التشريح في التعليم الطبي
الشيخ محمد المؤمن
[تمهيد]
لا ريب في أنّ التشريح قد أصبح في عصرنا الحاضر له دور أساس ومؤثّر في الدراسات الطبية، إضافة إلى أثره الملحوظ في علوم ومجالات أخرى … أمّا ما هو موقف الفقه في هذه المسألة الهامّة؟ … هذا ما حاول التوصّل إليه صاحب هذه الدراسة القيّمة، حيث أثبت- وبعد المحاكمة العلمية الدقيقة للأدلّة- أنّ ما دلّ على احترام الإنسان الميّت كالحيّ يقتضي حرمة التشريح … ثمّ رتّب على ذلك عدّة نتائج وفرّع جملة فروع.
إنّ شقّ جسد الميّت وتقطيع أعضائه لغاية تعليم طلّاب العلوم الطبّية أمر حادث أوجبه التقدّم العلمي الحديث؛ ولذلك لا يوجد التعرّض لأمثال ذلك في كلمات علمائنا الأقدمين، وإنّما تعرّض له بعض المتأخرين ممّن عاصرناهم.
[كلمات الفقهاء]
نعم، قد تعرّض الأقدمون لمسألة التنكيل بالميّت ولتعلّق الدية بقطع أعضائه وشقّها.
فقال السيّد المرتضى في الانتصار: «وممّا انفردت به الإمامية بأنّ من قطع رأس ميّت فعليه مئة دينار لبيت المال، وخالف باقي الفقهاء في ذلك. دليلنا على صحّة ما ذهبنا إليه الإجماع المتكرّر. فإذا قيل: كيف يلزمه دية وغرامة، وهو ما تلف عضو الحي؟! قلنا: لا يمتنع أن يلزمه ذلك على سبيل العقوبة؛ لأنّه مثّل بالميّت بقطع رأسه فاستحقّ العقوبة بلا خلاف، فغير ممتنع أن تكون هذه الغرامة من حيث كانت مؤلمة، وتألّمه يجري مجرى العقوبة جملتها» «1» انتهى.
وقال شيخ الطائفة في الخلاف: «إذا قطع رأس ميّت أو شيئاً من جوارحه ممّا يجب فيه الدية كاملة لو كان حيّاً كان عليه مئة دينار دية الجنين، وفي جميع ما يصيبه ممّا يجب فيه مقدّر وأرش من حساب المئة ما يحقّ للحي من الألف، ولم يوافقنا في ذلك أحد من الفقهاء ولم يوجبوا فيه شيئاً. وعندنا: انّه يكون ذلك للميّت يتصدّق به عنه ولا يورث ولا ينقل إلى بيت المال. دليلنا إجماع الفرقة وأخبارهم، وقد أوردناها في الكتاب الكبير» «2»، انتهى.
وقال أبو المكارم ابن زهرة في الغنية: «وفي قطع رأس الميت عُشر ديته، وفي قطع أعضائه بحساب ذلك، ولا يورث ذلك بل يتصدّق به عنه. كلّ ذلك بدليل الإجماع المشار إليه» «3»، انتهى.
وقال المحقّق في الشرائع: «المسألة الثانية: في قطع رأس الميت المسلم الحرّ مئة دينار، وفي قطع جوارحه بحساب ديته، وكذا في شجاجه وجراحه، ولا يرث وارثه منها شيئاً، بل تصرف في وجوه القرب عنه عملًا بالرواية.
وقال علم الهدى رحمه الله: تكون لبيت المال» «4»، انتهى.
وفي المسالك في التعليق على هذه المسألة: «هذا الحكم هو المشهور بين الأصحاب، ومستنده أخبار كثيرة» «5»، انتهى.
وفي الجواهر عند شرحه للمسألة «الثانية: في قطع رأس الميّت المسلم الحرّ مئة دينار على المشهور بين الأصحاب، بل عن الخلاف والانتصار والغنية الإجماع عليه» «6»، انتهى.
وبالجملة، فمسألة تعلّق الدية بالجناية على الميّت مذكورة في كلماتهم قديماً وحديثاً، وما نقلناه نموذج منها. ومن أراد اطلاعاً ووقوفاً أكثر فليراجع.
أقول: إنّ تشريح جسد الميّت وشقّه وتقطيع أعضائه يمكن أن يتضمّن عناوين ثلاثة، ربّما يوجب كلّ منها حرمته:
العنوان الأوّل: (هتك حرمة الميّت)
فإنّ التشريح مخالف لحرمة الميّت وهتك لها، وقد دلّت أدلّة كثيرة على وجوب رعاية حرمة الميّت كالحي:
ففي صحيحة عبداللَّه بن سنان وخبر عبداللَّه بن مسكان- الذي هو أيضاً صحيح بسند الصدوق- عن أبي عبداللَّه عليه السلام: «في رجل قطع رأس الميّت، قال: عليه الدية؛ لأنّ حرمته ميّتاً كحرمته وهو حي» «1».
بيان الدلالة: أنّه عليه السلام قد حكم بالدية وعلّله بتلك العلّة. والحرمة على ما في كتب اللغة والاستعمالات المتعارفة وإن كانت مستعملة في معنى الاحترام وأخذ الحريم للإنسان أو شيء آخر وفي معنى الحرمة التي هي أحد الأحكام التكليفية، إلّا أنّ المناسب لمقام التعليل المذكور إرادة الاحترام، حيث إنّ الدية عوض وجابر للجناية الواردة، فالمناسب أن تعلّل بما يحكي عن حقّ يعوَّض بها، وهو إنّما يكون بإرادة معنى الاحترام وكون الشيء ذا حريم يمنع انتهاكه، فإذا هتكه هاتك فقد تجاوز عليه وأتلف حقاً منه، فعليه أن يعطي عوضاً عنه وهو الدية. وأمّا إرادة الحرمة التكليفية فهي غير مناسبة هنا قطعاً؛ إذ الحرمة التكليفية معبّرة عن حقّ للَّهتعالى وطلب منه فلا يتعقّبه إلّاالعصيان والحدّ أو التعزير.
وبالجملة، فلا ريب في إرادة ما لا يحلّ انتهاكه من الحرمة هنا. قال في المصباح المنير: «الحُرمة- بالضمّ- اسم من الاحترام مثل الفرقة من الافتراق» «2». وفي أقرب الموارد والمنجد والنهاية الأثيرية: «الحرمة ما لا يحلّ انتهاكه» «3».
فإذا اريد بالحرمة الاحترام فلا محالة يكون مرجع الضمير الذي اضيفت الحرمة إليه هو الميّت. وتكون العبارة كأنّه قال: حرمة الميّت كحرمته وهو حيّ، فيدلّ على أنّ جميع الحقوق التي جعلها الشارع للإنسان زمن حياته وكانت لازمة الرعاية في حقّه فهي ثابتة له بعدما مات.
ومن المعلوم أنّ من حقوق الحيّ أن لا يتعرّض له في جسده بقطع ولا خرق ولا خدش، بل ولا حلق شعر، ويكون جميع ذلك تحت اختياره، والتجاوز على كلّ منها هتكاً لحرمته موجباً للقصاص والدية تكريماً له ورعاية لحرمته، فهكذا الأمر بعد وفاته بالنسبة لأصل ثبوت الحقّ والاحترام له مع غضّ النظر عن حدّ هذه الحرمة.
وما ذكرناه من أنّ تحريم إلحاق الأذى بالحيّ في قالب أيّ عمل كان إنّما هو من باب رعاية حقّه، وهو- مضافاً إلى وضوحه بنفسه- مستفاد من أخبار كثيرة:
منها: صحيحة أبي بصير عن أبي عبداللَّه عليه السلام في حديث قال: «إنّ عندنا الجامعة. قلت: وما الجامعة؟ قال:
صحيفة فيها كلّ حلال وحرام وكلّ شيء يحتاج إليه الناس حتى الأرش في الخدش، وضرب بيده إليَّ. فقال: أتأذن يا أبا محمّد؟ قلت: جعلت فداك، إنّما أنا لك، فاصنع ماشئت، فغمزني بيده وقال: حتى أرش هذا» «1» فإنّ إقدامه عليه السلام على الاستئذان منه في مثل ذلك الغمز الخفيف فيه دلالة واضحة على أنّ تحريم مثله إنّما هو لرعاية حقّه بحيث يجوز ارتكابه مع إذنه، وليس مثل تحريم الخمر يكون حقّاً إلهيّاً محضاً.
ومنها: معتبرة إسحاق بن عمّار عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «قضى أمير المؤمنين عليه السلام في ما كان من جراحات الجسد انّ فيها القصاص أو يقبل المجروح دية الجراحة فيعطاها» «2» فإنّ جعل أمر القصاص إلى المجروح وسقوطه بقبوله للدية دليل صريح على ما ذكرنا.
ومثلها، بل أوضح منها: صحيحة أبي بصير عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «سألته عن السن والذراع يكسران عمداً لهما أرش أو قود؟ فقال عليه السلام: قود. قال: قلت: فإن أضعفوا الدية؟ قال عليه السلام: إن أرضوه بما شاء فهو له» «1»، فإنّه قد زاد فيها أنّ معيار سقوط القصاص إنّما هو رضاية المجنيّ عليه وإن كان بإعطاء أضعاف الدية الشرعية.
بل قد ورد نظير هذه الأخبار في باب قتل العمد، ففوّض اختيار القود والانتقال إلى الدية أو أكثر منها أو أقلّ إلى أولياء الدم الذين هم ورثة المقتول، فهو حقّ انتقل إليهم من ميّتهم، مثل صحيحة عبداللَّه بن سنان قال: سمعت أباعبداللَّه عليه السلام يقول: «من قتل مؤمناً متعمّداً قيد منه إلّاأن يرضى أولياء المقتول أن يقبلوا الدية، فإن رضوا بالدية وأحبّ ذلك القاتل فالدية» «2» .. الحديث.
وما رواه يونس بإسناد معتبر عن بعض أصحابنا عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «من قتل مؤمناً متعمّداً فإنّه يقاد به إلّا أن يرضى أولياء المقتول أن يقبلوا الدية أو يتراضوا بأكثر من الدية أو أقلّ من الدية فإن فعلوا ذلك بينهم جاز» «3» .. الحديث.
وبالجملة، لا ريب في أنّ تحريم إيراد أنواع الأذى على الحيّ إنّما هو بمعيار أنّ كلّ أحد له حرمة يمنع معها التعرّض له بشيء، وأنّ اللَّه تعالى أوجب رعاية حقّه وجعل له حرمة لازمة الرعاية حتى في مثل الخدش والغمز والضرب، والتعرّض لذكر الأحاديث الدالّة عليه من قبيل توضيح الواضحات. فإذا مات فقد حرم التعرّض لبدنه بجميع ما كان التعرّض له به حراماً في حياته، فإنّ حرمته ميّتاً كحرمته وهو حي، على ما نطقت به الأخبار التي مرّ نموذج منها، فراجع. فهذه الطائفة من الأخبار تامّة الدلالة على حرمة خرق بدن الميّت وتقطيع جسده وأعضائه.
العنوان الثاني: (التمثيل)
فإنّه يمكن أن يقال: إنّ كلّاً من خرق الجسد وتقطيع الأعضاء تمثيل به، وهو حرام. ففي صحيحة جميل بن دراج عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «كان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم إذا بعث سرية دعا بأميرها فأجلسه إلى جنبه وأجلس أصحابه بين يديه ثمّ قال: سيروا بسم اللَّه وباللَّه وفي سبيل اللَّه وعلى ملّة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم لا تغدروا ولا تغلّوا ولا تمثّلوا ولا تقطعوا شجرة، إلّاأن تضطرّوا إليها، ولا تقتلوا شيخاً فانياً ولا صبياً ولا امرأة …» «1» الحديث.
وفي خبر مسعدة بن صدقة عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «إنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم كان إذا بعث أميراً على سرية أمره بتقوى اللَّه في خاصة نفسه، ثمّ في أصحابه عامّة، ثمّ يقول: اغزُ بسم اللَّه وفي سبيل اللَّه، قاتلوا من كفر باللَّه، ولا تغدروا ولا تغلّوا ولا تمثّلوا ولا تقتلوا وليداً ولا متبتّلًا في شاهق …» «2».
وفي وصية أمير المؤمنين عليه السلام للحسنين عليهما السلام لما ضربه ابن ملجم (لعنه اللَّه): «انظروا إذا أنا متّ من ضربته هذه، فاضربوه ضربة بضربة لا تمثّلوا بالرجل، فإنّي سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم يقول: إيّاكم والمثلة ولو بالكلب العقور» «3».
إلى غير ذلك من الأخبار، فهذه الروايات- التي فيها صحيحة السند- تضمّنت النهي عن التمثيل بالكفّار الحربيّين، والنهي دليل على الحرمة، فإذا حرم في الكافر لكان في المسلم أيضاً حراماً قطعاً، وليس التمثيل إلّاقطع بعض الأعضاء كالاذن والأنف والرجل واليد. هذا.
إلّاأنّ لقائل أن يمنع صدق التمثيل على مجرّد شقّ الجسد وخرقه أو قطع أعضاء البدن، بل الظاهر أنّ التمثيل هو ما كان من القطع بغاية التنكيل والتعذيب، بحيث يصير عبرة لغيره.
ففي المصباح: «مثّلت بالقتيل مثلًا- من بابي قتل وضرب- إذا جدعته وظهر آثار فعلك عليه تنكيلًا، والتشديد مبالغة، والاسم المثلة وزان غرفة، والمَثُلة بفتح الميم وضمّ الثاء- العقوبة» «1». وفيه: «جدعت الأنف جدعاً- من باب نفع قطعته، وكذا الاذن واليد والشفة» «2».
وفيه أيضاً: «نكل من ينكل- من باب قتل- ونكلته قبيحة: أصابه بنازلة، ونكّل به بالتشديد، والاسم النكال» «3».
وفي المنجد «مثل- مثلًا مثلة- بالرجل: نكّل. بالقتيل: جدعه وظهرت آثار فعله عليه تنكيلًا». وفيه: «نكّل به:
صنع به صنيعاً يحذّر غيره ويجعله عبرة له» «4».
وعليه، فشق الجسد أو قطع العضو إذا كان لغاية عقلائية- كما في ما نحن فيهليس مصداقاً لعنوان التمثيل، كما هو واضح.
العنوان الثالث: (استلزامه تأخير الدفن)
فإنّ تشريح جسد الميّت وأعضائه يستلزم عادة تأخير دفنه، مع أنّ الدفن واجب، وتأخيره زمناً طويلًا غير جائز.
أمّا وجوب الدفن فلعلّه من الضروريات، ويدلّ عليه من الروايات:
موثقة سماعة عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «سألته عن السقط إذا استوت خلقته يجب عليه الغسل واللحد والكفن؟ قال:
نعم، كل ذلك يجب عليه إذا استوى» «5».
وصحيحة علي بن جعفر انّه سأل أخاه موسى بن جعفر عليهما السلام «عن الرجل يأكله السبع أو الطير فتبقى عظامه بغير لحم كيف يصنع به؟ قال: يغسّل ويكفّن ويصلّى عليه ويدفن» «6» رواها المشايخ الثلاثة قدس سرهم «7».
ومثلها بعينها صحيحة خالد بن ماد القلانسي «8»، فإنّه عليه السلام عبّر عن وجوب الدفن بجملة إخبارية ظهورها في الوجوب ممّا لا ينكر.
كما يدلّ عليه في خصوص قِطع جسد الميّت ما رواه إسحاق بن عمّار عن الصادق عن أبيه عليهما السلام «انّ علياً عليه السلام وجد قطعاً من ميّت فجمعت ثمّ صلّى عليها ثمّ دفنت» «1» فإنّ نقل فعل أمير المؤمنين عليه السلام في مقام بيان الحكم ظاهر في إرادة بيان أنّ قِطَع بدن الميّت بحكم الكلّ في وجوب دفنها، فتأمّل.
وفي مرسل البرقي عن بعض أصحابه عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «إذا وجد الرجل قتيلًا فإن وجد له عضو تامّ صلّي عليه ودفن، وإن لم يوجد له عضو تام لم يصلِّ عليه ودفن» «2» وظهوره في وجوب دفن العضو تامّاً وناقصاً واضح.
هذا بالنسبة إلى أصل وجوب الدفن.
وامّا عدم جواز تأخيره فربّما يستدلّ له بالأخبار الواردة في الحثّ على تعجيل تجهيز الميّت.
ففي خبر جابر بن يزيد الجعفي عن أبيجعفر عليه السلام قال: «قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم: يا معشر الناس لا ألقينّ (ألفين) رجلًا مات له ميّت ليلًا فانتظر به الصبح، ولا رجلًا مات له ميّت نهاراً فانتظر به الليل، لا تنظروا بموتاكم طلوع الشمس ولا غروبها، عجّلوا بهم إلى مضاجعهم يرحمكم اللَّه. قال الناس: وأنت يا رسول اللَّه يرحمك اللَّه» «3».
وفي خبر السكوني عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم: إذا مات الميّت أوّل النهار فلا يقيل إلّافي قبره» «4».
وفي خبر عيص عن أبي عبداللَّه عن أبيه عليهما السلام قال: «إذا مات الميّت فخذ في جهازه وعجّله» «5».
إلى غير ذلك من الأخبار التي حثّت على التعجيل في جهاز الميّت، وظاهرها بنفسها وجوبه، ولو حملت على التعجيل عرفاً لما كان ينبغي الريب في أنّ تأخير دفنه أياماً عديدة منافٍ له.
إلّاأن يقال: إنّ سندها ضعيف بالإرسال والاشتمال على المجاهيل أو الضعاف، مضافاً إلى أنّه قد روى الصدوق مرسلًا في من لا يحضره الفقيه، فقال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم: «كرامة الميّت تعجيله» «1» فهو يدلّ على أنّ التعجيل إنّما استحبّ وامر به لمكان انّه كرامة للميّت، فلا محالة يكون حدّ الوجوب ما ينافي كرامته ويكون إهانة له، وبعبارة اخرى:
إنّ تكريم المؤمن ليس بإطلاقه واجباً، وإنّما اللازم أن لا يهان ولا يستخفّ به، فالتعجيل لمّا كان تكريماً محضاً، فهو مستحبّ غير واجب. نعم، إذا أوجب التأخير إهانة له كان حراماً، فضمّ هذه المرسلة- التي أسندها الصدوق إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم جزماً، ولا يقصر سندها عن الأخبار الاخر- إليها يصير قرينة على أنّ التعجيل ما لم يؤدّ تركه إلى الإهانة مستحب ليس إلّا، فهي قرينة على إرادة الاستحباب من هذه الأخبار، وإذا أدّى إلى الإهانة كان حراماً بلا شبهة، فإنّ حرمته ميّتاً كحرمته وهو حي. فالحاصل: أنّ التعجيل بما هو تعجيل مندوب، والمحرّم هو الإهانة، واللَّه العالم.
فقد تحصّل أنّ المعتمد في القول بحرمة خرق جسد الميّت وشقّه وتقطيع أعضائه هي الطائفة الاولى من الأدلّة، وانّ هذه الحرمة إنّما هي لمكان الاحترام المشروع له حال حياته، وانّ حرمته ميّتاً كحرمته وهو حيّ.
وبعد ذلك يقع الكلام في فروع
الفرع الأوّل
إذا كان خرق الجسد لغرض أهمّ من حفظ هذه الحرمة للميّت،
كما إذا توقّف حفظ حياة حيّ عليه، فمقتضى قاعدة باب التزاحم جوازه حينئذٍ، بل وجوبه، ويدلّ عليه أيضاً:
صحيحة علي بن يقطين قال: «سألت أبا الحسن موسى عليه السلام عن المرأة تموت وولدها في بطنها يتحرّك. قال: يشقّ عن الولد» «2» وظاهرها- كما ترى- وجوب الشقّ وإخراج الولد.
ومثلها مرسل بن أبي عمير وخبر علي بن أبي حمزة وموثقة محمّد بن مسلم وغيرها «1».
وفي خبر وهب بن وهبرواه الكليني والشيخ 0- عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «قال أمير المؤمنين عليه السلام: إذا ماتت المرأة وفي بطنها ولد يتحرّك فيتخوّف عليه فشقّ بطنها وأخرج الولد. وقال في المرأة يموت ولدها في بطنها فيتخوّف عليها قال: لا بأس أن يدخل الرجل يده فيقطعه ويخرجه إذا لم ترفق به النساء». وفي اللفظ اختلاف لا يضرّ بالمعنى ونقلناه عن الكافي «2».
ومورد الأخبار- كما ترى- موت الحامل دون الحمل وبالعكس. وهو أحد مصاديق باب التزاحم.
وعليه، فلو توقّف كشف مرض يوجب الموت وعلاجه على شقّ بدن ميّت مات عقيب الابتلاء به، لكان شقّ جسده جائزاً لكي يتّضح حقيقة هذا المرض ويعالج غيره ممّن هو مبتلى به كما لا يخفى.
الفرع الثاني
إذا أوصى إنسان بأن يكون جسده تحت تصرّف المراكز العلمية لكي يشقّ أو يقطع أعضاؤه ويستفيد منه طلبة الطبّ في ازدياد معلوماتهم الطبية وارتقائها، فالظاهر جواز الوصية ووجوب العمل بها؛ وذلك لما عرفت أنّ سرّ حرمة الشقّ أو التقطيع هو أنّ الشارع الأقدس راعى حقّ الميّت وأوجب حرمته فجعلها كحرمته وهو حيّ، ومن الواضح أنّ للإنسان في حال حياته أن يفعل ببدنه ما يشاء إذا كان له مصلحة مرعية ولم يرد نهي عنه شرعاً، والنهي إنّما ورد عن قتل نفسه، وأمّا ما دونه فلا دليل على حرمته إلّامثل قوله عليه السلام: «لا ضرر ولا ضرار» بناءً على شموله للإضرار بنفسه أو غير ذلك. وقد حقّقنا- في البحث عن مفهوم الضرر- أنّه لا يصدق إذا كان في تحمّل النقص المالي أو البدني غاية عقلائية يعوّض بها ذلك النقص، فكما أنّ له أن يفعل ببدنه ما دون القتل في حياته فكذلك يجوز له أن يوصي به بالنسبة لما بعد وفاته؛ وذلك أنّ أدلّة الوصية توصل حياته بموته، وتوسّع دائرة اختياراته المشروعة لما بعد وفاته، فمن مثل قول الإمام أبي جعفر الباقر عليه السلام: «الوصية حقّ، وقد أوصى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم، فينبغي للمسلم أن يوصي» «1» يفهم العرف أنّ ما كان للإنسان أن يفعله من التصرّفات والحقوق غير المشروطة بالمباشرة فله أن يوصي بأن تفعل بعد وفاته، فأدلّة الوصية تعميم لاختياراته وتوسعة لها إلى ما بعد الممات.
إن قلت: إنّ شقّ جسد الميّت وتقطيع أعضائه إهانة له وإذلال، وقد ورد النهي عن إذلال النفس في زمن الحياة، فلا محالة ليس له الوصية به بعد الوفاة. والدليل على حرمة الإذلال أخبار معتبرة مستفيضة: ففي موثقة أبي بصير عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «إنّ اللَّه تبارك وتعالى فوّض إلى المؤمن كلّ شيء إلّاإذلال نفسه» «2»، وفي موثقة سماعة قال: «قال أبو عبداللَّه عليه السلام: إنّ اللَّه فوّض إلى المؤمن اموره كلّها، ولم يفوّض إليه أن يذلّ نفسه، أمَا تسمع لقول اللَّه: (وَ لِلَّهِ الْعِزَّةُ وَ لِرَسُولِهِ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ)» «3» الحديث، إلى غير ذلك.
قلت: لا نسلم كون الشق والتقطيع المذكورين اذا كانا عن وصية منه واذن اذلالا . نعم ، لو فعل به شي ء منهما قهرا عليه وظلما ولم يمكنه الدفاع عن نفسه لكان صدق الاذلال والذلة غير بعيد ، واما اذا كان عن اذن منه فلا يصدق عليه الاذلال ، بل كما ينقل عن بعض علماء الطب واساتذته .
الفرع الثالث
لا ريب في ان القدر المتيقن في ما ذكرنا من حرمة الشق والتقطيع لبدن الميت هو المسلم ، واما الكفار ففي «تحرير الوسيلة » لسيدنا الاستاذ الامام الخميني (قدس سره الشريف): «لا يجوز تشريح الميت المسلم ، فلو فعل ذلك ففي قطع راسه وجوارحه دية ذكرناها في الديات ، واما غير المسلم فيجوز ذميا كان او غيره ولا دية ولا اثم فيه » (39) . وفي مستحدثات المسائل من منهاج الصالحين للسيد العلامة الخوئي قدس سره: «لا يجوز تشريح بدن الميت المسلم ، فلو فعل لزمته الدية علي تفصيل ذكرناه في كتاب الديات . . . يجوز تشريح بدن الميت الكافر باقسامه ، وكذا اذا كان اسلامه مشكوكا فيه ، بلا فرق في ذلك بين البلاد الاسلامية وغيرها» (40) .
الا ان لقائل ان يقول: ان المستفاد من الادلة ان لكفار اهل الذمة حرمة ما داموا علي شرائط الذمة ، والاخبار الدالة علي احترام الميت مطلقة تعم المسلم والكافر ، ولازمها عدم جواز فعل الشق والتقطيع بالنسبة للميت الذمي من الكفار ايضا .
اما ما يدل علي ان لاهل الذمة حرمة فطائفتان:
الطائفة الاولى: ما يدل علي رفع اليد عنهم والكف عن قتالهم اذا قبلوا الجزية واعطوها
فمنها قوله تعالي: «قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين اوتوا الكتاب حتي يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون » () فالآية كالصريحة في ان القتال ينتهي اذا اعطوا الجزية ، ويكف عنهم حينئذ ، وظاهره انهم بعد ذلك كسائر الناس المسلمين لا يتعرض لهم بشي ء ، وهو عبارة اخري عن ثبوت الحرمة لهم كغيرهم من الناس .
وفي خبر مسعدة بن صدقة عن ابي عبدالله عليه السلام قال: «ان النبي صلي الله عليه و آله وسلم كان اذا بعث اميرا له علي سرية امره بتقوي الله (41) >في خاصة نفسه ثم في اصحابه عامة ثم يقول . . . واذا لقيتم عدوا للمسلمين فادعوهم الي احدي ثلاث ، فان هم اجابوكم اليها فاقبلوا منهم وكفوا عنهم . . . الي ان قال – بعد الامر بالدعوة الي الاسلام والهجرة -: فان ابوا هاتين فادعوهم الي اعطاء الجزية عن يد وهم صاغرون ، فان اعطوا الجزية فاقبل منهم وكف عنهم » (42) الحديث . وكيفية الاستدلال به يعلم مما ذكرناه في الآية .
وفي خبر حفص بن غياث (في حديث) انه سال ابا عبدالله عليه السلام عن النساء كيف سقطت الجزية عنهن ورفعت عنهن قال: فقال: «لان رسول الله صلي الله عليه و آله وسلم نهي عن قتل النساء والولدان في دار الحرب الا ان يقاتلن فان قاتلن [قاتلت خ ل] ايضا فامسك عنها ما امكنك ولم تخف خللا [حالا خ ل]، فلما نهي عن قتلهن في دار الحرب كان ذلك في دار الاسلام اولي . ولو امتنعت ان تؤدي الجزية لم يمكن قتلها فلما لم يمكن قتلها رفعت الجزية عنها ، ولو امتنع الرجال ان يؤدوا الجزية كانوا ناقضين للعهد وحلت دماؤهم وقتلهم ; لان قتل الرجال مباح في دار الشرك . وكذلك المقعد من اهل الذمة والاعمي والشيخ الفاني والمراة والولدان في ارض الحرب ، فمن اجل ذلك رفعت عنهم الجزية » (43) فالخبر قد دل علي حرمة دماء الطوائف المذكورة من اهل الذمة مطلقا ، وعلي حرمة دماء غيرهم من الرجال اذا لم ينقضوا عهد الذمة ، وحرمة دمائهم عبارة اخري عن انهم محترمون وان لهم حرمة في لواء الاسلام . ومع هذه الحرمة فلا يشك احد في انه لا يجوز لاحد من المسلمين التعرض لهم حتي بمثل الايذاء ، فضلا عن الجرح او القتل.
ومن هذا القبيل ما ورد في مرسل محمد بن ابي حمزة انه «مر شيخ مكفوف كبير يسال فقال امير المؤمنين عليه السلام: ما هذا ؟ قالوا يا امير المؤمنين: نصراني ، فقال امير المؤمنين عليه السلام: استعملتموه حتي اذا كبر وعجز منعتموه ! انفقوا عليه من بيت المال » (44) .
وفي صحيحة زرارة قال: قلت لابي عبدالله عليه السلام: «ما حد الجزية علي اهل الكتاب ؟ وهل عليهم في ذلك شي ء موظف لا ينبغي ان يجوز الي غيره ؟ فقال: ذلك الي الامام ياخذ من كل انسان منهم ما شاء علي قدر ماله وما يطيق ، انما هم قوم فدوا انفسهم من ان يستعبدوا او يقتلوا ، فالجزية تؤخذ منهم علي قدر ما يطيقون ، له ان ياخذهم به حتي يسلموا» (45) الحديث .
وفي صحيحة محمد بن مسلم قال: «سالته عن اهل الذمة ماذا عليهم مما يحقنون به دماءهم واموالهم ؟ قال: الخراج ، وان اخذ من رؤوسهم الجزية فلا سبيل علي ارضهم ، وان اخذ من ارضهم فلا سبيل علي رؤوسهم » (46) . فهاتان الصحيحتان وان تعرضتا لحكم دمائهم واموالهم بالصراحة ، الا ان المفهوم منهما عرفا – كما في غيرهما مما قد مر – ان لاهل الكتاب بعد اداء الجزية حق الحياة في دار الاسلام كما لاهل الاسلام ، فلا يجوز لاحد من المسلمين التعرض لهم بايذاء ولا ضرب ولا جرح .
فهذه الطائفة الاولي من الادلة قد دلت بوضوح علي ثبوت الحرمة لاهل الذمة من اهل الكتاب .
الطائفة الثانية: ما يدل علي حرمة قتلهم والجناية عليهم ، وتعلق الدية بل القصاص بالجناية عليهم
فمنها موثقة سماعة قال: سالت ابا عبدالله عليه السلام عن مسلم قتل ذميا فقال: «هذا شي ء شديد لا يحتمله الناس ، فليعط اهله دية المسلم حتي ينكل عن قتل اهل السواد وعن قتل الذمي . ثم قال: لو ان مسلما غضب علي ذمي فاراد ان يقتله وياخذ ارضه ويؤدي الي اهله ثمانمئة درهم اذن يكثر القتل في الذميين ، ومن قتل ذميا ظلما فانه ليحرم علي المسلم ان يقتل ذميا حراما ما آمن بالجزية واداها ولم يجحدها» (47) .
ودلالتها علي حرمة قتل الذمي ما دام يؤدي الجزية ويعمل بمقتضي عقد الذمة واضحة ، بل ان دلالتها علي تعلق الدية بقتله ظلما ايضا واضحة ، وتدل ايضا علي ان دية الذمي اذا كان قتله عمدا وظلما مثل دية المسلم ، ولا محالة تختص دية الثمانمئة بشبه العمد والخطا .
الا ان الاصحاب لم يعملوا بهذا الحكم الاخير ، وهو موافق لقول جمع من الجمهور (48) ، فيحمل علي التقية بعد معارضتها لغيرها من اخبار كثيرة عليها العمل ، لكنه لا ينافي حجيتها في سائر ما تضمنته كما لا يخفي ، فتدل علي حرمة قتل الذمي وعلي وجوب اداء ديته الي اهله ، والدية لا محالة اذعان بحرمة المقتول .
ومنها اخبار كثيرة تدل علي ان دية الذمي ثمانمئة درهم ، ففي صحيحة ابن مسكان عن ابي عبدالله عليه السلام قال: «دية اليهودي والنصراني والمجوسي ثمانمئة درهم » (49) .
ومنها ما تدل علي ان دية اعضاء الذمي تقدر بنسبة دية العضو الي كل الدية كما في المسلم ، ففي رواية صحيحة الي محمد بن قيس عن ابي جعفر عليه السلام قال: «لا يقاد مسلم بذمي في القتل ولا في الجراحات ، ولكن يؤخذ من المسلم جنايته للذمي علي قدر دية الذمي ثمانمئة درهم » (50) .
ومن هذه الاخبار صحيحة بريد العجلي قال: سالت ابا عبدالله عليه السلام عن رجل مسلم فقا عين نصراني فقال: «ان دية عين النصراني اربعمئة درهم » (51) والاربعمئة نصف كل ديته ، وهي بهذه النسبة في المسلم ايضا .
ومنها خبر السكوني عن جعفر عن ابيه عن علي عليه السلام «انه قضي في جنين اليهودية والنصرانية والمجوسية عشر دية امه » (52) وقد ورد في جنين المسلمة انه مئة دينار (53) ، وهي عشر الف دينار دية المسلم .
ومن اخبار الباب موثقة اسماعيل بن الفضل قال: «سالت ابا عبدالله عليه السلام عن دماء المجوس واليهود والنصاري هل عليهم وعلي من قتلهم شي ء اذا غشوا المسلمين واظهروا العداوة لهم ؟ قال: لا ، الا ان يكون متعودا لقتلهم . قال: وسالته عن المسلم هل يقتل باهل الذمة واهل الكتاب اذا قتلهم ؟ قال: لا ، الا ان يكون معتادا لذلك لا يدع قتلهم ، فيقتل وهو صاغرهم » (54) فمفهوم صدر الموثقة عدم جواز قتلهم اذا لم يغشوا المسلمين ولم يظهروا عداوة لهم ، وصريح ذيلها ان المسلم يقتل قصاصا اذا اعتاد قتلهم ، ونحوها غيرها ; فراجع ابواب القصاص والديات.
فهاتان الطائفتان دلتا علي ثبوت الحرمة لاهل الذمة واهل الكتاب وان لم تكن هذه الحرمة علي حد حرمة المسلمين ، فاذا انضمتا الي الاخبار المعتبرة الدالة علي ان حرمة الميت كحرمة الحي ، استفيد منها حرمة التعرض لميت اهل الذمة كما يحرم التعرض للاحياء منهم.
ودعوى انصراف هذه الأخبار إلى الميّت المسلم ممنوعة؛ لعدم الشاهد عليها، فانظر إلى صحيح عبداللَّه بن سنان عن أبي عبداللَّه عليه السلام في رجل قطع رأس الميّت قال عليه السلام: «لأنّ حرمته ميّتاً كحرمته وهو حيّ» «2» فبأيّ دليل وشاهد يدّعى انصرافه؟! فقد سأل عن قطع رأس الميّت، والسؤال عامّ لكلّ ميّت، وكون الميّت المسلم في معرض ابتلاء أكثر لا يوجب انصرافاً، لا سيّما في موضوع سؤال نادر، وأجاب عليه السلام بأنّه عليه الدية، فدية كلّ أحد بحسبه، وعلّله بأنّ حرمته ميّتاً كحرمته حيّاً، وهو أيضاً تعليل عام ينصرف في كلّ مورد إلى ما يناسبه. إن قلت: قد روى عمّار بن موسى بسند معتبر عن أبي عبداللَّه عليه السلام انّه سئل عن النصراني يكون في السفر، وهو مع المسلمين فيموت؟ قال: «لا يغسّله مسلم ولا كرامة، ولا يدفنه، ولا يقوم على قبره، وإن كان أباه< «3» وقد دلّ على عدم رجحان تجهيز النصراني الذي من أهل الذمّة وزاد عليه بقوله «ولا كرامة» الدالّ على نفي الاحترام عن ميّتهم، فهذا الموثق كالمخصّص لعموم مثل صحيحة عبداللَّه بن سنان إذا سلّمنا عدم انصرافها.
قلت: إنّ حقّ التجهيز للميّت حقّ يثبت لخصوص الميّت، وليس حقّاً ثابتاً للحيّ حتى يثبت بمثل صحيحة ابن سنان للميّت، فليس في مجرّد نفي رجحانه دليل على تخصيص عموم الصحيحة.
وأمّا قوله «ولا كرامة» فالظاهر أنّ المراد به أنّ المروءة والكرم الجبلّي للمسلم لا ينبغي أن يجرّه إلى القيام بتجهيز الكافر، فهو نظير قوله تعالى: «الزَّانِيَةُ وَ الزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَ لا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ» «1»، وليس ظاهراً في نفي الحرمة عن الميّت الذمّي.
فالمتحصّل انّ مقتضى الأخبار الواردة في الأبواب المتفرّقة ثبوت الحرمة للميّت من كفّار أهل الذمّة كما قد ثبتت حرمة الأحياء منهم، إذن فلا يستقيم ما أفتى به السيّدان العلمان.
هذا غاية ما أمكننا من بيان ثبوت الاحترام للميّت من أهل الذمّة.
وبعد ذلك كلّه، فلا يبعد أن يقال: إنّ غاية المستفاد من الطائفتين المذكورتين إنّ لأهل الذمّة- الذين يعيشون تحت لواء الإسلام؟ ملتزمين بشرائط الذمّة- هذه الأحكام وتلك الحقوق. وأمّا انّ ملاك هذه الحقوق ومنشأها هل هي حرمة أهل الذمّة، أم انّ منشأها حرمة ذمّة الإسلام فلا دلالة لهما على شيء من ذلك، بل إنّ من كان منهم محكوماً بأن يقاتَل ويُقتل فلا حرمة له في نفسه إلّاأنّ الدولة الإسلامية حينما تأذن لهم بأن يعيشوا في البلاد الإسلامية على أن يلتزموا بشرائط الذمّة، فنفس هذا الإذن المبني على رعاية مصالح خطيرة أوجب أن يعامل معهم تلك المعاملات، فالحرمة حرمة ذمّة الإسلام، وهي تجري في كلّ مورد أعطى الإسلام وأولياء امور المسلمين أمناً وذمّة لأحد حتى ولو كان كافراً حربياً مشركاً، فانظر إلى قوله تعالى: «فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ فاقتلوا المشركين حيث وجَدْتُمُوهُمْ وَ خُذُوهُمْ وَ احْصُرُوهُمْ وَ اقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ» «2» فقد ورد الأمر بقتلهم وأخذهم أخذاً شديداً ومتابعتهم والتأكيد على ذلك، ولكن مع ذلك كلّه، قال تبارك وتعالى في الآية التالية: «وَ إِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ» «1» فأمر نبيّه صلى الله عليه و آله و سلم بأن يؤمن المستأمن ويجير المستجير، وإن كان كافراً مشركاً واجب القتل، فيعطي له الأمان إلى أن يبلغ مأمنه ومأواه. ومن الواضح أنّه ما دام في هذا الأمن الإسلامي فلا يجوز لأحد أن يتعرّض له بإيذاء فضلًا عن جرح أو قتل، ولا يبعد ثبوت الدية على من أصابه بما يوجبها.
إلّاأنّ كلّ ذلك ليس لأجل أنّ للمشرك حرمة في الإسلام، بل إنّما هو لأجل أنّه اعطي الأمان، فهذا كلّه حرمة الإسلام وتكريم لأمان الإسلام. وحينئذٍ فأهل الكتاب من اليهود والنصارى والمجوس الذين يعيشون في ظلّ دولة الإسلام وتحت لوائه ليس لهم حرمة بما هم أهل لكتاب، بل بما انّهم في ذمّة الإسلام وحماه، وإلّا فهم مكلّفون بإعطاء الجزية عن يد وهم صاغرون، فقد كتب عليهم الصَّغار رحمة لهم لكي يجدوا ذلّاً فيدخلوا في عزّ الإسلام.
وممّا يدلّ على أنّ لا حرمة للكفّار ما ورد عنهم عليهم السلام مستفيضاً في مقام بيان مشاركة الإيمان للإسلام من قولهم عليهم السلام: «الإسلام ما عليه المناكح والمواريث وحقن الدماء» «2»، فالإسلام هو الموجب لحقن الدم، فالكافر ليس- بما هو كافر- محقون الدم، فضلًا عن أن يكون له حرمة أزيد من ذلك.
وعليه، فلا مجال للاستدلال لاحترامهم بمثل قولهم عليهم السلام: «في رجل قطع رأس الميّت قال: عليه الدية؛ لأنّ حرمته ميّتاً كحرمته وهو حي»، فإنّه يدلّ على انجرار الحرمة الثابتة للميّت حال حياته إلى ما بعد وفاته، ولا محالة يختصّ مورده بمن كان له في حال الحياة حرمة، وأمّا من لم يثبت له حرمة حال الحياة فقهراً ليس مشمولًا للعموم المذكور، بل أنت تعلم أنّ الشكّ هنا في أنّ الحرمة الواردة في أهل الذمّة هي حرمة الإسلام أو حرمة لهم كي يكون قبول شرائط الذمّة كحيثية تعليلية لثبوت هذه الاحترامات لأهل الذمّة أنفسهم، ومجرّد الشكّ كافٍ في عدم إمكان الاستدلال بهذه الروايات على ثبوت الحرمة لهم؛ فإنّه من قبيل الاستدلال بالعام في الشبهة المفهومية.
هذا كلّه في أهل الذمّة من أهل الكتاب. وأمّا الحربيون منهم وسائر أنواع الكفّار الذين لا يصحّ عقد الذمّة معهم، فعدم ثبوت الحرمة لميّتهم واضح.
كما أنّ ممّا ذكرنا يظهر حال المستأمنين الذين أعطتهم الحكومة الإسلامية الأمان في البلاد الإسلامية، فإنّ حرمة أشخاصهم بأنفسهم غير ثابتة، وإنّما الحرمة لأمان الإسلام الذي أعطاه لهم ولي المسلمين، ولا يقتضي أزيد من المماشاة معهم حال حياتهم لا بعد موتهم، فلا دليل على لزوم مراعاة الحرمة لهم ولأجسادهم.
فتحصّل أنّ الكفّار مطلقاً لا دليل على حرمة تشريح أجسادهم وتقطيعها للأغراض الطبية وغيرها. نعم، لو وقع عقد خاصّ بين ولي أمر المسلمين وزعماء الكفر على أن لا يتعرّضوا لأجساد الموتى من الكفّار، فهذا العقد عقد محترم يجب الوفاء به بحكم عموم قوله تعالى: «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» «1» كما لا يخفى.
الفرع الرابع: إذا اندرست القبور وخربت
أو اخربت وظهر منها عظام الموتى المسلمين، فهل يجوز الانتفاع بها في التعليم؟
المحكي في بعض الاستفتاءات عن بعض أجلّة العصر (دام ظلّه) جوازه؛ ولعلّه لانصراف أدلّة إثبات الحرمة للميّت عن مثلها.
لكن لقائل أن يمنع الانصراف ويستند إلى عموم قولهم عليهم السلام «إنّ حرمته ميّتاً كحرمته وهو حيّ» فما دام العظم على هيئته يعدّ عضواً من أعضاء هذا المسلم فالتعرّض له إهانة لصاحبه، ووجوب احترامه يقتضي عدم التعرّض له، كما انّ إطلاق أدلّة وجوب دفن الأعضاء والعظام يدلّ على وجوب دفنها ودفن الميّت، كما عرفت أنّ ذلك مرتبة من تكريمه قد أوجبها الشارع.
وربّما يؤيّد دعوى الإطلاق ما ورد في الأخبار من وجوب دفن شعر الميّت وظفره وأمثالهما إذا بانت منه، ففي الصحيح المروي عن الكافي والتهذيب عن ابن أبي عمير عن بعض أصحابه عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «لا يمسّ عن الميّت شعر ولا ظفر، وإن سقط منه شيء فاجعله في كفنه» «1» فإيجاب دفن هذه الأشياء الحقيرة معه دليل على عظم الحرمة الواجبة الرعاية فيه، وعلى عدم انصراف العمومات والمطلقات عن مثل العظام، واللَّه العالم.
الفرع الخامس: هل الجنين الميّت بحكم مَن مات من الأحياء
فلا يحقّ شقّ جسده ولا تقطيع أعضائه، بل ولا حفظه في قارورة مملوءة بالكحول وعدم دفنه؟
لا يبعد أن يقال: إنّ كلّ ما منعه الشرع بالنسبة للإنسان وهو حيّ- ولو كان في أدنى مراتب الحياة- فهو رعاية حقّ له وتكريم له، فإذا حرّم الشارع الأقدس شرب دواء يوجب إسقاط النطفة.
كما في صحيحة رفاعة بن موسى النخّاس قلت لأبي عبداللَّه عليه السلام: «أشتري الجارية فربّما احتبس طمثها من فساد دم أو ريح في رحم فتسقى دواء لذلك فتطمث من يومها أفيجوز لي ذلك وأنا لا أدري من حبل هو أو غيره؟ فقال لي: لا تفعل ذلك، فقلت له: إنّه إنّما ارتفع طمثها منها شهراً، ولو كان ذلك من حبل إنّما كان نطفة كنطفة الرجل الذي يعزل، فقال لي:
إنّ النطفة إذا وقعت في الرحم تصير إلى علقة ثمّ إلى مضغة ثمّ إلى ما شاء اللَّه، وانّ النطفة إذا وقعت في غير الرحم لم يخلق منها شيء فلا تسقها دواء إذا ارتفع طمثها شهراً وجاز وقتها الذي كانت تطمث فيه» «2». فتراه عليه السلام قد منع عن شرب الدواء لمن احتملت الحمل وليس ذلك إلّا رعاية لحقّ مَن يتكوّن من هذه النطفة، فللإنسان حقّ يجب رعايته من ابتداء انعقاد نطفته، فالنطفة المنعقدة من الإنسان محترمة لا يجوز الإقدام على عمل يمنع نموّها وبلوغها إلى مرتبة الإنسانية الكاملة.
فلو فرض انّ عملًا لا يوجب إعدامها بالمرّة إلّاأنّه يوجب ورود نقص عليها وعلى الأعضاء التي ستنشأ منها، فلا ريب في أنّ المستفاد من مثل الحديث عدم جواز الإقدام عليه؛ لأنّ لها حقّاً واجب الرعاية. وحينئذٍ فإذا سقط الجنين فالتعرّض له وأخذ بعض أجزائه أو أعضائه تعرّض لما كان حيُّه ذا حرمة واجبة المراعاة في الشريعة، وقد قالوا عليهم السلام: «إنّ حرمته ميّتاً كحرمته وهو حي» مضافاً إلى ما ورد في وجوب دفنه، ففي موثقة سماعة عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: سألته عن السقط إذا استوت خلقته يجب عليه الغسل واللحد والكفن؟ قال: «نعم، كلّ ذلك يجب عليه إذا استوى» «1» فالمستفاد من السؤال هو السؤال عن مساواته في الأحكام المذكورة للأحياء، والمستفاد من الجواب إثبات ذلك. فلا يجوز حفظ الجنين في القارورة وتأخير دفنه كما لا يجوز في سائر الأموات.
وبالجملة، فالدليل على عدم الجواز هو إطلاق قولهم عليهم السلام: «إنّ حرمته ميّتاً كحرمته وهو حي»، مضافاً إلى ما يدلّ من الأخبار الخاصّة في مسألة وجوب دفنه كما في غيره من الأموات.
ودلالة الإطلاق على حكم الجنين المستوي الخلقة غير بعيدة، وعلى غيره على عهدة مدّعيها، فتدبّر.
الفرع السادس: هل يجوز شقّ الجسد لكشف الجرم؟
كما لو قتل إنسان برصاص سلاح أحد شخصين مختلفي السلاح وبقيت الرصاصة في جسد المقتول، فلو شقّ جسده واخرجت الرصاصة لعلم القاتل.
لا يبعد أن يقال: تارة يعلم أنّه لو شقّ الجسد لانكشف الجرم واتضّح الواقع كما في المثال، واخرى يحتمل ذلك.
أمّا في الحالة الاولى فحيث إنّ انكشاف الواقع موجب لاستحقاق أولياء الدم حقّ القصاص من قاتل مورّثهم، فإذا طلبوه وكان ذلك ممكناً للحاكم فمراعاة حقّهم هذا مزاحمة بمراعاة حرمة الميّت، وإن لم نقل إنّ قتل قاتله أيضاً رعاية حرمة اخرى له فلا أقلّ من أنّ الحقّين هنا متزاحمان، فلو لم يثبت أقوائية ملاك حرمة الشقّ واحتمل تساويهما لجاز الإقدام على تشريحه فضلًا عمّا لو علم أقوائية ملاك حقّ أولياء الدم. وأمّا في الحالة الثانية فالظاهر انّه لا يجوز ارتكاب حرام مسلّم لمجرّد احتمال إحياء حقّ، فتدبّر.
الفرع السابع: هل يجوز شقّ الجسد لملاحظة حال الحمل
الذي مات مع امّه في بطنها حتى ينكشف ذكوريّته أو انثويته فيعلم مقدار الدية الواجبة بقتله؟
ربّما يقال: باتّحاد مدرك هذا الفرع مع ما سبقه، إلّاأنّ الظاهر خلافه، فإنّه قد وردت أخبار معتبرة بأنّ ديته ثلاثة أرباع دية الذكر.
ففي الصحيحة المروية عن كتاب ظريف عن أمير المؤمنين عليه السلام: «… وإن قتلت امرأة وهي حبلى متمّ فلم يسقط ولدها ولم يعلم أذكر هو أو انثى ولم يعلم أبعدها مات أم قبلها فديته نصفين نصف دية الذكر ونصف دية الانثى ودية المرأة كاملة بعد ذلك …» «1».
فهذه الصحيحة قد حكمت بثبوت نصف الديتين له، وإطلاقها يعمّ ما إذا سأل أولياء دمه مقدار حقّهم لا أزيد ولا أنقص أو طلب القاتل تعيين مقدار الدية بلا زيادة أو نقصان وقد كان شقّ الجسد وملاحظة ذكورة الحمل وانوثته في ذلك الزمان ممكناً كما حكموا به لإخراج الحمل حيّاً فتعيين نصف الديتين فيه إذا انضمّ إلى أدلّة حرمة الشقّ يستفاد منهما ثبوت الحرمة هنا، كما لا يخفى.
الفرع الثامن: ممّا يجدر الإشارة إليه أنّ ما مرّ من جواز الشقّ أو التقطيع إذا أوصى به الميّت
إنّما هو في غير العورتين وفي غير تشريح بدن الرجل للمرأة وعكسه، وإلّا فالأدلّة الدالّة على حرمة النظر تدلّ على حرمته هنا أيضاً، وإذن الميّت فيه بالوصية لا يوجب تغييراً في حكم اللَّه تعالى وحقّه، كما كان كذلك في زمن حياته أيضاً.
ومنه تعرف حكم أجساد الكفّار في هذه المسألة فكلّ ما لم يجز النظر إليه من أبدانهم لا يجوّزه كون النظر لغاية تعلّم الطب، اللّهمّ إلّاأن يبلغ حدّ الضرورة والاضطرار المسوّغ للحرام، كما في غيره من الموارد.
الفرع التاسع: كلّ ما كان يجوز الإقدام عليه بعد وصية الميّت به
وإذنه فيه جاز الإقدام عليه بإذن ولي أمر المسلمين؛ ضرورة انّه حيث كان وليّهم فإذا راعى مصلحة الامّة ورأى أنّ التشريح يوجب تقدّم علم الطب في البلاد الإسلامية وبالمآل يوجب سيادة الامّة وأذن فيه كان إذنه قائماً مقام إذن صاحب الجسد بمثل الوصية، فإنّه بمقتضى ولايته إذن جائز ونافذ على المولّى عليهم؛ لأنّ إليه نظم امورهم وانّه وليّهم القيّم عليهم. ومن الواضح انّ الوليّ والقيّم إذا رأى مصلحة من ولّي عليهم في الإقدام على عمل فأذن فيه، فلا بدّ من نفوذ إذنه ولا يتوقّف على إذن المولّى عليهم وإلّا لما كان وليّاً؛ فإنّه لا معنى لأن يكون عدم رضا المولّى عليه مانعاً من نفوذ إذن الولي، فإنّه مساوق لإنكار الولاية. نعم، ولي أمر المسلمين إنّما يكون ولياً على الامّة بمعنى انّه ليس له إلّارعاية المصلحة العامّة للُامّة، ولا يتصرّف فيما كان مصلحة خاصّة عائدة للأشخاص فقط، وتمام الكلام وتفصيل المقال موكول إلى مجال واسع.
الفرع العاشر: هل الإقدام على شقّ جسد الميّت وتقطيع أعضائه لغرض تعليم العلوم الطبيّة يوجب الدية أو الأرش؟
لا ينبغي الريب في أنّه إذا كان العمل غير جائز فهو مشمول لأدلّة إيجاب الدية، وإنّما يقع الكلام في موارد جوازه، وهي تتصوّر في صور ثلاث:
الصورة الاولى: أن يكون مبنى الجواز وصيّة الميّت به، وقد عرفت أنّها توجب جواز الإقدام عليه، لكن الوصية ربّما تكون بمجرّد الانتفاع بجسده في التعليم من دون وصية بكونه مجاناً أو مع التصريح بعدم المجانية، وحينئذٍ فأدلّة الديات والأرش محكّمة؛ ضرورة انّ الدية والأرش بمنزلة التقويم للجرح أو القطع الوارد على البدن، وكما انّ الإذن في التصرّف في الأموال لا ينافي أن يكون المتصرّف ضامناً للمال فهكذا هنا، فالوصية موجبة لجواز العمل، وأدلّة الديات موجبة للدية أو الأرش.
وأمّا إذا كانت الوصية بأن يجعل الجسد بيد المعاهد العلمية مجاناً فالظاهر سقوط الدية والأرش؛ وذلك ممّا عرفت أنّ الدية والأرش عوض عن الجرح والقطع الواردين على الميّت، والوصية إدامة للحقّ الثابت للإنسان في زمن حياته إلى ما بعد وفاته.
ومن المعلوم أنّ كلّ أحد أولى بنفسه من غيره، فإذا أذن- بالوصية- في التصرّف المجاني في جسده فقد أسقط العوض المقرّر له، ولا محالة لا يثبت دية حتى يتعلّق بها حقّ ورثته.
فلا يقال: إنّ الدية حقّ متعلّق بالوارث، وليس له أن يتصرّف فيها، فإنّه إنّما كان لهذا المقال مجال إذا ثبت دية وأراد الشخص أن يوصي بديته المأخوذة، وأمّا إذا أوصى بالمجانيّة فقد سدّ باب تعلّق الدية وحصولها، كما لا يخفى.
الصورة الثانية: أن يكون مبنى الجواز الاضطرار إليه لتوقّف حفظ حياة الأحياء عليه، فمن الواضح انّ الاضطرار إنّما يرفع المنع التكليفي، ولا ينافيه تعلّق الدية التي قد عرفت أنّها عوض مالي عن الجرح أو القطع الوارد عليه.
الصورة الثالثة: أن يكون مبناه إذن ولي أمر المسلمين، ومن المعلوم انّ مصلحة الامّة إذا اقتضت مجرّد الإقدام على الشقّ والتقطيع كما هو الظاهر، فالدية أو الأرش بأقسامه على حاله، وأمّا إذا اقتضت المجانية أيضاً فإذنه إذن الولي الذي لا مجال معه للمولّى عليه.
وقد يقال: إنّ الديات إنّما هي أعواض عن الجنايات العمدية؛ ولذلك فقد ورد في ذيل خبر الحسين بن خالد عن أبي الحسن عليه السلام: «… قلت: فإن أراد رجل أن يحفر له ليغسله في الحفرة فسدر الرجل ممّا يحفر فدير به فمالت مسحاته في يده فأصاب بطنه فشقّه فما عليه؟ فقال: إذا كان هكذا فهو خطأ، وكفّارته عتق رقبة أو صيام شهرين [متتابعين خ ل] أو صدقة على ستّين مسكيناً مدّ لكلّ مسكين بمدّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم» «1». فدلّ على أنّ شقّ بطن الميّت إذا كان خطأ، فليس فيه سوى الكفّارة، فتعلّق الدية دائر مدار الحرمة، وإذا كان الشقّ جائزاً لكونه خطأ كما في مورد الحديث- أو لغير ذلك كما في الصور المذكورة فلا يتعلّق به دية أصلًا.
أقول: إنّ الدية كما عرفت عوض مالي تثبت شرعاً في موارد العمد والخطأ كما هو بيّن، وإطلاق قوله عليه السلام في مَن قطع رأس الميّت: «عليه الدية» يقتضي ثبوتها في جميع الموارد.
وأمّا خبر الحسين بن خالد فهو ضعيف السند أوّلًا، وأعرض الأصحاب عنه كما في الجواهر ثانياً، ولا يدلّ على سقوط الدية عن مورد الخطأ ثالثاً؛ فإنّ لقائل أن يقول: إنّ قوله عليه السلام: «إذا كان هكذا فهو خطأ» يدلّ على أنّه حينئذٍ محكوم بحكم الخطأ يتعلّق به الدية وتكون على العاقلة، وقوله عليه السلام بعده: «وكفّارته» إيجاب للكفّارة زائدة على الدية المقرّرة، كما لا يخفى واللَّه العالم.
هذا ما وفّقني اللَّه له من الكلام في المباحث المتعلّقة بتشريح بدن الميّت وتقطيع أعضائه.
والحمد للَّه ربّ العالمين
الهوامش:
1) الجوامع الفقهية (الانتصار): 203 – 204 .
2) الخلاف: مسالة 137 من الديات .
3) الجوامع الفقهية (الغنية): 559 .
4) شرائع الاسلام 4: 284 .
5) مسالك الافهام 2: 401 .
6) جواهر الكلام 43: 384 .
7) الوسائل 19: 248 – 249 ، الباب 24 من ابواب ديات الاعضاء ، ح 4 – 6 .
8) المصباح المنير 1: 161 .
9) اقرب الموارد 1: 185 ، النهاية 1: 373 ، المنجد: 130 .
10) الوسائل 19: 271 ، الباب 48 من ابواب ديات الاعضاء ، ح 1 .
11) المصدر السابق: 132 ، الباب 13 من ابواب قصاص الطرف ، ح 3 – 4 .
12) المصدر السابق: 132 ، الباب 13 من ابواب قصاص الطرف ، ح 3 – 4 .
13) المصدر السابق: 37 ، الباب 19 من ابواب قصاص النفس ، ح 3 – 1 .
14) المصدر السابق: 37 ، الباب 19 من ابواب قصاص النفس ، ح 3 – 1 .
15) الكافي 5: 30 ، باب وصية رسول الله في السرايا ، ح 9 .
16) الوسائل 11: 43 ، الباب 15 من ابواب جهاد العدو ، ح 3 .
17) نهج البلاغة: 422 ، الكتب والرسائل: الرقم 47 .
18) المصباح المنير 2: 260 .
19) المصدر السابق 1: 115 – 336 .
20) المصدر السابق 1: 115 – 336 .
21) المنجد: 746 .
22) الوسائل 2: 695 ، الباب 12 من ابواب غسل الميت ، ح 1 .
23) المصدر السابق: 815 ، الباب 38 من ابواب صلاة الجنازة ، ح 1 – 2 .
24) وهم: الشيخ الكليني ، والشيخ الصدوق ، والشيخ الطوسي .
25) المصدر السابق: 816 ، ح 5 – 9 .
26) المصدر السابق: 815 ، الباب 38 من ابواب صلاة الجنازة ، ح 1 – 2 .
27) المصدر السابق: 816 ، ح 5 – 9 .
28) المصدر السابق: 674 ، الباب 47 من ابواب الاحتضار ، ح 1 .
29) المصدر السابق: 676 ، الباب 47 من ابواب صلاة الجنازة ، ح 5 .
30) المصدر السابق: ح 6 .
31) المصدر السابق: ح 7 .
32) المصدر السابق: 674 ، الباب 46 ، ح 6 .
33) المصدر السابق: راجع اخبار الباب 46 ، ح 7 – 4 – 8 .
34) الكافي 3: 206 ، ح 2 . الوسائل 2: 673 ، ح 3 .
35) الوسائل 13: 351 ، الباب 1 من احكام الوصايا ، ح 1 .
36) الوسائل 11: 424 ، الباب 12 من الامر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ح 3 .
37) المصدر السابق: ح 2 .
38) تحرير الوسيلة 2: 561 .
39) منهاج الصالحين (الخوئي) 1: 426 ، م 36 – 37 .
40) التوبة: 29 .
41) الوسائل 11: 44 ، الباب 15 من ابواب جهاد العدو ، ح 3 .
42) المصدر السابق: 47 ، الباب 18 ، ح 1 .
43) المصدر السابق: 49 ، الباب 19 ، ح 1 .
44) المصدر السابق: 113 – 114 ، الباب 68 ، ح 1 – 3 .
45) المصدر السابق: 113 – 114 ، الباب 68 ، ح 1 – 3 .
46) الوسائل 19: 163 ، الباب 14 من ابواب ديات النفس ، ح 1 .
47) الخلاف: م 77 – الديات .
48) الوسائل 19: 160 – 161 ، الباب 13 من ابواب ديات النفس ، ح 2 .
49) المصدر السابق: 80 ، الباب 47 من ابواب قصاص النفس ، ح 5 .
50) الوسائل 19: 160 – 161 ، الباب 13 من ابواب ديات النفس ، ح 4 .
51) المصدر السابق: 116 ، الباب 18 من ابواب ديات النفس ، ح 3 .
52) المصدر السابق: 237 ، الباب 19 من ابواب ديات الاعضاء ، ح 1 .
53) المصدر السابق: 79 ، الباب 47 من ابواب قصاص النفس ، ح 1 .
54) المصدر السابق: 248 ، الباب 24 ، ح 4 .
55) الوسائل 2: 703 ، الباب 18 من ابواب غسل الميت ، ح 1 .
56) النور: 2 .
57) التوبة: 5 .
58) التوبة: 6 .
59) الكافي 2: 26 ، باب ان الايمان يشرك الاسلام ، ح 2 .
60) المائدة: 1 .
61) الوسائل 2: 694 ، الباب 11 من ابواب غسل الميت ، ح 1 .
62) المصدر السابق: 582 ، الباب 33 من ابواب الحيض ، ح 1 .
63) المصدر السابق: 695 ، الباب 12 من ابواب غسل الميت ، ح 1 .
64) الوسائل 19: 237 ، الباب 19 من ابواب ديات الاعضاء ، ح 1 .
65) المصدر السابق: 247 ، الباب 24 ، ح 2 .
المجلة الفقهية، العدد 1