Search
Close this search box.
logo_black

في حُجّيّة الظهور

 

(ما هو المطلوب في التفسير؟)

إذا أردنا أن نفسّر كلمة من ناحيةٍ لغوية ـ كما يصنع اللغويون في معاجم اللغة ـ فسوف نفسِّرها بمعناها الذي ارتبطت به في اللغة، أو بأقرب معانيها إليها إذا كانت ذات معان متعدّدة، فنقول عن كلمة (بحر) مثلا: إنّها تدلّ في اللغة على الكمّية الهائلة الغزيرة من الماء المجتمعة في مكان واحد ؛ لأنّ هذه هو أقرب المعاني إلى الكلمة في اللغة، أي المعنى الظاهر منها.

وأمّا إذا جاءت كلمة (بحر) في كلام شخص يقول: (اذهب إلى البحر في كلّ يوم) وأردنا أن نفسّر الكلمة في كلامه فلا يكفي أن نعرف ما هو أقرب المعاني إلى كلمة (البحر) لغة، أي المعنى الظاهر منها، بل يجب أن نعرف ماذا أراد المتكلِّم بالكلمة ؛ لأنّ المتكلّم قد يريد بالكلمة معنىً آخر غير المعنى الظاهر. فالمهمّ بصورة أساسية إذن أن نكتشف مراد المتكلّم، أي المدلول النفسي للفظ، ولا يكفي مجرّد معرفة المدلول اللغوي.

ومثال ذلك أيضا: صيغة الأمر إذا جاءت في كلام الآمر ولم ندر هل أراد الوجوب أو الاستحباب؟ فإنّ الغرض الأساسي هو أن نعرف ماذا أراد؟ ولا يكفينا أن نعرف مدلول الصيغة لغويا فحسب، إذ قد يكون مدلولها اللغوي هو الوجوب والمتكلّم قد أراد الاستحباب على سبيل الاستعمال المجازي مثلاً.

وإذا كنّا قد درسنا في الفصل السابق المدلول اللغوي لصيغة (إفعل) فإنّما ذلك لكي نستفيد منه في تحديد المدلول النفسي التصديقي للصيغة، ولكي يوجّهنا المدلول اللغوي إلى معرفة المدلول التصديقي واكتشاف إرادة المتكلّم كما سنرى.

 

(ظهور حال المتكلّم)

عرفنا سابقا أنّ للدلالة مصدرين:

أحدهما: اللغة بما تشتمل عليه من أوضاع، وهي مصدر الدلالة التصوّرية.

والآخر: حال المتكلّم، وهو مصدر الدلالة التصديقية النفسية.

وكما نتساءل بالنسبة إلى المصدر الأوّل: ما هو أقرب المعاني إلى اللفظ في اللغة لكي يكون هو المعنى الظاهر للَّفظ لغوياً من بين سائر معانيه؟ كذلك نتساءل بالنسبة إلى المصدر الثاني: ما هو المدلول التصديقي النفسي الأقرب إلى حال المتكلّم؟ ونريد بالمعنى الأقرب إلى اللفظ لغة في السؤال الأوّل: المعنى الذي ينتقل الذهن إلى تصوّره عند سماع اللفظ قبل أن ينتقل إلى تصوّر غيره، ونريد بالمدلول التصديقي الأقرب لحال المتكلّم في السؤال الثاني: ما هو المرجّح في تقدير نوعية الإرادة التي توجد في نفس المتكلّم.

ومثال ذلك: كلمة (البحر)، فنحن نتساءل أوّلاً: ما هو المعنى الأقرب إليها في اللغة، هل البحر من الماء أو البحر من العلم؟ ونجيب: أنّ المعنى الأقرب لغويا لها بموجب النظام اللغوي العام هو البحر من الماء ؛ لأنّه معنىً حقيقي، والمعنى الحقيقي في النظام اللغوي العام أقرب من المعنى المجازي، ويعني كون المعنى الحقيقي أقرب إلى اللفظ: أنّ الذهن ينتقل إلى تصوّره عند سماع اللفظ قبل أن ينتقل إلى تصوّر غيره.

ونتساءل ثانياً: ماذا يريد المتكلِّم بكلمة (البحر) في قوله: (اذهب إلى البحر في كلّ يوم)؟ فهل يريد المعنى الأقرب لغويا الذي نتصوّره عند سماع الكلمة قبل غيره من المعاني وهو البحر من الماء، أو يريد المعنى الأبعد لغوياً وهو البحر من العلم؟ ولمّا كان مصدر الدلالة التصديقية الدالّة على إرادة المتكلّم هو حال المتكلّم فيجب أن نعرف أيَّ هذين التقديرين أقرب إلى حال المتكلِّم، فهل الأقرب إلى حاله أن يريد المعنى الحقيقي الظاهر من اللفظ لغةً، أو المعنى الأبعد؟

ويجيب علم الأصول على ذلك: أنّ الظاهر من حال المتكلّم أنّه يريد المعنى الأقرب لغوياً، ويعني كون هذا أقرب إلى حال المتكلّم: أنّ المرجّح في حال المتكلّم ـ بوصفه قد تكلّم بلفظ له معنى لغوي ظاهر ـ أنّه يريد المعنى الظاهر الأقرب إلى اللفظ دون الأبعد.

فلدينا إذن ظهوران: ظهور لغوي لكلمة (البحر) في المعنى الحقيقي، وهذا الظهور لا يعني أكثر من أنّ الذهن ينتقل إلى تصوّر هذا المعنى قبل تصور المعاني الأخرى، وظهور حالي تصديقي وهو ظهور حال المتكلّم في أنّه يريد باللفظ إفهام الأقرب إليه من معانيه لغةً، وهذا الظهور يعني أنّ الأرجح في حال المتكلّم أن يريد باللفظ معناه الظاهر.

 

(حجّية الظهور)

ومن المقرَّر في علم الأصول أنّ ظهور حال المتكلّم في إرادة أقرب المعاني إلى اللفظ حجّة، ومعنى حجّية هذا الظهور اتّخاذه أساساً لتفسير الدليل اللفظي على ضوئه، فنفترض دائماً: أنّ المتكلم قد أراد المعنى الأقرب إلى اللفظ في النظام اللغوي العام (1) أخذا بظهور حاله. ولأجل ذلك يطلق على حجّية الظهور اسم (أصالة الظهور) ؛ لأنّها تجعل الظهور هو الأصل لتفسير الدليل اللفظي.

وفي ضوء هذه نستطيع أن نعرف لماذا كنّا نهتمّ في الفصل السابق بتحديد المدلول اللغوي الأقرب للكلمة والمعنى الظاهر لها بموجب النظام اللغوي العام، مع أنّ المهمّ عند تفسير الدليل اللفظي هو اكتشاف ماذا أراد المتكلّم باللفظ من معنى؟ لا ما هو المعنى الأقرب إليه في اللغة، فإنّا ندرك في ضوء أصالة الظهور أنّ الصلة وثيقة جداً بين اكتشاف مراد المتكلّم وتحديد المدلول اللغوي الأقرب للكلمة ؛ لأنّ أصالة الظهور تحكم بأنّ مراد المتكلم من اللفظ هو نفس المدلول اللغوي الأقرب، أي المعنى الظاهر من اللفظ لغةً، فلكي نعرف مراد المتكلّم يجب أن نعرف المعنى الأقرب إلى اللفظ لغة لنحكم بأنّه هو المعنى المراد للمتكلّم.

 

(تطبيقات حجية الظهور على الأدلّة اللفظية)

وسوف نستعرض فيما يلي ثلاث حالات لتطبيق قاعدة حجّية الظهور:

الأولى: أن يكون للَّفظ في الدليل معنىً وحيد في اللغة ولا يصلح للدلالة على معنىً آخر في النظام اللغوي العام. والقاعدة العامة تحتِّم في هذه الحالة أن يُحمَل اللفظ على معناه الوحيد ويقال: (إنّ المتكلّم أراد ذلك المعنى) ؛ لأنّ المتكلّم يريد باللفظ دائماً المعنى المحدَّد له في النظام اللغوي العام، ويعتبر الدليل في مثل هذه الحالة صريحا في معناه.

الثانية: أن يكون للَّفظ معانٍ متعدّدة متكافئة في علاقتها باللفظ بموجب النظام اللغوي العام من قبيل المشترك، وفي هذه الحالة لا يمكن تعيين المراد من اللفظ على أساس تلك القاعدة، إذ لا يوجد معنى أقرب إلى اللفظ من ناحية لغوية لتطبَّق القاعدة عليه، ويكون الدليل في هذه الحالة مجملاً.

الثالثة: أن يكون للَّفظ معانٍ متعدّدة في اللغة، وأحدها أقرب إلى اللفظ لغوياً من سائر معانيه، ومثاله كلمة (البحر) التي لها معنى حقيقي قريب، وهو (البحر من الماء). ومعنى مجازي بعيد وهو (البحر من العلم)، فإذا قال الآمر: (اذهب إلى البحر في كلِّ يومٍ) وأردنا أن نعرف ماذا أراد المتكلّم بكلمة (البحر) من هذين المعنيين؟ يجب علينا أن ندرس السياق الذي جاءت فيه كلمة (البحر). ونريد بـ (السياق): كلّ ما يكتف اللفظ الذي نريد فهمه من دوالٍّ أخرى، سواء كانت لفظيةً كالكلمات التي تشكّل مع اللفظ الذي نريد فهمه كلاماً واحداً مترابطاً، أو حالية كالظروف والملابسات التي تحيط بالكلام وتكون ذات دلالةٍ في الموضوع.

فلا بدّ لنا لكي نفهم المعنى الذي أراده المتكلّم من لفظ (البحر) في المثال المتقدّم أن ندرس السياق الذي جاءت فيه كلمة (البحر)، ونحدّد المدلول اللغوي والمعنى الظاهر لكلّ كلمة وردت في ذلك السياق، فإن لم نجد في سائر الكلمات التي وردت في السياق ما يدلّ على خلاف المعنى الظاهر من كلمة (البحر) كان لزاما علينا أن نفسِّر كلمة (البحر) على أساس المعنى اللغوي الأقرب، ونقرِّر أنّ مراد الآمر من البحر الذي أمرنا بالذهاب إليه في كلِّ يومٍ هو بحر الماء، لا بحر العلم تطبيقا للقاعدة العامة القائلة بحجّية الظهور.

وقد نجد في سائر أجزاء الكلام ما لا يتّفق مع ظهور كلمة (البحر)، ومثاله أن يقول الآمر: (اذهب إلى البحر في كلّ يوم واستمع إلى حديثه باهتمام) فإنّ الاستماع إلى حديث البحر لا يتّفق مع المعنى اللغوي الأقرب إلى كلمة (البحر) ؛ لأنّ البحر من الماء لا يستمع إلى حديثه، وإنّما يستمع إلى حديث البحر من العلم، أي العالم الذي يشابه البحر لغزارة علمه، وفي هذه الحالة نجد أنفسنا نتساءل: ماذا أراد المتكلّم بكلمة (البحر)؟ هل أراد بها البحر من العلم بدليل أنّه أمرنا بالاستماع إلى حديثه، أو أراد بها البحر من الماء ولم يقصد بالحديث هنا المعنى الحقيقي، بل أراد به الإصغاء إلى صوت أمواج البحر؟

وهكذا نظل متردِّدين بين كلمة (البحر) وظهورها اللغوي من ناحية، وكلمة (الحديث) وظهورها اللغوي من ناحية أخرى، ومعنى هذا أنّا نتردّد بين صورتين: إحداهما صورة الذهاب إلى بحر من الماء المتموِّج والاستماع إلى صوت مَوجه، وهذه الصورة هي التي توحي بها كلمة (البحر). والأخرى صورة الذهاب إلى عالم غزير العلم والاستماع إلى كلامه، وهذه الصورة هي التي توحي بها كلمة (الحديث).

وفي هذا المجال يجب أن نلاحظ السياق جميعا ككلٍّ ونرى أيَّ هاتين الصورتين أقرب إليه في النظام اللغوي العام؟ أي أنّ هذا السياق إذا اُلقي على ذهن شخصٍ يعيش اللغة ونظامها بصورة صحيحة هل سوف تسبق إلى ذهنه الصورة الأولى أو الصورة الثانية؟ فإن عرفنا أنّ إحدى الصورتين أقرب إلى السياق بموجب النظام اللغوي العام ـ ولنفرضها الصورة الثانية ـ تكوَّن للسياق ككلٍّ ظهور في الصورة الثانية ووجب أن نفسِّر الكلام على أساس تلك الصورة الظاهرة.

ويطلق على كلمة (الحديث) في هذا المثال اسم (القرينة) ؛ لأنّها هي التي دلّت على الصورة الكاملة للسياق وأبطلت مفعول كلمة (البحر) وظهورها.

وأمّا إذا كانت الصورتان متكافئتين في علاقتهما بالسياق فهذا يعني أنّ الكلام أصبح مجملاً ولا ظهور له، فلا يبقى مجال لتطبيق القاعدة العامة.

 

(القرينة المتّصلة والمنفصلة)

عرفنا أنّ كلمة (الحديث) في المثال السابق قد تكون قرينةً في ذلك السياق، وتسمّى (قرينة متّصلة) ؛ لأنّها متّصلة بكلمة (البحر) التي أبطلت مفعولها وداخلة معها في سياقٍ واحد، والكلمة التي يبطل مفعولها بسبب القرينة تسمّى بـ (ذي القرينة).

ومن أمثلة القرينة المتّصلة: الاستثناء من العام، كما إذا قال الآمر: (أكرم كلّ فقير إلاّ الفسّاق)، فإنّ كلمة (كلّ) ظاهرة في العموم لغةً، وكلمة (الفسّاق) تتنافى مع العموم، وحين ندرس السياق ككلٍّ نرى أنّ الصورة التي تقتضيها هذه الكلمة أقرب إليه من صورة العموم التي تقتضيها كلمة (كلّ)، بل لا مجال للموازنة بينهما، وبهذا تعتبر أداة الاستثناء قرينةً على المعنى العام للسياق.

فالقرينة المتّصلة هي: كلّ ما يتّصل بكلمة أخرى فيبطل ظهورها ويوجّه المعنى العام للسياق الوجه التي تنسجم معه.

وقد يتّفق أنّ القرينة بهذا المعنى لا تجيء متّصلةً بالكلام، بل منفصلةً عنه فتسمّى (قرينةً منفصلة). ومثاله أن يقول الآمر: (أكرم كلّ فقير)، ثمّ يقول في حديث آخر بعد ساعة: (لا تكرم فسّاق الفقراء)، فهذا النهي لو كان متّصلاً بالكلام الأول لاعتُبر قرينةً متّصلة ولكنّه انفصل عنه في هذا المثال.

وفي هذا الضوء نفهم معنى القاعدة الأصولية القائلة: (إنّ ظهور القرينة مقدَّم على ظهور ذي القرينة، سواء كانت القرينة متّصلةً أو منفصلة).

وهناك فروق بين القرينة المتّصلة والمنفصلة لا مجال لدراستها على مستوى هذه الحلقة.

 

 

المصدر: المعالم الجديدة للأصول، محمد باقر الصدر.

___________________________________

(1) لا نريد باللغة والنظام اللغوي العامّ هنا اللغة في مقابل العرف، بل النظام القائم بالفعل لدلالة الألفاظ، سواء كان لغوياً أوّلياً أو ثانوياً. (المؤلّف قدّس سرّه).

 

السيد محمد باقر الصدر