قعدت عن النكاح، فلا ترجوه. وقد بيّنت الآية المراد منها كوصف توضيحي فقالت: ﴿الْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ: اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا﴾، أي كل امرأة لا ترجو نكاحًا، فلا تخصيص للعجوز، بل هو عام شامل لكل امرأة لا يرغب بها راغب للنكاح([2]).

والتبرج -كما في المجمع- إظهار المرأة لمحاسنها وما يجب عليها ستره([3])، والآية في مقام استثناء القواعد من النساء من عموم حكم الحجاب، فالكبيرة والمسنة لا بأس عليها فيما لو لم تحتجب بشرط عدم التبرج بزينة.

وهو كما ترى، فإن كانت القواعد مستثناة من عموم حكم الحجاب، فمن باب الأولى استثناء الوجه واليدين في جواز الإظهار أمام الناظر الأجنبي. والكلام فيه تفصيل في خصوص هذه الآية، ولكننا نقتصر على موضع الحاجة من البحث هنا، والتفصيل موكول إلى محله من البحوث الكتب والمطولات.

 

الدليل الثاني: آية الزينة، الآية 31 من سورة النور

قوله تعالى: ﴿وَ قُل لِّلۡمُؤۡمِنَٰتِ يَغۡضُضۡنَ مِنۡ أَبۡصَٰرِهِنَّ وَ يَحۡفَظۡنَ فُرُوجَهُنَّ وَ لَا يُبۡدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنۡهَا ۖ وَ لۡيَضۡرِبۡنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَیٰ جُيُوبِهِنَّ ۖ وَ لَا يُبۡدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوۡ ءَابَآئِهِنَّ أَوۡ ءَابَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوۡ أَبۡنَآئِهِنَّ أَوۡ أَبۡنَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوۡ إِخۡوَٰنِهِنَّ أَوۡ بَنِیٓ إِخۡوَٰنِهِنَّ أَوۡ بَنِیٓ أَخَوَٰتِهِنَّ أَوۡ نِسَآئِهِنَّ أَوۡ مَا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُهُنَّ أَوِ ٱلتَّٰبِعِينَ غَيۡرِ أُوۡلِی ٱلۡإِرۡبَةِ مِنَ ٱلرِّجَالِ أَوِ ٱلطِّفۡلِ ٱلَّذِينَ لَمۡ يَظۡهَرُواْ عَلَیٰ عَوۡرَٰتِ ٱلنِّسَآءِ ۖ وَ لَا يَضۡرِبۡنَ بِأَرۡجُلِهِنَّ لِيُعۡلَمَ مَا يُخۡفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ ۚ وَ تُوبُوٓاۡ إِلَی ٱللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ﴾([4]).

تدل هذه الآية دلالة واضحة على تشريع الحجاب بفقرتين:

أما الفقرة الأولى، فقوله تعالى: ﴿وَلَا يُبۡدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنۡهَا﴾ حيث دلت على أن الزينة الظاهرة يجوز إظهارها، وأما الزينة الباطنة فمنهي عن إظهارها. وتُفسَّر الزينة الظاهرة بالوجه والكفين، وقد يعبّر بالزينة ويراد منها القطعة من القماش التي تضعها المرأة على بدنها لأجل ستره. وأما الزينة الباطنة فهي جسد المرأة بتمامه عدا الوجه والكفين.

وأما الفقرة الثانية، فقوله تعالى: ﴿وَلۡيَضۡرِبۡنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَیٰ جُيُوبِهِنَّ﴾، إذ المراد من الجيوب: الصدور([5])، وفي الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): “أَنْسَكُ الناسِ نسكًا أنصحُهم جيبًا”([6])، أي الرجل الناصح الجيب الأمين الذي لا غش فيه، ناصح القلب والصدر. وأما الخمر فجمع خمار، وهو المقنعة، وسمّيت بذلك لأن الرأس يخمّر بها ويغطيها، وكل شيء غطيته فقد خمَّرته، وخمار المرأة غطاء رأسها([7]). فيكون المراد من الآية المباركة أمر النساء بستر رؤوسهن وأعناقهن ونحورهن، وليسترن الأعناق والنحور.

نعم قد وقع الخلاف بين الفقهاء في الوجه، فذهب بعضهم -كالسيد السبزواري في المهذّب- إلى أن ضرب الخمر على الجيوب يكون بإسدال الخمار من أعلى الرأس إلى النحر مرورا بالوجه، فيكون الوجه داخلا([8]). وذهب آخرون -كالبروجردي- إلى أن ضرب الخمر على الجيوب يكون بإسدال الخمار من جانبي الرأس، بحيث يلتقي طرفاه في منطقة النحر، فيكون الوجه خارجًا([9]).

الدليل الثالث: الآية 59 من سورة الأحزاب

قوله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِیُّ قُل لِّأَزۡوَٰجِكَ وَ بَنَاتِكَ وَ نِسَآءِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ يُدۡنِينَ عَلَيۡهِنَّ مِن جَلَٰبِيبِهِنَّ ۚ ذَٰلِكَ أَدۡنَیٰٓ أَن يُعۡرَفۡنَ فَلَا يُؤۡذَيۡنَ ۗ وَ كَانَ ٱللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾([10]).

ودلالة هذه الآية صريحة في الأمر بستر البدن، فهي تأمر بإدناء الجلابيب سترًا للمرأة عن أن تعرف، والإدناء هنا بمعنى التقريب. وأما لفظ الجلابيب فجمعُ جلباب، وقد اختلف في معنى هذه اللفظة لمعان متعددة، إلا أن هناك جامع يجمع هذا التعدد للمعاني، وقد بيّن بعض اللغويين وبعض المفسرين أقوال متعددة لهذه اللفظة:

منها: أن المراد من الجلباب هو الخمار الذي يستر رأس المرأة ووجهها([11]).

ومنها: أن الجلباب ستر أكبر من الخمار ودون الرداء، يستر رأس المرأة وصدرها([12]).

ومنها: أن الجلباب هو عبارة عن الثوب الذي يستر البدن كله ويغطي الثياب([13])، قال في لسان العرب: وقيل هو ما تغطي به المرأة الثياب من فوق كالملحفة. (وهو ما نعبر عن بالعباءة عندنا في مجتمعاتنا.

ويتضح مما سبق أن هناك جامع يجمع بين الثلاثة الآراء، وهو وجوب ستر الرأس والصدر، ولو أرادت الآية خصوص الوجه لذكرته صريحًا، إلا أن يقال بأن الرأس متضمن للوجه، فحينئذ يمكن أن يناقش في ذلك، كما مرّ التعرض له سابقًا. وعلى أي حال فإن لم تكفِ هذه الآية كشاهد على الاستثناء، فلا أقل من أن يقال بأن الروايات -التي سنتعرض لها في المبحث القادم- كفيلة بالتخصيص، فتخرج هذا بعض الأفراد بالمخصِّص المنفصل، فيتم الاستثناء حينئذ.

المبحث الثاني: الأدلة الروائية

هناك جملة من الروايات التي تعطي مفادًا بوجوب الستر لجميع بدن المرأة غير الوجه والكفين، وقد سقنا أدلة قرآنية في المبحث السابق، ونستعرض هنا بعض الأدلة الروائية، فالروايات التي وردت في هذا المورد روايات متعددة، منها على سبيل المثال لا الحصر:

 الدليل الأول: معتبرة مسعدة بن زياد

ما رواه عبد الله بن جعفر في قرب الاسناد عن هارون بن مسلم عن مسعدة بن زياد قال: (سَمِعْتُ جَعْفَرًا: وسُئِلَ عَمَّا تُظْهِرُ اَلْمَرْأَةُ مِنْ زِينَتِهَا قَالَ اَلْوَجْهَ واَلْكَفَّيْنِ‌)([14]).

وهي رواية معتبرة السند، فأما عبد الله بن جعفر فهو أبو العباس عبد الله بن جعفر بن الحسين بن مالك بن جامع الحميري القمي، وقد وثقه أعلام الرجال كالنجاشي والطوسي ونصوا على وثاقته، فهو ثقة جليل إمامي صحيح المذهب([15])، قال عنه النجاشي: “شيخ القميين ووجههم، قدم الكوفة سنة نيف و تسعين و مائتين، وسمع أهلها منه، فأكثروا، و صنّف كتبا كثيرة، يعرف منها: كتاب الإمامة، كتاب الدلائل، كتاب العظمة و التوحيد، كتاب الغيبة و الحيرة (…)، مسائل الرجال و مكاتباتهم أبا الحسن الثالث عليه السلام، مسائل لأبي محمد الحسن عليه السلام على يد محمد بن عثمان العمري، كتاب قرب الإسناد إلى صاحب الأمر عليه السلام، مسائل أبي محمد و توقيعات، كتاب الطب. أخبرنا عدة من أصحابنا عن أحمد بن محمد بن يحيى العطار عنه بجميع كتبه”([16]). وأما هارون بن مسعدة، فهو أبو القاسم هارون بن مسلم بن سعدان، ثقة جليل وجه إمامي، لقي الهادي والعسكري (عليهما السلام)([17]). وأما مسعدة بن زياد فهو مسعدة بن زياد الربعي، فثقة عين جليل إمامي، روى عن الباقر والصادق (عليهما السلام)([18])، وهكذا أورد النجاشي في حقه: “ثقة، عين، روى عن أبي عبد الله عليه السلام. له كتاب في الحلال والحرام مبوب. أخبرنا محمد بن محمد قال: حدثنا أحمد بن محمد الزراري قال: حدثنا عبد الله بن جعفر الحميري قال: حدثنا هارون بن مسلم، عن مسعدة بن زياد بكتابه”([19]).

وأما دلالة الرواية فواضحة، إذ السائل فيها يسأل الإمام (عليه السلام) عمّا يمكن للمرأة أنَّ تظهره من بدنها ولا يجب الستر فيه، فيجيبه الإمام عليه السلام بأن الذي يمكن للمرأة أن تظهره من بدنها هو الوجه والكفين فقط، وهي واضحة الدلالة على وجوب الستر لتمام البدن باستثناء ذينك الموضعين، ومنه يتضح عدم جواز إظهار تمام بدن المرأة للناظر الأجنبي باستثناء الوجه والكفين.

الدليل الثاني: معتبرة عبد الرحمن بن الحجاج

وهي ما رواه محمد بن اسماعيل، عن الفضل بن شاذان، وعن أبي علي الاشعري عن، محمد بن عبد الجبار، جميعًا، عن صفوان بن يحيى، عن عبد الرحمن بن الحجاج، قال: (سَأَلْتُ أَبَا إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ عَنِ الْجَارِيَةِ الَّتِي لَمْ تُدْرِكْ‌: مَتىٰ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُغَطِّيَ رَأْسَهَا مِمَّنْ لَيْسَ بَيْنَهَا وبَيْنَهُ‌ مَحْرَمٌ؟ ومَتىٰ يَجِبُ عَلَيْهَا أَنْ تُقَنِّعَ‌ رَأْسَهَا لِلصَّلَاةِ؟ قَالَ‌: لَا تُغَطِّي رَأْسَهَا حَتّىٰ تَحْرُمَ عَلَيْهَا الصَّلَاةُ‌»)([20]).

أما السند فمعتبر، فمحمد بن اسماعيل هو أبو الحسن محمد بن إسماعيل البندقي النيسابوري، أَكثَرَ الشيخُ الكليني (329هـ.ق) الرواية عنه، وهو ثقة إمامي، وقد ورد اسمه في رجال الطوسي([21]). وأما الفضل بن شاذان فهو أبو محمد الفضل بن شاذان النيسابوري، الملقب بالأزدي، والنيسابوري والنيشابوري، ثقة إمامي جليل القدر، وثقه النجاشي([22])، وذكره الطوسي في رجاله([23]). نعم؛ قد أورد الشيخ الكشي (ت 340 هـ.ق) أنه مذموم في الرواية([24])، ولكن بعد توثيق الشيخ النجاشي والشيخ الطوسي لا ينظر إلى هذا الذم. وأما أبو علي الأشعري فهو أبو علي أحمد بن إدريس، الأشعري، القمي، المعلّم، ثقة إمامي جليل القدر، صحيح الحديث والمذهب([25])، وثقه الشيخ النجاشي([26])، وذكره الشي الطوسي في الخلاصة([27]) والفهرست([28]).  وأما محمد بن عبد الجبار فهو محمد بن عبد الجبار القمي، إمامي جليل القدر، صحيح المذهب([29]). وأما صفوان بن يحيى فهو أبو محمد صفوان بن يحيى البجلي، بيّاع السابري، الكوفي، ثقة جليل إمامي، من أصحاب الإجماع، لا يروي ولا يرسل إلا عن ثقة([30]). وأما عبد الرحمن بن الحجاج فهو عبد الرحمن بن الحجاج البجلي، بيّاع السابري، الكوفي، ثقة جليل إمامي، صحيح المذهب، وثقه النجاشي، والطوسي([31]). رمي بالكيسانية ورجع عن الحق، ولقي الرضا عليه السلام ومات في عصره([32]).

وأما متن الرواية فواضح، فالمقصود من الجارية هي التي بلغت حد التكليف، وتفصيل الكلام في ذلك موكول إلى محله، والذي عليه المشهور هو أن الجارية إذا بلغت التسع فقد تكلفت، ودليل ذلك عدة روايات، من بينها راوية حمران، قال: «سألت أبا جعفر (عليه السلام) قلت له: متى يجب على الغلام أن يؤخذ بالحدود التامّة ويقام عليه ويؤخذ بها؟ قال: إذا خرج عنه اليتم وأدرك. قلت: فلذلك حدٌّ يعرف به؟ فقال: إذا احتلم، أو بلغ خمس عشرة سنة([33])، أو أشعر أو أنبت([34]) قبل ذلك، أقيمت عليه الحدود التامّة، وأخذ بها، وأخذت له. قلت: فالجارية متى تجب عليها الحدود التامّة وتؤخذ بها ويؤخذ لها([35])؟ قال: إن الجارية ليست مثل الغلام، إن الجارية إذا تزوجت ودخل بها ولها تسع سنين ذهب عنها اليتم ودفع إليها مالُها وجاز أمرها في الشراء والبيع…»([36])، وغيرها من الروايات.

والمراد من قوله في معتبرة عبد الرحمن بن الحجاج: (تغطي رأسها) و (تقنع رأسها) واحدٌ، والسائل في الرواية في مقام التفريق بين حكمها حال الصلاة وحال غير الصلاة فقط. والمراد من قوله (عليه السلام) :”حتى تحرم عليها الصلاة”، قال في مرآة العقول: “قوله عليه السلام: «حتى تحرم عليها الصلاة» الظاهر أنه كناية عن الحيض، و يحتمل أن يكون حرمة الصلاة بدون القناع”([37]).

والرواية واضحة الدلالة على أن مَن وصلت إلى الوقت الذي تكلَّف بالأحكام الشرعية أن عليها تغطي رأسها عن الرجل الغريب عليها وغير المحرَم، ما عدا الوجه فيجوز أن تبرزه وتظهره.

الدليل الثالث: معتبرة الفضيل بن يسار

ما رواه محمد بن يعقوب، عن عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن جميل عن الفضيل، قال: (سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الذراعين من المرأة هما من الزينة التي قال الله: ﴿وَلَا يُبْدِيْنَ زِيْنَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ﴾؟ قال: نعم، وما دون الخمار([38]) من الزينة وما دون السوارين([39]))([40]).

أما من ناحية السند فلا كلام فيه. وأما المتن فيتعيّن التحقيق في بعض المفردات، ومنها مفردة الذراعين في سؤال السائل منه (عليه السلام): “عن الذراعين من المرأة”، فذكر أهل اللغة بأن الذراع والأذرع والذرعان ما هو من طرف المرفق إلى طرف الإصبع الوسطى([41])، ويتضح من خلال ما تبينه الروايات أن المراد من الذراع الواجب ستره هو ما فوق الكفين من اليد. قال في الحدائق ما حاصله إن المراد من قوله (عليه السلام): “ما دون السوارين” يقصد بالسوارين من اليدين، والمراد بها ما تحت السوار، أي الجهة التي تقابل العلو، والتي هي المعصمين، فإن الكفين أسفل نسبة إلى ما فوق السوارين من اليدين.

وقوله (عليه السلام): “ما دون الخمار” هو الموضع الذي يستره الخمار من الرأس والرقبة، والخمار هو الغطاء الذي تضعه المرأة على رأسها ويمتد ليغطي الرقبة، وحينئذ يكون هذا الموضع من مواضع الزينة، وأما ما خرج من الوجه فلا يعد منها([42]).

والمراد موضع القلادة فما فوقها، والدملج وما دونه، والخلخال وما سفل منه، حال إظهارها للناظر الأجبني([43]).

وأما الزينة فهي الثياب، والكحل، والخاتم، وخضاب الكف، والسوار، جاء ذلك في تفسير القمي (ره) في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام في قوله تعالى «ولاٰ يُبْدِينَ‌ زِينَتَهُنَّ‌ إِلاّٰ مٰا ظَهَرَ مِنْهٰا» فهي الثياب والكحل والخاتم و خضاب الكف و السوار» ([44]). وعلى أي حال، فدلالتها واضحة على المطلوب من حرمة كشف ما عدا الوجه والكفين، ولا نقاش فيها.

النتيجة والمحصّل

والحاصل أنه ومن خلال ما تقدّم من دراسة الأدلة القرآنية والروايات الواردة في المسألة والمدونة في طي البحث، يتبين أن النصوص القرآنية قد لا تكون وحدها كافية لإثبات وجوب ستر المرأة لجميع بدنها عدا الوجه والكفين بشكل قطعي، حيث يمكن تفسيرها بطرق متعددة. بيد أن الأدلة الروائية المعتبرة جاءت موضّحة لهذا الحكم ومبيّنة أن الوجه والكفين مستثنيان من وجوب الستر، بينما بقية البدن مشمول بحكم الحجاب. وعليه، فإن القول بجواز كشف الوجه والكفين خارج نطاق مواضع الزينة الأخرى هو الظاهر والأقرب إلى الاستدلال الفقهي بناءً على الجمع بين الدلالات القرآنية والتأكيدات الروائية الواردة عن أهل البيت (عليهم السلام).

والحمد لله رب العالمين

جعفر السعيد

10 شهر رمضان 1446هـ

11 مارس 2025م

المصادر والمراجع

– القرآن الكريم

– النجاشي، أحمد بن علي: رجال النجاشي. تحقيق: جماعة المدرسين في الحوزة العلمية بقم المقدسة. مؤسسة النشر الإسلامي، قم المقدسة – الجمهورية الإسلامية في إيران.

– العلامة الحلي، الحسن بن يوسف: خلاصة الأقوال في معرفة الرجال (رجال العلامة الحلي). تحقيق: محمد صادق بحر العلوم. الناشر: مكتبة الشريف الرضي، الطبعة الثانية، 1402هـ، قم المقدسة – الجمهورية الإسلامية في إيران.

– الحر العاملي، محمد بن الحسن: تفصيل وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة. تحقيق ونشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث (وغيرها…)، الطبعة الثالثة، 1416هـ، قم المقدسة – الجمهورية الإسلامية في إيران.

– المجلسي، محمد باقر بن محمد تقي: مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، تحقيق: مرتضى العسكري، نشر: دار الكتب الإسلامية، الطبعة الثانية، 1363 هـ.ش، طهران – الجمهورية الإسلامية في إيران.

– الكليني، محمد بن يعقوب (ت329 هـ.ق): الكافي، تحقيق: مركز بحوث دار الحديث، نشر: دار الحديث، الطبعة الأولى، 1387 هـ.ش، قم المقدسة – الجمهورية الإسلامية في إيران.

– الكشي، محمد بن عمرو (ت 340 هـ.ق): اختيار معرفة الرجال = رجال الكشي، تحقيق: محمد باقر بن محمد ميرداماد، نشر: مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث، الطبعة الأولى، 1404 هـ.ق، قم المقدسة – الجمهورية الإسلامية في إيران.

– البحراني، يوسف بن أحمد آل عصفور (ت 1186 هـ.ق): الحدائق الناظرة في أحكام العترة الطاهرة، نشر جماعة المدرسين في الحوزة العلمية بقم المقدسة، مؤسسة النشر الإسلامي، تقديم: عبد العزيز الطباطبائي، الطبعة الأولى، 1363 هـ.ش، قم المقدسة – الجمهورية الإسلامية في إيران.

– معلوف، لویس (2000): المنجد في اللغة العربیة المعاصرة، نشر: دار المشرق، بيروت – جمهورية لبنان العربية.

– النوري، حسين بن محمد تقي (ت 1320 هـ): مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل، نشر وتحقيق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، الطبعة الأولى، 1408هـ، بيروت – جمهورية لبنان العربية.

– القمي، علي بن إبراهيم: تفسير القمي، تحقيق وتصحيح وتقديم: السيد طيب الموسوي الجزائري، طبع سنة 1404هـ.

– الإيرواني، محمد باقر: دروس تمهيدية في تفسير آيات الأحكام، نشر: دار الفقه للطباعة والنشر، الطبعة الثالثة، 1428 هـ.ق، قم المقدسة – الجمهورية الإسلامية في إيران.

– الطباطبائي، محمد حسين: الميزان في تفسير القرآن، نشر: منشورات اسماعيليان.

– الطريحي، فخر الدين: مجمع البحرين ومطلع النيّرين، نشر: انتشارات مرتضوي.

– السبزواري، عبد الأعلى، مهذب الأحكام في بيان الحلال والحرام، نشر: دار التفسير، قم المقدسة – الجمهورية الإسلامية في إيران.

– البروجردي، حسين: نهاية التقرير في مباحث الصلاة، تحقيق وتصحيح ونشر: مركز الأئمة الأطهار (ع) الفقهي، الطبعة الثالثة، 1420 هـ.ق، قم المقدسة – الجمهورية الإسلامية في إيران.

– الطبرسي، الفضل بن الحسن: مجمع البيان في تفسير القرآن، تحقيق وتعليق: لجنة من العلماء والمحققين الأخصائيين، نشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، الطبعة الأولى، 1415 هـ.ق – 1995م، بيروت- لبنان.

– الفراهيدي، الخليل بن أحمد: كتاب العين، تحقيق: د. مهدي المخزومي، و د. إبراهيم السامرائي، نشر: دار ومكتبة الهلال.

– ابن منظور الأنصاري، جمال الدين: لسان العرب، نشر: دار صادر، الطبعة الثالثة، 1414هـ، بيروت – لبنان.

([1])  سورة النور/ الآية 60.

([2]) الميزان في تفسير القرآن، الآية موضع الشاهد: 15/164. دروس تمهيدية في تفسير آيات الأحكام: 1/387.

([3]) انظر: مجمع البحرين: 2/277.

([4]) القرآن الكريم، سورة النور: 31.

([5]) انظر: مجمع البحرين: 2/28.

([6]) الكافي: 2/163.

([7]) انظر: مجمع البحرين: 3/292.

([8]) مهذب الأحكام: 5/231.

([9]) نهاية التقرير: 1/259.

([10]) القرآن الكريم، سورة الأحزاب: 59.

([11]) مجمع البيان: 8/178.

([12]) العين: 6/132.

([13]) لسان العرب: 1/273.

([14]) وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج20، ص202، أبواب مقدمات النكاح، ب109، ح5.

([15]) انظر: رجال النجاشي: 219، رجال الطوسي: 400، فهرست الطوسي: 294، خلاصة الأقول للعلامة الحلي: 106.

([16]) انظر: رجال النجشي: 219-220.

([17]) انظر: رجال النجاشي: 438، خلاصة الأقول للعلامة الحلي: 180.

([18]) انظر: رجال النجاشي: 415، خلاصة الأقوال للعلامة الحلي: 173.

([19]) رجال النجاشي: 415.

([20])  وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج20، ص228، أبواب مقدمات النكاح، ب126، ح2. كتاب الكافي ج11، ص223، ح2/10269.

([21]) رجال الطوسي، ص440، رقم 6280.

([22]) انظر: رجال النجاشي: 306، الفهرست للطوسي: 361، الخلاصة للعلامة الحلي: 132.

([23]) المصدر السابق.

([24]) اختيار معرفة الرجال = رجال الكشي: 819.

([25]) انظر: الخلاصة للحلي: 16، رجال النجاشي: 92، الفهرست للطوسي: 64.

([26]) المصدر السابق.

([27]) المصدر السابق.

([28]) المصدر السابق.

([29]) انظر: رجال الطوسي: 391، و401، الخلاصة للعلامة الحلي: 142.

([30]) انظر: اختيار معرفة الرجال: 796، رجال النجاشي: 120، رجال الطوسي: 338 و359، الخلاصة للحلي: 88، الفهرست للطوسي: 241، وغيرها.

([31]) انظر: اختيار معرفة الرجال: 2/741، رجال النجاشي: 237، الخلاصة للحلي 113، رجال البرقي: 473.

([32]) الخلاصة للحلي: 113.

([33]) في الكافي: «… خمسة عشر…» (الكافي: ٧/١٩٨، ح١.

([34]) الإشعار: هو نبات الشعر على الوجه. أما الإنبات: فهو نبات الشعر على العانة. هذا ويذكر الفقهاء الإنبات دون الإشعار، لأن الإنبات يكون قبل الإشعار، فإذا ما ثبت الإنبات ثبت الإشعار.

([35]) في الكافي: «… تؤخذ لها ويؤخذ بها…» (الكافي: ٧/١٩٨، ح١).

([36]) وسائل الشيعة، الباب ٤ من أبواب مقدمة العبادات، الحديث ٢.

([37]) مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج20، ص370.

([38])  ما دون الخمار يعني ما تحت الخمار وهو الشعر والرقبة.

([39])  ما دون السوارين يعني ما تحت السوارين يعني الساعد.

([40])  وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج20، ص201، أبواب مقدمات النكاح، باب 109، ح1.

([41]) لویس معلوف (2000)، المنجد في اللغة العربیة المعاصرة. بيروت: دار المشرق.

([42]) انظر: الحدائق الناظرة: 24/ 55.

([43]) انظر: الحدائق الناظرة: 44/55.

([44]) تفسير على بن إبراهيم ج ٢ ص ١٠١، المستدرك ج ٢ ص ٥٥٥ ب ٨٤ ح ٣.