في نفي الفرق بين الحق والحكم
السيد أبو القاسم الخوئي
لا ينبغي الريب في أن الحكم والحق متحدان حقيقة، لأن قوامها بالاعتبار الصرف.
وتوضيح ذلك: أن المجعولات الشرعية على ستة أقسام:
- التكليفي الإلزامي، كالواجبات والمحرمات.
- التكليفي غير الإلزامي، كالمستحبات والمكروهات والمباحات.
- الوضعي اللزومي الذي يقبل الانفساخ، كالبيع والإجارة والصلح ونحوها، فإنها وإن كانت لازمة في نفسها ولكنها تنفسخ بالإقالة ونحوها.
- الوضعي اللزومي الذي لا يقبل الانفساخ، كالزواج، فإنه لا ينفسخ إلا في موارد خاصة.
- الوضعي الترخيصي الذي يقبل الاسقاط، كحق الشفعة وحق الخيار، فلصاحب الحق أن يرفع يده عن حقه ويسقطه.
- الوضعي الترخيصي الذي لا يقبل الاسقاط، كالجواز في الهبة، فإنه حكم مجعول للشارع ولا يرتفع بالإسقاط.
وهذه الأمور الاعتبارية وإن اختلفت من حيث الآثار اختلافا واضحا، ولكنها تشترك في أن قوامها بالاعتبار المحض، وإذن فلا وجه لتقسيم المجول الشرعي أو العقلائي إلى الحق والحكم لكي نحتاج إلى بيان الفارق بينهما، بل كلها حكم شرعي، أو عقلائي قد اعتبر لمصالح خاصة. بناء على مسلك العدلية من تبعية الأحكام للملاكات الواقعية.
نعم تختلف هذه الأحكام في الأثر- كما أشرنا إليه قريبا- اختلافا ظاهرا: فبعضها يقبل الاسقاط وبعضها لا يقبله، والسر في هذا الاختلاف هو أن زمام تلك الأمور بيد الشارع حدوثا وبقاء فقد يحكم ببقائه كما حكم بحدوثه، وقد يحكم بارتفاعه ولو كان ذلك باختيار أحد المتعاملين أو كليهما. نعم المتبع في ذلك- في مقام الإثبات- هو الأدلة الشرعية.
وعلى الجملة: إن الجواز واللزوم الوضعيين كالجواز واللزوم التكليفيين، فان جميعها من الأحكام الشرعية ولا تفاوت في ماهيتها وذواتها وإن اختلفت آثارها. فاعطف نظرك، هل ترى فارقا بين جواز قتل المشرك- الذي يسمى حكما شرعيا- وبين سلطنة ولي الدم على قتل القاتل الذي يسمى حقا شرعيا، لقبوله الاسقاط؟ ثم أرجع البصر كرتين، هل ترى فارقا بين حق الحضانة والأبوة، والولاية وأشباهها مما لا يقبل الاسقاط، وبين حق الشفعة وحق الخيار القابلين للإسقاط؟ فافهم واغتنم.
ومن الغريب أن جمعا من الفقهاء تصدوا لبيان الفارق بين الحق والحكم، حتى أن بعضهم قد ألحقه بالبديهيات، زعما منه أن الاختلاف بينهما أظهر من الشمس، وأبين من الأمس، وذكر جماعة: أن الحق مرتبة ضعيفة من الملكية، وصاحبه مالك لشيء يرجع أمره إليه، بخلاف الحكم، فإنه مجرد جعل الرخصة في فعل شيء أو تركه، أو الحكم بترتب أثر على فعل أو ترك.
وذكر طائفة: أن الحق ما يقبل السقوط والإسقاط، أو النقل والانتقال، بخلاف الحكم، فإنه لا يقبل شيئا من هذه الأمور إلى غير ذلك مما ذكروه في هذا المقام. ولكنك قد عرفت: أنه لا يرجع شيء من ذلك إلى محصل.
نعم لا مانع من تخصيص إطلاق الحق اصطلاحا بطائفة من الأحكام: وهي التي تقبل الإسقاط، إذ لا مشاحة في الاصطلاح. وأظن- وإن كان الظن لا يغني من الحق شيئا- أن هذا الإطلاق صار سببا لاختلاف العلماء في حقيقة الحق والحكم وبيان الفارق بينهما، واللّه العالم.
ومما يدل على اتحاد الحق والحكم أن لفظ (الحق) في اللغة بمعنى الثبوت، ولذا يصح إطلاقه على كل أمر متقرر في وعائه المناسب له، سواء أكان تقررا تكوينيا أم كان اعتباريا، وهو بهذا المعنى قد استعمل في عدة موارد من الكتاب العزيز [1]، ومن هنا يصح إطلاق كلمة (الحق) على الخبر الصادق، لثبوت مضمونه في الواقع.
ولهذا أيضا يطلق الحق- بقول مطلق- على اللّه تعالى، لبطلان غيره في جنبه سبحانه، ومن هنا قيل: إن أصدق شعر أنشئ في الجاهلية هو قوله: ألا كل شيء ما خلا اللّه باطل.
وإذن فمفهوم الحق يعم جميع المجعولات الشرعية، بل جميع الأمور الثابتة في أي صقع من الأصقاع، فلا وجه لتخصيصه بالأحكام فضلا عن تخصيصه بحصة خاصة منها.
[1]: قال الله تعالى لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ على أَكْثَرِهِمْ (أي ثبت) يس 36: 6.
قال الله تعالى فَحَقَّ عَلَيْنٰا قَوْلُ رَبِّنٰا (أي ثبت) الصافات 37: 30.
قال الله تعالى أَ فَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذٰابِ (أي ثبت) الزمر 39: 20.
قال الله تعالى إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ (أي ثبتت) يونس 10: 96.
قال الله تعالى وَ يُحِقُّ اللّٰهُ الْحَقَّ بِكَلِمٰاتِهِ (أي يثبته) يونس 10: 82.
قال الله تعالى لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَ يُبْطِلَ الْبٰاطِلَ (أي يثبت) الأنفال 8: 8.
مصباح الفقاهة، السيد أبو القاسم الخوئي، ج٢، ص٦٨