التصور ومصدره الأساسي في نظرية المعرفة – 3
قال ماو تسي تونغ موضّحاً الرأي الماركسي في المسألة:
(إنّ مصدر كلّ معرفة يكمن في إحساسات أعضاء الحسّ الجسمية في الإنسان للعالم الموضوعي الذي يحيطه) [حول التطبيق: 11].
(وإذن فالخطوة الأُولى في عملية اكتساب المعرفة هي: الاتّصال الأوّلي بالمحيط الخارجي، مرحلة الأحاسيس. الخطوة الثانية هي: جمع المعلومات التي نحصل عليها من الإدراكات الحسّية، وتنسيقها وترتيبها) [المصدر السابق: 14].
وتركِّز النظرية الحسّية على التجربة، فقد دلّلت التجارب العلمية على أنّ الحسّ هو الإحساس الذي تنبثق عنه التصوّرات البشرية، فمن حُرم لوناً من ألوان الحسّ فهو لا يستطيع أن يتصوّر المعاني ذات العلاقة بذلك الحسّ الخاصّ ؛ ولذلك قيل منذ القديم: من فقد حسّاً فقد علماً.
وهذه التجارب ـ إذا صحّت ـ إنّما تبرهن علمياً على أنّ الحسّ هو الينبوع الأساسي للتصوّر، فلولا الحسّ لما وجد تصوّر في الذهن البشري، ولكنّها لا تسلب عن الذهن قدرة توليد معانٍ جديدة ـ لم تدرَك بالحسّ ـ من المعاني المحسوسة، فليس من الضروري أن يكون قد سبق تصوّراتنا البسيطة جميعاً الإحساس بمعانيها كما تزعم النظرية الحسّية.
فالحسّ على ضوء التجارب الآنفة الذكر هو البنية الأساسية التي يقوم على قاعدتها التصوّر البشري، ولا يعني ذلك: تجريد الذهن عن الفعّالية وابتكار تصوّرات جديدة على ضوء التصوّرات المستوردة من الحسّ.
ويمكننا أن نوضِّح فشل النظرية الحسّية في محاولة إرجاع جميع مفاهيم التصوّر البشري إلى الحسّ، على ضوء دراسة عدّة من مفاهيم الذهن البشري كالمفاهيم التالية: العلّة والمعلول، الجوهر والعرض، لإمكان والوجوب، الوحدة والكثرة، الوجود والعدم، وما إلى ذلك من مفاهيم وتصوّرات.
فنحن جميعاً نعلم أنّ الحسّ إنّما يقع على ذات العلّة وذات المعلول، فندرك ببصرنا سقوط القلم على الأرض إذا سُحِبت من تحته المنضدة التي وضع عليها، وندرك باللمس حرارة الماء حين يوضع على النار، وكذلك ندرك تمدّد الفلزّات في جوّ حار. ففي هذه الأمثلة نحسّ بظاهرتين متعاقبتين، ولا نحسّ بصلة خاصّة بينهما، هذه الصلة التي نسمّيها بالعلّية، ونعني بها: تأثير إحدى الظاهرتين في الأُخرى، وحاجة الظاهرة الأخرى إليها لأجل أن توجد.
والمحاولات التي ترمي إلى تعميم الحسّ لنفس العلّية واعتبارها مبدأ حسّياً تقوم على تجنّب العمق والدقّة في معرفة ميدان الحسّ وما يتّسع له من معاني وحدود. فمهما نادى الحسّيون بأنّ التجارب البشرية والعلوم التجريبية القائمة على الحسّ هي التي توضّح مبدأ العلّية، وتجعلنا نحسّ بصدور ظواهر مادّية معيّنة من ظواهر أخرى مماثلة، أقول: مهما نادوا بذلك فلن يحالفهم التوفيق ما دمنا نعلم أن التجربة العلمية لا يمكن أن تكشف بالحسّ إلاّ الظواهر المتعاقبة، فنستطيع بوضع الماء على النار أن ندرك حرارة الماء وتضاعف هذه الحرارة، وأخيراً نحسّ بغليان الماء. وأمّا أنّ هذا الغليان منبثق عن بلوغ الحرارة درجة معيّنة، فهذا ما لا يوضّحه الجانب الحسّي من التجربة، وإذا كانت تجاربنا الحسّية قاصرة عن كشف مفهوم العلّية فكيف نشأ هذا المفهوم في الذهن البشري، وصرنا نتصوّره ونفكّر فيه ؟
وقد كان (دافيد هيوم) ـ أحدّ علماء رجال المبدأ الحسّي ـ أدقّ من غيره في تطبيق النظرية الحسّية، فقد عرف أنّ العلّية بمعناها الدقيق لا يمكن أن تُدرك بالحسّ، فأنكر مبدأ العلّية، وأرجعها إلى عدّة تداعي المعاني، قائلاً: إنّي أرى كرة البلياردو تتحرّك فتصادف كرة أخرى فتتحرك هذه، وليس في حركة الأولى ما يظهرني على ضرورة تحرك الثانية، والحسّ الباطني يدلني على أن حركة الأعضاء في تعقب أمر الإرادة، ولكني لا أدرك به إدراكنا مباشراً علاقة ضرورية بين الحركة والأمر.
ولكنّ الواقع: أنّ إنكار مبدأ العلّية لا يخفّف من المشكلة التي تواجه لنظرية الحسّية شيئاً ؛ فإنّ إنكار هذا المبدأ كحقيقة موضوعية يعني أننا نصدق بالعلّية كقانون من قوانين الواقع الموضوعي، ولم نستطع أن نعرف ما إذا كانت الظواهر ترتبط بعلاقات ضرورية تجعل بعضها ينبثق عن بعض، ولكن مبدأ العلّية كفكرة تصديقية شيء، ومبدأ العلّية كفكرة تصوّرية شيء آخر، فهب أنّا لم نصدّق بعلّية الأشياء المحسوسة بعضها لبعض، ولم نكوّن عن مبدأ العلّية فكرة تصديقية، فهل معنى ذلك: أنّنا لا نتصوّر مبدأ العلّية أيضاً ؟ وإذا كنّا لا نتصوّره فما الذي نفاه (دافيد هيوم) ؟ وهل ينفي الإنسان شيئاً لا يتصوّره ؟ !
فالحقيقة التي لا مجال لإنكارها هي: أنّنا نتصوّر مفهوم العلّية سواء أصدّقنا بها أم لا، وليس تصوّر العلّية تصوّراً مركّباً من تصوّر الشيئين المتعاقبين، فنحن حين نتصوّر علّيه درجة معيّنة من الحرارة للغليان لا نعني بهذه العلّية تركيباً اصطناعياً بين فكرتي الحرارة والغليان، بل فكرة ثالثة تقوم بينهما، فمن أين جاءت هذه الفكرة التي لم تُدرك بالحسّ إذا لم يكن للذهن خلاّقية لمعانٍ غير محسوسة ؟ !
ونواجه نفس المشكلة في المفاهيم الأخرى التي عرضناها آنفاً، فهي جميعاً ليست من المعاني المحسوسة، فيجب طرح التفسير الحسّي الخالص للتصوّر البشري والأخذ بنظرية الانتزاع.
4 ـ نظرية الانتزاع:
وهي نظرية الفلاسفة الإسلاميين بصورة عامّة. وتتلخّص هذه النظرية في تقسيم التصوّرات الذهنية إلى قسمين: تصوّرات أوّلية. وتصوّرات ثانوية. فالتصوّرات الأوّلية هي الأساس التصوّري للذهن البشري، وتتولّد هذه التصوّرات من الإحساس بمحتوياتها بصورة مباشرة. فنحن نتصوّر الحرارة لأنّنا أدركناها باللمس، ونتصوّر اللون لأنّنا أدركناه بالبصر، ونتصوّر الحلاوة لأننا أدركناها بالذوق، ونتصوّر الرائحة لأننا أدركناها بالشمّ.. وهكذا جميع المعاني التي ندركها بحواسّنا، فإنّ الإحساس بكلّ واحد منها هو السبب في تصوّره ووجود فكرة عنه في الذهن البشري. وتتشكّل من هذه المعاني القاعدة الأوّلية للتصوّر، وينشئ الذهن بناءً على هذه القاعدة التصوّرات الثانوية، فيبدأ بذلك دور الابتكار والإنشاء، وهو الذي نصطلح عليه هذه النظرية بلفظ (الانتزاع) فيولّد الذهن مفاهيم جديدة من تلك المعاني الأوّلية، وهذه المعاني الجديدة خارجة عن طاقة الحسّ وإن كانت مستنبطة ومستخرجة من المعاني التي يقدّمها الحسّ إلى الذهن والفكر.
وهذه النظرية تتّسق مع البرهان والتجربة، ويمكنها أن تفسِّر جميع المفردات التصوّرية تفسيراً متماسكاً.
فعلى ضوء هذه النظرية نستطيع أن نفهم كيف انبثقت مفاهيم العلّة والمعلول ،والجوهر والعرض، والوجود [والعدم، والكثرة] والوحدة في الذهن البشري. إنّها كلّها مفاهيم انتزاعية يبتكرها الذهن على ضوء المعاني المحسوسة، فنحن نحسّ ـ مثلاً ـ بغليان الماء حين تبلغ درجة حرارته مئة، وقد يتكرّر إحساسنا بهاتين الظاهرتين ـ ظاهرتي الغليان والحرارة ـ آلاف المرّات ولا نحسّ بعلّية الحرارة للغليان مطلقاً، وإنّما الذهن هو الذي ينتزع مفهوم العلّية من الظاهرتين اللتين يقدِّمهما الحسّ إلى مجال التصوّر.
ولا نستطيع في مجالنا المحدود أن نعرض لكيفية الانتزاع الذهني وألوانه وأقسامه ؛ لأنّنا لا نتناول في دراساتنا الخاطفة هذه إلاّ الإشارة إلى الخطوط العريضة (1).
المصدر: فلسفتنا، محمد باقر الصدر.
(1) راجع: الإشارات والتنبيهات: 2 / 353 وما بعدها. وشرح المنظومة: 2 / 163.