القواعد الفقهية في التراث الفقهي الإمامي تأسيسا وتطويرا
السيد منذر الحكيم
تمهيد
إذا تجاوزنا التأسيس القرآني والنبوي للتقنين الإسلامي المرتكز على مجموعة من الاصول والقواعد العامة لترشيد سلوك وأوضاع المسلمين- أفراداً ومجتمعاً- نصل إلى التراث الفقهي لأهل بيت الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وعترته الطاهرة التي اعتبرها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عدلًا للكتاب ومفسّراً لمقاصده وآياته وأحكامه وحدوده.
ونلاحظ في هذا التراث الثرّ تطبيقاً واسعاً للقواعد الفقهية في مختلف الأبواب والمجالات التي تناولها فقه أهل البيت عليهم السلام.
وبمستوى التطوّر العلمي الذي كان يحظى به فقه أهل البيت عليهم السلام من خلال فقهاء مدرستهم كان يتّسع ويزداد الاهتمام بالتقعيد الفقهي وضبط وحصر القواعد التي على أساسها كان يتم الاستنباط للأحكام الشرعية من مصادرها المقرّرة لها.
ومن هنا نلاحظ تناثر القواعد الفقهية الاصولية والفقهية في ثنايا الكتب الفقهية التي كان يقوم بتدوينها الفقهاء ويتناولها الباحثون والمتفقّهون بالدرس والتحقيق. ومن ثمّ أخذت عملية الاستنباط الفقهي تتطلّب بالتدريج اهتماماً أوسع ودقّة أبلغ ليتمّ تقنين الاستنباط ضمن حدود وضوابط مقبولة ويمكن الاستناد إليها والاحتجاج بها.
والقواعد الفقهية أيضاً أصبحت فيما بعد تستلفت أنظار الفقهاء، كما كان منهج الاستنباط هو الاهتمام الآخر الذي كان يستلفت نظر جملة اخرى من الفقهاء الحريصين على تقنين وتعليم عملية الاستنباط للمتفقهين.
ولهذا نلاحظ تأخّر عملية التدوين المستقلّ للقواعد الفقهية عن تدوين القواعد الاصولية؛ إذ كان النشاط الفقهي آخذاً بالتفرّع والاتّساع والنمو باتجاه تطوير المعالجة الفقهية للقضايا من النظرة التجزيئية إلى النظرة الشمولية، ومن الانهماك بالمصاديق إلى استخلاص القواعد العامة التي يمكن تطبيقها في كلّ الظروف والأحوال.
وعلى هذا التأسيس نقول: إذا استعرضنا تطوّرات حركة التأليف الفقهي الإمامي نلاحظ الشهيد الأول محمّد بن مكّي العاملي (المستشهد سنة 786 ه) أنّه أول من أفرد مجموعة من القواعد الفقهية في كتاب مستقلّ أسماه ب (القواعد والفوائد)، ويشهد لهذه الدعوى أنّه قد وصفه في إجازته المعروفة لابن الخازن: «بأنّه مختصر يشتمل على ضوابط كلّية اصولية وفرعية تستنبط منها الأحكام الشرعيّة، لم يعمل للأصحاب مثله»[1].
ووصفه تلميذه المقداد السيوري (م 826 ه) قائلًا: «بأنّه يشتمل على قواعد وفوائد في الفقه تأنيساً للطلبة بكيفية استخراج المنقول من المعقول وتدريباً لهم في اقتناص الفروع من الاصول، لكنّه غير مرتّب ترتيباً يحصّله كلّ طالب وينتهز فرصته كلّ راغب، فصرفتُ عنان العزم إلى ترتيبه وتهذيبه وتقرير ما اشتمل عليه وتقريبه وسمّيته ب «نضد القواعد الفقهية على مذهب الإمامية»[2].
فالشهيد الأوّل حسب نصّه هو: هو أوّل من اقتحم هذا الميدان من أصحابنا الإمامية، وتلميذه الفاضل المقداد هو أوّل من رتّب هذه القواعد ترتيباً قدّم فيه القواعد العامة لكلّ الأبواب الفقهية على القواعد الخاصة بكلّ باب فقهيّ، مقدّماً فيها أبواب العبادات على سائر الأقسام الفقهية.
وليس معنى ذلك أنّ هذه القواعد لم يذكرها الفقهاء في مصنّفاتهم، بل إنّها قواعد وردت في نصوص الكتاب العزيز والسنّة الشريفة، كما وردت في طيّات بحوث الفقهاء.
ولكن تطوّر حركة التدوين الفقهي وتطوّر اتجاهات الفقهاء في كيفية التأليف لتحقيق مقاصد يبتغيها الفقهاء ومنها إسعاف المتعلّم والمتفقّه بالقواعد المحدودة التي تعينه على استنباط ما لا حصر له من الأحكام للوقائع المستجدّة في الحياة كلّ ذلك دعا الفقهاء إلى أن يشعروا بضرورة الاهتمام بالقواعد بشكل مستقلّ بعد أن كان الفقهاء يعتمدون على القواعد الاصولية ويجدون فراغاً هائلًا في ميدان القواعد الفقهية المتناثرة بين كتب الاصول وكتب الفقه معاً؛ فإنّ الفقيه إذا لم يزوّد نفسه بالقواعد الفقهية فإنّه سوف يجد نفسه أمام بعض نقاط الفراغ في عملية استنباط الموقف في قسم من المسائل وغير قادر على الإجابة على الأسئلة المتعلّقة بالحكم المقرّر لها شرعاً بعد الإيمان بأنّ لكلّ واقعة في الحياة حكماً شرعيّاً خاصاً بها[3].
وإنّما نعتبر عصر الشهيد الأول (786 ه) بداية عصر الاهتمام بالقواعد الفقهية المدوّنة بشكل مستقلّ تقريباً؛ لأنّ التصنيف في مجال القواعد الفقهية بشكل مستقلّ عن الكتب الفقهية المتداولة قد بدأ في عصره وتمثّل ذلك في كتابه الذي سمّاه ب (القواعد والفوائد)، وقد طبع في جزءين بتحقيق فضيلة العلّامة السيد عبد الهادي الحكيم رحمه الله.
واستمرّت هذه الاهتمامات منذ عصر الشهيد حتى عصرنا هذا، بالرغم من
تسلّل حالة استثنائية طارئة دامت مدة طويلة نسبياً وكادت أن تعصف بأسس المنهج الاصولي لفهم الشريعة الاسلامية، وهي ظاهرة خطيرة تعتمد الجمود والحرفية في التعامل مع النصوص الفقهية (الدينية). وقد استفحلت هذه الظاهرة حتى ولّدت ردود فعل قوية باتجاه عقلنة الفقه وإبعاده من سيطرة هذا الجمود.
جذور وخلفيات النشاط الفقهي التقعيدي
إنّ الفقه الإسلامي يعبّر عن التشريع والتقنين على أسس إلهية عبر النصوص التي اوحيت إلى الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم واجتمعت في ثنايا القرآن الكريم، والسنّة الشريفة. وهي بحاجة إلى تفقّه وتفهم واستظهار واستجلاء وتطبيق على الموضوعات المستجدّة خلال العصور والأيام.
وللشريعة منهج خاص ومتميّز، قد تناثرت النصوص الدالّة عليه بين آيات الكتاب والمصادر الناقلة للسنّة، وقد تخصّص في تعليمه للآخرين والتربية عليه أهل بيت الوحي والرسالة صلوات اللّٰه عليهم أجمعين[4].
ونحن في مجال فهم النصوص وتفسيرها، نرى نصوصاً نبوية تحاول ضبط عملية الفهم والتفقّه ضمن اصول تقنّن الفهم وتجعله قابلًا للدرس والتعليم تدين ظاهرة تفسير القرآن بالرأي، ثمّ استفحلت هذه الظاهرة حتى أصبح للرأي تيّار عام وبرزت إلى جانبه ظاهرتا القياس والاستحسان.
ووقف أهل بيت الرسالة بعد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أمام هذه التطرفات والانحرافات المنهجية وواجهوا تبعاتها ونتائجها بكلّ حزم وجدّ، وظهرت إلى الساحة مدرسة النصّ أوالتعبّد بالنصوص الاسلامية، وأصبح الاستظهار والفهم خاضعاً لقواعد واسس لا تنتهي بالتفقّه في الدين إلى الرأي والقياس والاستحسان، في الوقت الذي لا ينبغي الجمود على النصوص ما دامت الشريعة خالدة وفاعلة على مدى الحياة.
ومن هنا كان المنهج في مدرسة أهل البيت عليهم السلام بين تطرّفين: التطرّف في العقلية الذي يصبّ في اتجاه الرأي والقياس والاستحسان، والتطرّف في الجمود على النصوص وعدم التفاعل مع مستجدات الحياة.
وما التعبير المعروف في نصوص أهل البيت عليهم السلام بأنّ القرآن «يجري كما تجري الشمس والقمر»[5] إلّا واحد من نماذج كثيرة تدين الجمود على النصوص في مدرسة أهل البيت عليهم السلام.
ومن هنا ولد علم اصول الفقه في أحضان عمليات الاستنباط الفقهي الملتزم بالمنهج المقبول لدى المشرّع والذي ظهر من خلال نصوص الوحي كتاباً وسنّة ومن خلال سلوك أهل البيت عليهم السلام وسيرتهم.
وفضلًا عن القواعد الاصولية التي تبلورت بالتدريج في كتب علم الأصول[6] قد تبلورت القواعد الفقهية التي وردت جملة منها بشكل صريح في القرآن الكريم[7]، وجملة اخرى في نصوص السنّة الشريفة[8]، وجملة ثالثة منها قد تناثرت في المصاديق والمفردات التي هي بحاجة إلى استخلاص واقتناص القاعدة العامة منها بمنهج استقرائي سليم.
غير أنّ ظاهرة تقنين الفهم والتفقّه في الدين قد واجهت في طريقها عقبات وإشكاليات في ميدان الممارسة، وتنوّع الدارسون في ميلهم إلى الجمود على النصوص أوالتحرّر من النصوص باستجلاء الدلالات اعتماداً على كبريات العقل أوالكبريات المستندة إلى العقل والنقل.
ومن هنا نلاحظ نمواتجاهين متعاكسين في داخل المدرسة الإمامية، بل في خارج هذه المدرسة أيضاً ممّا يشير إلى وجود اتجاه متحفّظ واتجاه آخر متحرّر دائماً وأبداً، ويقارنهما اتجاه متوسّط يجمع بين التحفّظ والتحرّر؛ وذلك حين يقنّن عملية الفهم والاستظهار، فيعطي للتعقّل مجاله وللتعبّد مجاله الخاص به.
وهكذا سار المفيد ومن تبعه في هذا الاتجاه المتوسّط، وتكاملت ظاهرة التفقّه وتكامل التقنين عبر مراحل حتى انتهت المرحلة إلى ظهور مدرسة الوحيد البهبهاني الاصولية، وذلك على أنقاض المدرسة الأخبارية الغابرة.
التقعيد الفقهي في مدرسة الوحيد البهبهاني
ولئن كان الوحيد البهبهاني قدس سره قد أولى اهتمامه الخاص بتزييف شبهات الأخباريين لانتشال علم الاصول ممّا تعرّض له من محاولات الإدانة والتسقيط؛ وذلك بما قدمه من تأسيس في فوائده الحائرية، فإنّنا نجد تلامذته الكبار- مثل المحقق الميرزا القمي (1232 ه) والشيخ جعفر كاشف الغطاء (1228 ه) والسيد مهدي بحر العلوم (1212 ه) والميرزا مهدي الشهرستاني (1216 ه)- والسيد علي الكربلائي (1231 ه)- حاولوا بجدّ لتسليح الفقيه بما يسعفه من القواعد الاصولية والفقهية معاً.
ويمثّل كتاب «كشف الغطاء» حركة الفقه الإمامي باتجاه إخضاع الفقه للقواعد؛ حيث قدّم القواعد الاصولية على القواعد المشتركة بين الأبواب الفقهية جميعاً، ثمّ أتبعها بالقواعد العامة المشتركة بين كلّ أبواب الفقه، ثمّ قواعد كلّ باب.
ولعلّ تسمية «القوانين المحكمة» للمحقق القمي هي تعبير واضح عن هذه النزعة وهذا الاتجاه القواعدي التقنيني.
واستمرت هذه الحركة بعد الشيخ جعفر كاشف الغطاء (1228 ه) الكبير- تلميذ البهبهاني- وتلامذته، والنراقي الأول (محمد مهدي بن أبي ذر 1209 ه) وهوتلميذ الوحيد البهبهاني وزميل الشيخ جعفر الكبير (كاشف الغطاء) في الدراسة عند الوحيد البهبهاني وهواستاذ ابنه الشيخ أحمد النراقي (1245 ه) وقد ترك له ولنا تراثاً اصولياً وفقهياً غنياً[9].
وفي هذا الوسط العلمي والتيار الفقهي انطلق الشيخ أحمد النراقي وكتب كتابه المشهور والمعروف ب (عوائد الأيام) والذي قال عنه: «هذا ما استطرفته من عوائد الأيام من مهمّات أدلّة الأحكام وكلّيات مسائل الحلال والحرام وما يتعلّق بهذا المرام»[10].
والسيد مير عبد الفتاح الحسيني المراغي (المتوفى سنة 1250 ه- 1266 ه) هوالفقيه الآخر الذي يعدّ معاصراً للنراقي الملا أحمد صاحب المستند والعوائد. وقد كتب كتابه (العناوين) في خصوص القواعد الفقهية، والتي اعتبرها البعض أنّها حصيلة دراسته لدى الشيخ موسى كاشف الغطاء والشيخ علي كاشف الغطاء؛ لاتجاههما هذه الوجهة واعتمادهما هذا المنهج.
إنّ هذه العقود الخمسة التي بدأت بالوحيد البهبهاني (1208 ه) وانتهت بالمراغي (1262 ه) تعدّ عصر ازدهار هذا الاتجاه الفقهي نحوتدوين متكامل للقواعد الفقهية إلى جانب التأليف المركّز في حقل القواعد الاصولية؛ وذلك لكثرة التصنيف المستقلّ في مجال قواعد الفقه أوّلًا، ولتنوّع المناهج في معالجة هذه القواعد ثانياً، كما تشير إلى ذلك فهارس هذه التصنيفات، بل تفصح عنها طبيعة البحوث المدوّنة في هذه الفترة.
فلوقارنّا مثلًا قاعدة نفي الضرر عند النراقي في عوائده مع قاعدة نفي الضرر في عناوين المير فتاح المراغي لوجدنا الفارق بيّناً والاختلاف فاحشاً في منهج معالجة هذه القاعدة، كما سوف نقف عندهما فيما بعد. ولا نغفل عن أنّ أهم ما لدينا من تراث فقهي حول القواعد الفقهية إنّما يعود إلى هذه العقود الخمسة.
واستمرت حركة التطوير هذه في مجال القواعد الفقهية فيما بعد، ولكن بشكل محدود حتّى نجد المتأخّرين عن هذه الفترة عالة على من ذكرناهم في هذه العقود الخمسة؛ إذ لم يدّع أحد تغيير منهج البحث الذي ورثه من النراقي ومعاصره صاحب العناوين، وإن كان هناك توجه خاص إلى تعميق الدلالات واستخراج النكات العلمية من بعض النصوص الدالّة على هذه القواعد.
التقعيد والتنظير الفقهي
ورّبما نستطيع أن نعتبر هذه الفترة التي ازدهرت فيها حركة البحث والتأليف عن القواعد الفقهية منطلقاً إلى نشوء وازدهار البحث عن النظريات الفقهية التي مهّدت الطرق للبحث فيما بعد عن النظم الفقهية للمجتمع الإسلامي.
المراحل العامّة لحركة الفقه الإسلامي
وهكذا نجد ترابطاً وثيقاً بين مراحل الحركة الفقهية بدءاً ب (فقه النصوص) والمسائل الخاصة الفقهية التي انتظمت في أبواب فقهية معيّنة.
ثمّ طوّرت الحركة باتجاه تقعيد القواعد وكشفها وتدوينها بشكل مستقلّ.
ثمّ بلغت مرحلة البحث عن (النظريات الفقهية).
ثمّ انتهت إلى البحث عن (النظم الفقهية) للمجتمع الاسلامي، فقد أصبح كتاب (اقتصادنا) نموذجاً بارعاً في مجال بلورة النظرية الاقتصادية ثمّ بلورة النظام الاقتصادي الإسلامي، والذي تجلّت نتائجه فيما أسماه الشهيد الصدر بسلسلة (الاسلام يقود الحياة) بعد عدّة عقود من إنتاج وتدوين (اقتصادنا)، حيث تضمّن هذا الكتاب الأخير رغم صغر حجمه صورة واضحة وعامة عن نظام الحكم أوالنظام السياسي بشكل عام والنظام الاقتصادي ومعالم عامة عن النظام الاجتماعي الاسلامي في بحثي منابع القدرة في الدولة الاسلامية وبحث خلافه الانسان وشهادة الأنبياء.
وهكذا نستطيع أن نتبيّن موقع الفاضل المولى أحمد النراقي في تطوير هذه الحركة الفقهية باعتباره رائداً من روّاد وفقهاء المدرسة الإمامية بعد عصر الشهيدين، وضمن مدرسة الوحيد البهبهاني الاصولية الفقهية.
تحديد عصر الفاضل النراقي وملامحه
يعتبر الفاضل النراقي (م 1245 ه) من الجيل الثاني من أجيال مدرسة الوحيد البهبهاني.
ومدرسة الوحيد البهبهاني هي المدرسة الاصولية الحديثة التي سيطرت على الحواضر العلمية الاسلامية الإمامية بعد الهزيمة التي سبّبتها هذه المدرسة للمدرسة الأخبارية الحديثة.
ومن هنا فقد كانت هذه المدرسة في عصر النراقي في أوج نشاطها وحيويتها؛ وذلك لما كانت قد حققته من انتصارات علمية ورائدة أدّت إلى نضج المسلك الاصولي في عملية تقنين فهم نصوص الشريعة وأحكامها، وهي التي تسمّى بعملية الاستنباط والاجتهاد في عصرنا الحاضر.
أ- ملامح مدرسة الوحيد البهبهاني
إنّ جهود الوحيد البهبهاني (1208 ه) الرائدة في دفع شبهات المسلك الأخباري ضدّ المسلك الاصولي خلال قرنين من الصراع قد أسفرت عن منهج متكامل يجمع بين العقل والنقل ويعطي لكلّ منهما دوره في عملية الاستنباط ويحدّد له مجالاته التي تتناسب مع طبيعته وخصائصه كمصدر معرفي وكوسيلة للوصول إلى مقاصد التشريع وتفاصيل الشريعة وأحكامها.
ولم تتطرّف هذه المدرسة الاصولية لكلّ واحد من العقل والنقل على حساب الآخر، بل حاولت تقنين عملية الاستنباط اعتماداً على اسس علمية قوية وتوثيق علمي مطلوب لكلّ قاعدة اصولية فضلًا عن تثبيت اسس ومصادر الاستنباط التي حاولت المدرسة الأخبارية زعزعتها باستمرار.
ومن هنا استطاعت هذه المدرسة الاصولية الحديثة أن تؤصّل لمنهج الاستنباط فضلًا عن تقييمها لأدوات الاستنباط وتأصيلها لقواعده اللفظية والعقلية؛ بعد أن كانت تستند الى اصول وقواعد معرفية لا يمكن نسفها وإبطالها.
إنّ شبهات الأخباريين التي كانت تشكّل حواجز أمام المسلك الاصولي أضحت نقطة انطلاق للبحث الجادّ عن مدى مشروعية علم الاصول وكيفية استخدامه لصياغة المنهج السليم وبلورته لكي يمكن تحقيق فهم الشريعة من مصادرها.
وهذا التطوّر الاصولي الذي قد حصل على مستوى المنهج وعلى مستوى القواعد أيضاً قد انعكس على عامة مجالات البحث الفقهي ممّا أدّى إلى تطوّر الدراسات الفقهية أيضاً وتعميقها وإنضاجها في هذا العصر على اسس علمية متينة.
ب- اتجاهات العصر
ثمّ إنّ الآثار الفقهية، والاصولية التي صدرت خلال النصف الأول من القرن الثالث عشر بما تضمّنته من مناهج حديثة في التأليف تكشف عن الاتجاهات الفقهية والاصولية لعلماء هذه المرحلة من مراحل التطور الاصولي والفقهي في المدرسة الإمامية الاثني عشرية.
وإحدى الظواهر الملفتة للنظر في هذه الحقبة التاريخية من حركة الفقه الإمامي هي ظاهرة (الاهتمام بتدوين القواعد الفقهية) من قبل جملة من الفقهاء المتميزين بدءاً بالوحيد البهبهاني نفسه وخيرة تلامذته[11] وتلامذة تلامذته[12].
إنّ هذا الاهتمام الذي تجلّى في جملة من الكتب الاصولية والفقهية بشكل ضمني[13] قد تجلّى بشكل تيار قوي في تدوين كتب القواعد الفقهية بشكل مستقلّ أوبشكل رسائل فقهية.
وبشكل كتاب الفاضل النراقي النفيس (عوائد الأيام) نموذجاً جيداً لهذا الاهتمام.
وتكفي مراجعة سريعة لتراث هذه المجموعة من الفقهاء الذين عاشوا في النصف الأول من القرن الثالث عشر للوقوف على حجم هذه التوجه الى القواعد الفقهية فضلًا عن الاصولية، ومدى التطور العلمي في مستوى ومحتوى البحوث الفقهية[14].
فلوأخذنا قاعدة نفي الضرر مثلًا وقارنّا ما كتبه الميرزا المحقق أبوالقاسم القمي (1227 ه)- وهومن خيرة تلامذة الوحيد البهبهاني- مع ما كتبه مثل الفاضل التوني (1071 ه) الذي يعود عصره إلى أواسط القرن الحادي عشر، وكذلك ما كتبه الشهيد الأول الذي يعود عصره إلى أواسط القرن الثامن الهجري والذي يعتبر بداية عصر تقعيد القواعد، لوجدنا البون شاسعاً في المحتوى والمنهج والاسلوب والحجم جميعاً.
حاجة العصر الى تقعيد الفقه والتنظير الفقهي
إن المستجدّات في مرحلتنا الراهنة وبعد دخول الفقه الى ميدان المجتمع كعنصر محوري وأساس يتطلّب جهوداً علمية أصيلة من حيث الاهتمام بمحورية الشريعة في الحياة الاجتماعية، وتوجه الفقهاء الى تطبيق الشريعة في المجتمع، هذا ما يتطلّب:
أوّلًا: رؤية اجتماعية للاسلام.
ثانياً: كما يتطلّب فهماً اجتماعياً للنصوص.
ثالثاً: ويحتاج إلى فهم القواعد العامة والخاصة للشريعة.
رابعاً: عدم إغفال فقه المقاصد وفلسفة الفقه.
خامساً: وبالتالي الدخول الى عصر التنظير الفقهي وتدوين الأنظمة الفقهية التي تلبّي كلّ الحاجات الاجتماعية الانسانية على أساس الاسلام الذي جاء ليظهر على الدين كلّه ويغطّي كلّ الساحات الاجتماعية ويمثّل خط الهداية الربّانية في كلّ مجالات الحياة.
من فقه المقاصد إلى فقه القواعد
إنّ القرآن الكريم ثمّ نصوص أهل البيت عليهم السلام تبعاً للقرآن الكريم هي المصادر الاولى التي اهتمت بطرح وتبيان مقاصد الشريعة.
غير أنّ الفقه ولأسباب خاصة كانت قد أحاطت به أخذ يبتعد عن الاهتمام بمقاصد الشريعة بالتدريج وأصبح يركّز على تفاصيل الأحكام الشرعية وأدلّتها ويلتمس الوثائق والأدلّة لمستحدثات المسائل بعيداً عن محور العلل والمقاصد حتى أغفل الفقهاء- في بعض المراحل من هذه الحركة الفقهية- الاهتمام بالمقاصد التي تشكل الاطار الأول والعام للأحكام والنظريات الفقهية حيث يكون إغفالها موجباً لخروج الفقه عن المسيرة التي اعدّت له في الحياة.
وحين نتتبّع هذا الاهتمام بالمقاصد الشرعية للأحكام الإلهية عند فقهائنا نجد الشهيد الأول من الروّاد الذين أدلوا بدلوهم الكبير وممّن اهتم بهذا الحقل اهتماماً رائعاً كما جاء في كتابه النفيس (القواعد والفوائد).
فالشهيد الأول ركّز في قواعده بشكل عام على المقاصد الشرعية كما في القواعد رقم (4 و5 و6) حيث ربط القواعد الشرعية بالمقاصد، وجعلها كلّها مصاديق وطرقاً لتحقيق مقاصد الشريعة التي تتلخّص في جلب النفع ودفع الضرر عن الانسان في الآخرة والدنيا بشكل أساس ووزّعها على مجالات خمسة، هي: النفس والدين والعقل والنسب والمال.
ولعلّ في عبارة المقداد السيوري من أنّه «يشتمل على قواعد وفوائد في الفقه تأنيساً للطلبة بكيفية استخراج المنقول من المعقول»[15] إشارة واضحة إلى هذا المنحى المقاصدي في هذه القواعد.
من هنا يمكن القول بأنّ الاتجاه العام في قواعد الشهيد الأوّل هوالاهتمام بالقواعد الفقهية على أساس الاهتمام بالمقاصد الشرعية، وهي حقيقة مهمة وأساسية لا يمكن إغفالها حين دراسة القواعد الفقهية من خلال النصوص الدينية التي وردت حول هذه القواعد. ويشهد لذلك قلّة اعتماده على النصوص التي تكفّلت ببيان هذه القاعدة إذا ما قسنا ذلك بما جمعه المتأخّرون من النصوص حول كلّ من هذه القواعد.
بينما سار المحقق القمي باتجاه كيفية اقتناص القاعدة الفقهية من النصوص المأثورة، فالبحث عن قاعدة نفي الضرر عند المحقق القمي قدس سره قد اتجه بهذا الاتجاه بكلّ وضوح.
وتكفي مقارنة بسيطة بين النصّين: نصّ الشهيد الأول ونصّ المحقق القمي لفهم هذا الانتقال.
وقد جاء بحث الفاضل النراقي لقاعدة نفي الضرر على أعتاب هذا الاتجاه الجديد، فالفاضل النراقي قد اتّبع منهج المحقق القمي وطوّره متّجهاً إلى فقه النصوص المأثورة وكيفية معالجتها لاقتناص قاعدة فقهية ذات مستند منصوص في روايات الفريقين أيضاً.
والشهيد الأوّل قد ذكر بشكل عام أنّ القواعد تستند إلى الكتاب والسنّة والإجماع والعقل، وذكر منها قاعدة نفي الضرر، وأشار في مطاوي بحثه عن مصاديق هذه القاعدة إلى آية قرآنية واحدة، ولكن القرآن الكريم حافل بآيات تكلّمت عن نفي الضرر[16] ولم يُشر اليها أيّ واحد من هؤلاء الفقهاء بدءاً بالشهيد وانتهاء بالنراقي والميرفتاح والشيخ الأنصاري، فهل في ذلك ما يردّ الاستدلال بها؟! أم إنّه غفل عنها انسياقاً مع الاتجاه الأخباري في التغافل عن كتاب اللّٰه والاهتمام بنصوص الحديث فقط؟! أم أنّ نصوص الكتاب ذات إجمال ونصوص الحديث ذات بيان وتبيان؟! واللّٰه أعلم بحقيقة الحال.
الفاضل النراقي بين القمي والمراغي
إنّ الموقع المتميز للفاضل النراقي في مجال تدوين القواعد الفقهية يتجلّى بوضوح حينما نقارن بحوثه مع من سبقه من كبار تلامذة الوحيد البهبهاني كالمحقق القمي، وحينما نقارنها مع من عاصره كالمير فتاح الحسيني.
ويمكن أن نستشهد بما أنجزه المحقق القمي في مجال قاعدة نفي الضرر كمصداق من مصاديق هذا البحث المقارن من جهة، وما أنجزه المير فتاح في نفس هذه القاعدة من جهة اخرى لتبيين مستوى إنجاز النراقي في هذا المجال باعتباره قد سبق المير فتاح وتأخّر عن الميرزا القمي قدس اللّٰه أسرارهم جميعاً.
أمّا المحقق القمي الذي يعدّ إنجازه ثالث إنجاز- حسبما اطّلعنا عليه- في مجال قاعدة نفي الضرر بعد الشهيد الأوّل (786 ه) والفاضل التوني (1071 ه) بحسب ما لدينا من مصادر في هذا المجال فإنّنا نجده يحاول تقديم مادة فقهية مستندة ومشروحة حول القاعدة بعد أن كان الشهيد قد اكتفى بطرحها مشيراً إلى مصدرها فقط، وبعد أن كان الفاضل التوني قد تعرّض لفقه حديث «لا ضرر ولا ضرار» بشكل مقتضب جداً مع محاولة إقحامه في البحث الاصولي في وافيته متكلّماً عن دلالة الحديث بشكل مختصر جداً، نرى المحقق القمي يقوم بشرح الحديث ويبيّن تعدّد طرقه ومصادره، وفي هذا دعم لمستند القاعدة، ثمّ يقارن القاعدة المستفادة منه مع الاصول العملية وسائر الأدلّة الفقهية ليبيّن موقع هذه القاعدة في عملية الاستنباط ويجيب على الإشكالات المتصوّرة أوالمطروحة على هذه القاعدة، كما يتعرّض لتطبيقات هذه القاعدة بشكل إجمالي، كلّ هذا في كتابه (قوانين الاصول) في ذيل البحث الذي طرحه الفاضل التوني في مبحث أصالة البراءة. فالمحقّق القمي يكون قد أدخل البحث عن قاعدة نفي الضرر في مرحلة جديدة وله قصب السبق في هذا المجال.
ولكن هذا التطوير قد حظي بتطور كمّي وكيفي في منهج البحث على يد الشيخ المولى أحمد النراقي قدس سره، واستمر هذا التطوير الذي أحدثه النراقي بشكل وآخر بعد أن أرسى دعائمه، حتى نجد أنّ ملامح إنجاز النراقي يهيمن على كلّ ما كُتب من بعده، بدء من تلميذه الشيخ الأنصاري وحتى يومنا هذا.
مقارنة بين منهجي النراقي والمراغي
إنّ المير فتاح الحسيني- الذي تتلمذ على يدي شيخيه العظيمين من آل كاشف الغطاء: موسى وعلي ابني الشيخ جعفر الكبير- قد اختلفت معالجته للقاعدة المبحوث عنها، وهي قاعدة نفي الضرر.
قال الفاضل النراقي: «قاعدة في نفي الضرر والضرار: قد شاع استدلال الفقهاء في كثير من المسائل الفقهية بنفي الضرر والضرار، وتحقيق المقام يستدعي رسم أبحاث، البحث الأوّل في نقل الأخبار الواردة في ذلك المضمار …»[17].
بينما قال في العناوين: «عنوان: من جملة الاصول المتلقّاة من الشريعة «قاعدة الضرر والضرار»، وهومن القواعد الكثيرة الدوران، العامة النفع، ويبتني عليه كثير من الفروع في الفقه إلّا أنّ الاجمال المخلّ إنّما هوفي معناه وفي كيفية دلالته، ولهم في ذلك كلمات كثيرة، والذي ينبغي البحث في ذلك تنقيح المراد منه بحسب ما يستنبط من كلمات الأصحاب؛ لأنّها المعيار في أمثال الباب، فلا بدّ أولًا من ذكر المقامات التي استندوا فيها إلى قاعدة نفي الضرر حتى يتّضح من مجموعها ما ينبغي أن يقال في ضبط المعنى والمراد وتحرير الاستدلال ليكون جامعاً بين النصّ والفتوى»[18].
فالنراقي يركّز على النصّ بينما يركّز المراغي على النص والفتوى ويبدأ النراقي، بالنصّ بينما يبدأ المراغي بموارد الاستدلال والاعتماد على هذه القاعدة في أبواب الفقه، ويقوم بعملية الاستقراء ضمن جولة مفصّلة في كلّ أبواب الفقه ليرى رأي الفقهاء فيها من خلال استعمالهم لها، ويعتبر تداول الفقهاء لها وموارد الاستناد اليها هي الغرض الأهم للفقيه، بينما يقف النراقي عند تحليل النصّ الوارد في هذا المضمار ولا يعير أهمية لفهم الفقهاء أواستدلالهم بها في الموارد الكثيرة التي استندوا اليها في عامة أبواب الفقه. وهذا فارق منهجي ملفت للنظر ويفرز نتائج خاصة في عملية الاستنباط بشكل عام.
وأمّا سائر النقاط التي تعرّض لها النراقي بعد استعراض روايات نفي الضرر التي أنهاها إلى إحدى عشرة رواية فهي:
1. معنى الضرر و الضرار لغة و موارد استعمالهما في العرف و اللغة.
2. معنى نفي الضرر و الضرار و بيان المحتملات في معنى الضرر و بيان نتائج كلّ احتمال.
3. إنّ نفي الضرر أصل و قاعدة ثابتة بالأخبار المستفيضة و غيرها من اصول التشريع.
4. معالجة حالات التعارض بين هذه القاعدة و سائر الأدلّة.
5. مفاد نفي الضرر هو نفي الحكم، لا إثبات حكم و تعيينه. ثمّ مناقشة ما ارتكبه كلّ من الفاضل التوني والمحقق القمي في هذا المجال.
6. الملاك في تحديد الضرر المنفي.
7. موارد تعارض نفي الضرر مع دليل آخر.
8. التكاليف الشاقة الضررية ظاهراً و علاقتها بدليل نفي الضرر، و مناقشة المحقق القمي في ذلك.
9. ما يكون جبراً للضرر، و مدى دخوله في مورد تعارض الضررين.
10. حكم الإذن بالضرر.
وأمّا منهج المير عبد الفتاح المراغي حيث لخّص البحث فيما يلي:
1. استقراء موارد تعرّض الفقهاء لقاعدة نفي الضرر من خلال تطبيقاتها، ثمّ استنتج معنى عاماً منها.
2. عرّج على مستندهم لهذه القاعدة و هي الأخبار المتواترة، كما أضاف اليها دليل العقل.
3. ثمّ ذكر المعنى اللغوي من مصادر اللغة.
4. ثمّ تعرّض لموارد الضرر من الأعيان والمنافع و الحقوق و النفس و البدن و العرض، و الضرر بالفعل و الضرر بالقوة.
5. ثمّ بيّن المراد من نفي الضرر، و ناقش المحقق القمي في ذلك، كما ناقش صاحب العوائد.
6. ثمّ بحث في مدى قبول هذه القاعدة للتخصيص، و ناقش القمي أيضاً من جهة، وصاحب العوائد من جهة اخرى.
7. ثمّ ذكر أنّه هل يقبل الاذن أو لا؟
8. وناقش صاحب العوائد في أنّ قاعدة الضرر لا تثبت حكماً ولا تعيّنه.
9. كما ناقشه في مسألة تعارض الضررين أيضاً.
10. وبحث أيضاً تعارض قاعدة نفي الضرر مع مفاد عموم سلطة الناس على أموالهم.
وأمّا المحقق المدقق الشيخ الأعظم الأنصاري الذي تتلمذ عند الفاضل النراقي فقد لخّص رسالتي النراقي والمراغي وهذّبهما وإن كان قد اتّبع المنهج العام لأستاذه النراقي وناقش من سبقه، ولكن الفضل يعود لهذين العلمين اللذين تباريا في هذا المضمار وقدّما للفقهاء ثمرة جهدهما العلمي من الفكر والإبداع.
الخطوط العريضة لدراسة القواعد الفقهية بشكلٍ منهجي
إنّ ما نستخلصه بعد المقارنة هو ضرورة الاهتمام بالمنهج العلمي المتكامل الذي رسم كلّ واحد أو كلّ مجموعة من الفقهاء القدامى والمحدّثين بعض خطوطه العريضة، ويتلخّص في مجال البحث عن القواعد الفقهية بما يلي:
1. استقصاء مقاصد الشريعة في الكتاب والسنّة استقصاءً تامّاً مع تمييز المقاصد العامة لها.
2. استقصاء القواعد الفقهية وتنظيمها بشكل هرمي يجمع القواعد العامة لكلّ مجالات الحياة وأبواب الفقه الى جانب القواعد الخاصة بكلّ مجال وبكلّ باب فقهي.
3. التوجّه الى كتاب اللّٰه لاستخراج هذه القواعد من النصوص مباشرة أو من خلال مصاديقها حسب منهج استقرائي قابل للاحتجاج به.
4. التوجّه الى نصوص الحديث ودراستها سنداً ونصّاً ودلالةً.
5. مقارنة ما أفرزته نصوص الكتاب مع ما أفرزته نصوص السنّة و ملاحظة المقاصد التي تشكل الإطار العام لكلّ التشريعات لئلّا نخرج في فهمنا واستنباطنا عن ذلك الإطار الذي حدّدته نصوص الكتاب و السنّة.
6. الاهتمام بالمصاديق و الفروع التي جاءت في الكتاب و السنّة، ثمّ الفروع التي ذكرها الفقهاء و ملاحظتها ضمن الاطار العام الذي حدّدته نصوص الكتاب و السنّة.
7. إنّ الفهم الاجتماعي للنصوص أصل لا بدّ منه، بمعنى ضرورة رؤية هذه النصوص من زاوية أنّ الاسلام دين أبدي اجتماعي، فهو يصلح لكلّ المجتمعات البشرية على مدى الأجيال ما مضى منها وما سيأتي، وأنّه جاء لإدارة شئون الحياة الفردية التي تقع في إطار اجتماعي دائماً بالإضافة إلى أنّه يحمل دعوى رسالة شاملة لكلّ مجالات الحياة وأنّ قوانينه قوانين دقيقة حيّة لتنظيم حياة المجتمعات بل العالم الانساني أجمع.
إذن، لا ينبغي أن نغفل عن هذه الحقائق التي تدخل كقرائن لُبيّة في فهم النصوص الدينية وتؤثّر بلا ريب في كيفية استنباط الأحكام من خلال النصوص.
8. وعلى هذا فالقواعد الفقهية لا تُدرس بشكل منفصل عن بعض، ما دامت تدخل في بنية النظام الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والتربوي والأخلاقي الاسلامي، بل تلاحظ مترابطة، كما قد تدخل تطبيقاتها في أكثر من مجال.
9. وتبقى قضية الاسس الأخلاقية التي يبتني عليها فقهنا الإسلامي قضية جوهرية تدخل في صميم فقهنا، و ينبغي أن تؤخذ بنظر الاعتبار في كلّ مجالات الاستنباط، سواء كان الاستنباط على مستوى حكم فردي أو اجتماعي فرعي، و في قضية معيّنة أو على مستوى قاعدة فقهية أو نظرية فقهية أو نظام فقهي.
وما قاله العدلية من ابتناء كلّ الأحكام الأخلاقية على مسألتي حسن العدل و قبح الظلم يعتبر مؤشّراً واضحاً لهذا الاتجاه، حيث نعتبر الشارع الأقدس لا يتجاوز هذين الأساسين، ممّا يعني أنّ الشريعة الإسلامية في روحها شريعة ذات محتوى أخلاقي وأسس قيميّة فريدة. وقد أيّد القرآن الكريم هذا التأسيس الرائع حين قال تعالى عارضاً الخطوط العريضة للشريعة الإسلامية في محكم كتابه الخالد: «إِنَّ اللّٰهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسٰانِ وَ إِيتٰاءِ ذِي الْقُرْبىٰ وَ يَنْهىٰ عَنِ الْفَحْشٰاءِ وَ الْمُنْكَرِ وَ الْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ»[19].
10. إنّ في هذا الذي نصّت عليه الآية الكريمة لبلاغاً لقوم يعقلون و يتفقّهون، و ذلك حين يلتفتون إلى أنّ هذه الآية المباركة قد جمعت في نفسها كلّ اطر التشريع الإسلامي و الوجهة التي تتوجّه إليها الشريعة الغرّاء في تفاصيل أحكامها، و كم لها من نظير يستحق التأمل و الدراسة الجادّة حين تصنّف مداليل الآيات حسب تسلسلها الهرمي من الاسس الى الخطوط العريضة الى التفاصيل ثمّ الفروع و التطبيقات.
وما توفيقي إلّا باللّٰه عليه توكلت وإليه أنيب.
[1] انظر مقدمة القواعد والفوائد، واجازته لابن الخازن.
[2] مقدمة نضد القواعد الفقهية.
[3] عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «ما من شيء إلّا وفيه كتاب أوسنة». انظر الكافي 1: 59.
[4] قال صلى الله عليه وآله وسلم: «لا تعلّموهم فإنهم اعلم منكم، وما أن تمسّكتم بهما لن تضلوا كتاب اللّٰه وعترتي أهل بيتي».
[5] الغيبة (النعماني): 134.
[6] انظر ما جمعه السيد عبد اللّه شبر والفيض الكاشاني والحرّ العاملي في كتبهم الثلاثة الخاصة بالقواعد الاصولية من نصوص أهل البيت ونصوص الوحي القرآني لتعرف أن التأسيس لمنهج التفقه في الدين قد حصل منذ الأيام الاولى للتشريع ولكن تبلور هذا المنهج كان بحاجة إلى زمن يناسبه وإلى ظروف تظهره إلى عالم الكتابة والتحرير.
[7] مثل قوله تعالى: «ومَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» الحج 78، «عَفَا اللّهُ عَمَّا سَلَفَ» المائدة: 95.
[8] مثل قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «الإسلام يجبّ ما قبله» وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «لا يحل مال امرئ مسلم إلّا بطيب نفسه» وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «البيعان بالخيار ما لم يفترق» وانظر القواعد الفقهية الكتاب- الدراسي للمنظمة العالمية للحوزات والمدارس الإسلامية-.
[9] من تراثه الاصولي: تجريد الاصول ومن تراثه الفقهي: معتمد الشيعة.
[10] انظر مقدمة عوائد الأيام: الطبعة المحققة الأولى، مكتب الاعلام الإسلامي.
[11] مثل المولى مهدي النراقي وبحر العلوم وكاشف الغطاء والميرزا القمي والسيد علي الطباطبائي.
[12] مثل شريف العلماء والسيد محسن الأعرجي والمولى أحمد النراقي والشيخ محمد حسن النجفي (صاحب الجواهر).
[13] هناك قواعد فقهية بحثت في كتب علم الاصول ضمن المباحث الاصولية مثل قاعدة الطهارة وأصالة الحل، وقاعدة الميسور، وقاعدة نفي الضرر، وقواعد فقه المعاملات في عامة كتب الفقه.
[14] انظر دليل المحقق لدراسة تطور الفقه الإسلامي الإمامي، مجلة فقه أهل البيت عليهم السلام العددين 16 و17. ولا تكفي هذه المراجعة لتحصيل احصائية دقيقة عن الاهتمام العلمي بتدوين القواعد الفقهية إذا لم تراجع عامة كتب الاصول المدوّنة في هذه المرحلة.
[15] انظر مقدمة نضد القواعد الفقهية.
[16] راجع الآيات: 231، 234، 282 من سورتي البقرة، والنساء: 12 و95 و113 وغيرها من الآيات التي اشتملت على اشتقاقات هذه المادّة.
[17] انظر عوائد الأيّام: قاعدة نفي الضرر.
[18] انظر العناوين: قاعدة الضرر والضرار.
[19] النحل: ٩٠.
مجلة فقه أهل البيت (عليهم السلام) (بالعربية)، ج٤٣