الإجارة في المعاملات البنكية
السيد محسن الخرازي
حقيقة الإجارة:
المعروف أنّ الإجارة: هي تمليك المنفعة بعوض ومعلوميتهما من جهة المقدار والزمان وغيرهما من شرائط صحّة الإجارة.
أورد عليه السيّد المحقّق البروجردي قدس سره: أنّ الإجارة بمعناها الاسمي إضافة خاصّة يعتبرها العقلاء في العين المستأجرة بالنسبة إلى المستأجر مستتبعة لملكه أو استحقاقه لمنفعتها أو عملها، وتسلّطه عليها بتلكالجهة، ولذلك لا تستعمل إلّا متعلّقة بالعين[1]. وعليه، فتمليك المنفعة ليس مفادًا أوّليًّا للإجارة، بل مفادها الأوّلي آجرتك الدار أو أكريتك إيّاها.
وربّما تفسّر الإجارة بأنّها تسليط على العين لينتفع بها في مقابل العوض، معتضدًا بأنّ الإجارة تتعلّق بنفس العين بدون تقدير المضاف.
أورد عليه: إنّ هذا التعريف لا يصحّ في إجارة الأحرار، ولذا قال في جامع المدارك: «إنّ الحرّ غير قابل لهذا المعنى، ولذا لو حبس الحرّ لا يضمن منافعه بخلاف حبس العبد أو التسلّط على الأعيان الخارجيّة فإنّالاستيلاء عليها موجب للضمان، واختلاف الحقيقة باختلاف المتعلّق بعيد»[2].
يمكن أن يقال: إنّ التسليط الممنوع في الحرّ هو الذي لا يكون بالاختيار والرضا، وأمّا مع الرضا، والاختيار فلا منع عنه، بل هو مؤكّد للحرّية في الأحرار، بل لعلّه قابل للاعتبار العقلائي، ولعلّ لذلك عبّر عنه بالتأييدفي جامع المدارك، فتدبّر.
يمكن أن يقال: إنّ التسليط من آثار الإجارة والأحكام المترتّبة عليها بعد انعقادها، حيث يجب على المؤجر تسليم العين، لا أنّه مساوق لمفهومها، فهذا التفسير لا يمكن المساعدة عليه؛ لأنّه تفسير بلازمها، فالأقرب فيتفسيرها هو الذي عرفت من السيّد المحقّق البروجردي قدس سره وتبعه سيّدنا الإمام المجاهد والسيّد الفقيه الگلبايگاني.
وكيفما كان فعقد الإجارة لازم من الطرفين، ولا خلاف فيه، ويدلّ عليه العمومات، من قوله عزّ وجلّ «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ»[3] وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «المؤمنون عند شروطهم»[4] بناءً على أنّ الشرط هو الالتزامفي مقابل الالتزام لا الالتزام في ضمن التزام آخر. هذا مضافًا إلى صحيحة علي بن يقطين قال: سألت أبا الحسن عليه السلام عن الرجل يكتري السفينة سنةً أو أقلّ أو أكثر، قال: «الكراء لازم إلى الوقت الذي اكتراهإليه، والخيار في أخذ الكرى إلى ربّها إن شاء أخذ وإن شاء ترك»[5].
هنا مسائل:
المسألة الأولى:
تجوز الإجارة بشرط تمليك العين المستأجرة بعد ختام مدّة الإجارة وإعطاء أقساط الإجارة؛ لأنّ الإجارة المذكورة تشملها أدلّة نفوذ الإجارة كما أنّ الشرط مشمول لأدلّة نفوذ الشروط وحيث لا جهالة في العين ولا فيالأقساط ولا في الشرط فلا مانع من النفوذ والصحّة.
ثمّ إنّ هذا الشرط أعني شرط التمليك شرط الفعل ولا إشكال في جوازه، وإنّما الكلام في شرط النتيجة، كما إذا آجر العين بشرط ملكيّتها عند ختام مدّة الإجارة وإعطاء أقساط الإجارة، والأقوى أنّها صحيحة؛ لعدم قيامدليل على توقّف الملك على أسباب خاصّة، فيجوز بشرط حصوله في عقد الإجارة.
وتفصيل ذلك- كما أفاد شيخنا الأعظم قدس سره- أنّه «إن دلّ الدليل الشرعي على عدم تحقق تلك الغاية إلّا بسببها الشرعي الخاص كالزوجية والطلاق والعبودية والانعتاق وكون المرهون بيعًا عند انقضاء الأجل ونحوذلك كان الشرط فاسدًا؛ لمخالفته للكتاب والسنّة كما أنّه لو دلّ الدليل على كفاية الشرط فيه كالوكالة والوصاية وكون مال العبد وحمل الجارية وثمر الشجرة ملكًا للمشتري فلا إشكال. وأمّا لو لم يدلّ دليل على أحدالوجهين كما لو شرط في البيع كون مال خاص غير تابع لأحد العوضين كالأمثلة المذكورة ملكًا لأحدهما أو صدقة أو كون العبد الفلاني حرًّا ونحو ذلك ففي صحة هذا الشرط إشكال من أصالة عدم تحقق تلك الغاية إلّابما علم كونه سببًا لها، وعموم المؤمنون عند شروطهم ونحوه لا يجري هنا؛ لعدم كون الشرط فعلًا يجب الوفاء به ومن أنّ الوفاء لا يختص بفعل ما شرط، بل يشمل ترتيب الآثار عليه، نظير الوفاء بالعهد.
ويشهد له تمسّك الإمام بهذا العموم في موارد كلّها من هذا القبيل كعدم الخيار للمكاتبة التي أعانها ولد زوجها على أداء مال الكتابة مشترطًا عليها عدم الخيار على زوجها بعد الانعتاق، مضافًا إلى كفاية دليل الوفاءبالعقود في ذلك بعد صيرورة الشرط جزء للعقد.
وأمّا توقّف الملك وشبهه على أسباب خاصة فهي دعوى غير مسموعة مع وجود أفراد اتفق على صحتها كما في حمل الجارية ومال العبد وغيرهما.
ودعوى تسويغ ذلك لكونها توابع للمبيع مدفوعة؛ لعدم صلاحية ذلك للفرق، مع أنّه يظهر من بعضهم جواز اشتراط ملك حمل دابّة في بيع اخرى … إلى أن قال: وكيف كان فالأقوى صحة اشتراط الغايات التي لم يعلممن الشارع إناطتها بأسباب خاصة، كما يصح نذر مثل هذه الغايات بأن ينذر كون المال صدقة أو الشاة اضحية أو كون هذا المال لزيد، وحينئذٍ فالظاهر عدم الخلاف في وجوب الوفاء بها بمعنى ترتب الآثار»[6].
المسألة الثانية:
هل يجوز شرط ملكية العين في الاجارة مع الجهالة، كأن يؤجر العين بشرط ملكية العين عند إعطاء تمام مال الإجارة قبل الأجل أو حاله من دون تعيين الوقت أو لا يجوز؟ وحيث إنّ الاجارة ملحقة بالبيع في اشتراطعدم الغرر فاللازم هو ملاحظة حكم الشرط المجهول في البيع.
ذهب شيخنا الأعظم قدس سره إلى أنّ من شروط صحة الشرط أن لا يكون الشرط مجهولًا جهالة توجب الغرر في البيع؛ لأنّ الشرط في الحقيقة كالجزء من العوضين، كما سيجيء بيانه. وقال العلّامة في التذكرة: «وكما أنّ الجهالة في العوضين مبطلة فكذلك في صفاتهما ولواحق المبيع، فلو شرط شرطا مجهولًا بطل البيع»[7] وقد سبق ما يدلّ على اعتبار تعيين الأجل المشروط في الثمن.
بل لو فرضنا عدم سراية الغرر في البيع كفى لزومه- الغرر- في أصل الشرط بناء على أنّ المنفي مطلق الغرر حتى في غير البيع، ولذا يستندون إليه في أبواب المعاملات حتى الوكالة، فبطلان الشرط المجهول ليسلإبطاله البيع المشروط به، ولذا قد يجزم ببطلان هذا الشرط مع الاستشكال في بطلان البيع، فالعلّامة في التذكرة ذكر في اشتراط عمل مجهول في عقد البيع أنّ في بطلان البيع وجهين مع الجزم ببطلان الشرط[8].
لكن الانصاف أنّ جهالة الشرط تستلزم في العقد دائمًا مقدارًا من الغرر الذي يلزم من جهالته جهالة أحد العوضين.
ومن ذلك يظهر وجه النظر فيما ذكره العلّامة في مواضع من التذكرة من الفرق في حمل الحيوان وبيض الدجاجة ومال العبد المجهول المقدار بين تمليكها على وجه الشرطية في ضمن بيع هذه الامور بأن يقول: بعتكهاعلى أنّها حامل أو على أنّ لك حملها، وبين تمليكها على وجه الجزئية بأن يقول:
بعتكها وحملها، فصحّح الأوّل لأنّه تابع، وأبطل الثاني لأنّه جزء.
لكن قال في الدروس: «لو جعل الحمل جزء من البيع فالأقوى الصحة؛ لأنّه بمعنى الاشتراط، ولا تضر الجهالة؛ لأنّه تابع»[9]، وقال في باب بيع المملوك: «ولو اشتراه وماله صح، ولم يشترط علمه ولا التفصّي منالربا إن قلنا إنّه يملك، ولو أحلناه اشترطنا»[10].
والمسألة محل إشكال وكلماتهم لا يكاد يعرف التئامها حيث صرّحوا بأنّ للشرط قسطًا من أحد العوضين وأنّ التراضي على المعاوضة وقع منوطًا به، ولازمه كون الجهالة فيه قادحة.
والأقوى اعتبار العلم؛ لعموم نفي الغرر إلّا إذا عدّ الشرط في العرف تابعًا غير مقصود بالبيع كبيض الدجاج[11].
وحيث كانت الاجارة ملحقة بالبيع إجماعًا فما ذكره الشيخ الأعظم يأتي في الاجارة أيضًا.
يمكن أن يقال: إنّ الدليل الناهي عن الغرر مختص بما إذا كان العوضان غرريين؛ لظهور قوله عليه السلام: «نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن بيع الغرر» في النهي عن بيع العوضين مع الغرر، ولم يحك عنهصلى الله عليه وآله وسلم النهي عن نفس البيع الغرري، وفرق واضح بين النهي عن بيع الغرر والنهي عن البيع الغرري، وعليه فإذا لم يكن الشرط وصفًا للعوضين، بل التزام في ضمن التزام البيع، فلا وجه لبطلانه وإن كان غرريًا؛ لعدم سراية الغرر منه الى العوضين بعد عدم كونه من أوصاف العوضين، وأمّا تقييد الالتزام البيعي بالالتزام الشرطي الغرري فلا يوجب إلّا غررية نفس الالتزام البيعي لا غررية العوضين ولا نهيعن نفس الالتزام الغرري بعد ما عرفت من اختصاص النهي عن الغرر بالعوضين.
ثمّ إنّ دعوى أنّ الشرط بمنزلة الجزء ممنوعة؛ بأنّه لو كان كذلك لزم أن ينقص من الثمن إذا لم يفِ بالشرط، كما إذا نقص أحد العوضين ينقص ما يقابله، كما افاد في جامع المدارك[12].
وعليه فإلحاق الشرط بالجزء لبّي، ولا يجعله جزء للعوض في البيع أو الاجارة، فالفرق بين تمليك المجهولات بنحو الجزئية أو بنحو الشرطية كما يظهر من العلّامة صحيح. ولعلّ مراد صاحب الدروس ممّا مرّ أنّالجزئية ربما تكون في حكم الشرطية والجهالة فيها لا تضر، ولا بأس بذلك فيما إذا كانت الجزئية كذلك. نعم، لو سرت الجهالة من الشرط الى العوضين كما إذا كان من أوصاف العوضين كان فيهما باعتبار جهالةالعوضين لا جهالة الشرط كما يظهر من عبارة الشيخ الاعظم قدس سره.
وبالجملة فلا دليل على النهي عن غررية نفس البيع ولا على النهي عن غررية نفس الشرط، بل يختص الدليل بغررية العوضين، فلا تغفل.
المسألة الثالثة:
هل يجوز أن يؤجر الكلي مع أوصاف التعيين أو لا يجوز؟ الظاهر من الجواهر أنّ إجارة الكلي المذكور جائزة حيث قال: « (إذا استأجر دابّة) معينة (اقتصر على مشاهدتها، فإن لم تكن مشاهدة) بل غائبة أو كانت كلية(فلا بدّ من ذكر جنسها) كالإبل (و وصفها) على وجه به يرتفع معه الغرر في الاجارة بذكر النوع من العرابي والبخاتي … الخ»[13].
وما ذكره قدس سره مطابق للقاعدة فيما إذا اعتبر الكلي في الذمّة.
ودعوى لزوم الملكية قبل الاجارة مندفعة؛ لصحة بيع السلف مع أنّ ملكية الكلي فيه مقارنة مع البيع، فاللازم هو اعتبار ملكية الكلي حال المعاملة، وهو حاصل فيما إذا كانت ذمّة البائع أو المؤجر ذات اعتبار، ولا دليلعلى تقدّم الملكية، كما أنّ الأمر كذلك في شرط القدرة، فتدبّر جيّدًا.
نعم، لا يجوز إجارة العين الخارجية قبل تملّكها؛ إذ لا اعتبار للملكية قبل تملك العين الخارجية.
ولعلّه لذا صرّح في الوسيلة[14] وتحريرها[15] بجواز كون العين المستأجرة كلية، فراجع باب الاجارة فيهما.
ولا فرق بين أن تكون الاجارة المذكورة مشروطة بشرط التمليك أو لم تكن، وعليه فلا إشكال في اشتراط التمليك أو الملكية في إجارة الكلّي مع توصيفه بأوصاف معينة.
ولا إشكال فيه، وإنّما الكلام في إجارة الفرد المردّد، صرّحا في إجارة الوسيلة وتحريرها وغيرهما بعدم الجواز؛ ولعلّ المانعين ألحقوا الإجارة بالبيع، ذهب الشيخ الاعظم قدس سره في المكاسب- في مسألة بيع بعضمن جملة متساوية الأجزاء- الى عدم الجواز في الفرض المذكور مستدلًّا بفهم الأصحاب مع اعترافه بعدم الدليل عليه في صورة تساوي الأجزاء حيث قال: «يتصور ذلك على وجوه … إلى أن قال: الثاني أن يراد بهبعض مردّد بين ما يمكن صدقه عليه من الأفراد المتصورة في المجموع، نظير تردّد الفرد المنتشر بين الافراد، وهذا يتضح في صاع من الصيعان المتفرّقة، ولا إشكال في بطلان ذلك مع اختلاف المصاديق في القيمةكالعبدين المختلفين؛ لأنّه غرر، لأن المشتري لا يعلم بما يحصل في يده منهما.
وأمّا مع اتفاقهما في القيمة كما في الصيعان المتفرّقة فالمشهور أيضًا- كما في كلام بعض- المنع، بل في الرياض نسبته إلى الأصحاب، وعن المحقق الأردبيلي قدس سره أيضًا نسبة المنع عن بيع ذراع من كرباسمشاهد من غير تعيين أحد طرفيه إلى الأصحاب. واستدلّ على المنع بعضهم[16] بالجهالة التي يبطل معها البيع إجماعًا.
وآخر بأنّ الإبهام في البيع مبطل له، لا من حيث الجهالة، ويؤيّده أنّه حكم في التذكرة مع منعه عن بيع أحد العبدين المشاهدين المتساويين بأنّه لو تلف أحدهما فباع الباقي ولم يدر أيّهما هو صحّ خلافًا لبعض العامة.
وثالث بلزوم الغرر.
ورابع بأنّ الملك صفة وجودية محتاجة إلى محل تقوم به كسائر الصفات الموجودة في الخارج، وأحدهما على سبيل البدل غير قابل لقيامه به؛ لأنّه أمر انتزاعي من أمرين معيّنين.
ويضعف الأوّل بمنع المقدّمتين؛ لأنّ الواحد على سبيل البدل غير مجهول، إذ لا تعيّن له في الواقع حتى يجهل، والمنع عن بيع المجهول ولو لم يلزم غرر- أي الخطر والضرر- غير مسلَّم.
نعم، وقع في معقد بعض الاجماعات ما يظهر منه صدق كلتا المقدّمتين:
ففي السرائر- بعد نقل الرواية التي رواها في الخلاف على جواز بيع عبد من عبدين- قال: إنّ ما اشتملت عليه الرواية مخالف لما عليه الامّة بأسرها منافٍ لأصول مذهب أصحابنا وفتاويهم وتصانيفهم؛ لأنّ المبيع إذاكان مجهولًا كان البيع باطلًا بغير خلاف[17].
وعن الخلاف في باب السلم أنّه: اذا قال: اشتريت منك أحد هذين العبدين بكذا أو أحد هؤلاء العبيد الثلاثة بكذا لم يصح الشراء … دليلنا: أنّ هذا بيع مجهول، فيجب أن لا يصح، ولأنّه بيع غرر لاختلاف قيم العبيد، ولأنّهلا دليل على صحة ذلك في الشرع، وقد ذكرنا هذه المسألة في البيوع، وقلنا: إنّ أصحابنا رووا جواز ذلك في العبدين، فإن قلنا بذلك تبعنا فيه الرواية، ولم يقس غيرها عليها[18] … إلى أن قال الشيخ الأعظم قدس سره:وسيأتي أيضًا في كلام فخر الدين: انّ عدم تشخيص المبيع من الغرر الذي يوجب النهي عنه الفساد إجماعًا[19].
وظاهر هذه الكلمات صدق الجهالة، وكون مثلها قادحة اتفاقًا مع فرض عدم نص، بل قد عرفت ردّ الحلي للنص المجوّز بمخالفته لإجماع الامّة.
وممّا ذكرنا من منع كبرى الوجه الأوّل- أي من عدم الدليل على البطلان- يظهر حال الوجه الثاني من وجوه المنع، أعني كون الإبهام مبطلًا؛ لعدم ثبوت الاجماع على بطلان الإبهام.
وأمّا الوجه الثالث، فيردّه منع لزوم الغرر مع فرض اتفاق الافراد في الصفات الموجبة لاختلاف القيمة، ولذا يجوز الإسلاف في الكلّي من هذه الأفراد مع أنّ الانضباط في السلَم آكد، وأيضًا فقد جوّزوا بيع الصاع الكلّيمن الصبرة، ولا فرق بينهما من حيث الغرر قطعًا. ولذا ردّ في الايضاح[20] حمل الصاع من الصبرة على الكلّي برجوعه إلى عدم تعيين المبيع الموجب للغرر المفسد إجماعًا.
وأمّا الرابع، فبمنع احتياج صفة الملك إلى موجود خارجي؛ فإنّ الكلّي المبيع سلَمًا أو حالًا مملوك للمشتري، ولا وجود لفرد منه في الخارج بصفة كونه مملوكًا للمشتري.
فالوجه إنّ الملكية أمر اعتباري يعتبره العرف والشرع أو أحدهما في موارده، وليست صفة وجودية متأصّلة كالحموضة والسواد، ولذا صرّحوا بصحة الوصية بأحد الشيئين بل بأحد الشخصين ونحوهما.
فالانصاف- كما اعترف به جماعة أوّلهم المحقق الأردبيلي- عدم دليل معتبر على المنع من بيع الفرد المردّد، قال في شرح الارشاد- على ما حكي عنه بعد أن حكى عن الأصحاب المنع عن بيع ذراع من كرباس منغير تقييد كونه من أيّ الطرفين- قال: وفيه تأمّل؛ إذ لم يقم دليل على اعتبار هذا المقدار من العلم، فإنّهما إذا تراضيا على ذراع من هذا الكرباس من أيّ طرف أراد المشتري أو من أيّ جانب كان من الأرض فما المانعبعد العلم بذلك[21]؟
فالدليل عليه هو الاجماع لو ثبت، وقد عرفت من غير واحد نسبته إلى الأصحاب.
قال بعض الأساطين- في شرحه على القواعد بعد حكم المصنف بصحة بيع الذراع من الثوب والأرض الراجع إلى الكسر المشاع- قال: وإن قصدا معيّنًا من عين أو كلّيًا لا على وجه الإشاعة بطل؛ لحصول الغرربالابهام في الأوّل، وكونه بيع المعدوم، وباختلاف الأغراض في الثاني غالبًا فيلحق به النادر، وللإجماع المنقول فيه … إلى أن قال: والظاهر بعد إمعان النظر ونهاية التتبع أنّ الغرر الشرعي- أي مجرّد الجهل- يستلزمالغرر العرفي وبالعكس، وارتفاع الجهالة في الخصوصية- فيما إذا تساوت الأفراد- قد لا يثمر مع حصولها في أصل الماهية- كالفرد المردّد- ولعلّ الدائرة في الشرع أضيق وإن كان بين المصطلحين عموم وخصوصمن وجهين، وفهم الأصحاب مقدّم؛ لأنّهم أدرى بمذاق الشارع، واللّٰه أعلم.
ولقد أجاد حيث التجأ إلى فهم الأصحاب فيما يخالف العمومات»[22].
حاصل كلام الشيخ الأعظم قدس سره: أنّه لا دليل على اعتبار عدم وجود الابهام أو الجهل في المتساويين في القيمة والخصوصيات، إلّا الاعتماد على الإجماع المنقول الدالّ على أنّ الأصحاب فهموا من النهي عنالغرر النهي عن الجهل أو الابهام أيضًا ولو لم يكن موجبًا للضرر والخطر.
ثمّ إنّ كلام الشيخ وإن كان في مورد البيع، ولكن يجري في الاجارة بعد كونها ملحقة بالبيع، ولعلّه لذا قال السيد المحقق اليزدي قدس سره مسألة (4) من شرائط العوضين في الاجارة: «لا بدّ من تعيين العين المستأجرة،فلو آجره أحد هذين العبدين أو إحدى هاتين الدارين لم يصح»[23].
قال في المستمسك: «هذا إذا كان على وجه الترديد؛ لأنّ المردّد لا وجود له في الخارج فلا تصح إجارته، أمّا إذا كان على وجه الكلّي في المعيّن فلا بأس بإجارته كما لا بأس ببيعه، كما أنّه إذا كان أحد العبدين معيّنًا فينفسه مردّدًا عندهما أو عند أحدهما مثل الأكبر أو الأصغر فالبناء على البطلان فيه مبني على مانعية الجهل، وإلّا فلا مانع عنه عقلًا ولا عرفًا، والأدلّة المطلقة تقتضي الصحة، وأدلّة نفي الغرر قد عرفت الاشكال فيهامع أنّه قد لا يكون غرر، كما إذا كان العبدان لا يختلفان بالصفات التي تختلف بها الرغبات أو المالية، فالعمدة في وجه البطلان ظهور التسالم عليه»[24].
ولقد أفاد وأجاد بالنسبة إلى بيان عدم المانع من صحة الاجارة كالبيع فيما إذا لم يكن غرر وضرر وبالنسبة إلى عدم دليل على مانعية الجهل ولو لم يكن غررًا وضررًا.
ولكن تخصيص ذلك بالكلّي والحكم ببطلان الفرد المردّد مطلقًا لا يخلو عن تأمّل ونظر؛ لأنّ الفرد المردّد مراد بحسب المفهوم، وأمّا بحسب معنونه في الخارج فهو متشخّص ومتعيّن، والذي ليس له وجود في الخارجهو مفهوم الفرد المردّد لا معنونه، والفرد المردّد عنوان للمتعيّنات، والمفهوم وإن كان مبهمًا ولا تعيّن فيه ولكن معنونه من المتعيّنات.
و قول الشيخ الاعظم قدس سره «إنّ الواحد على سبيل البدل غير مجهول؛ اذ لا تعيّن له في الواقع حتى يجهل»[25] منظور فيه بعد كون معنون الفرد المردّد من المتعيّنات.
وعليه فلا مانع من صحة بيعه أيضًا فيما إذا كان أطراف الفرد المردّد متساوية في الصفات التي تختلف بها الرغبات أو المالية.
وأمّا فهم الأصحاب في إلحاق الابهام في المتساويين بالغرر لو ثبت فلا يكون دليلًا إذا كان مستندًا إلى الوجوه المذكورة الضعيفة؛ اذ فهم الأصحاب كالاجماع، فكما أنّ الاجماع مع احتمال المدرك لا يكشف عن رأيالمعصوم، فكذلك فهم الأصحاب، اللهم إلّا أن يكون الفهم المذكور كالاجماع متصلًا إلى زمان المعصوم ولم يردعهم المعصوم عليه السلام فيما فهموه فإنّه يكشف حينئذٍ عن رضا الشارع به وتقريره إيّاه، وإلّا لردعهمعن ذلك ووصل إلينا، والمفروض هو العدم.
والعمدة انّ الاجماع وفهم الأصحاب في إلحاق الابهام في المتساويين بالغرر غير ثابت في البيع فضلًا عن الاجارة، خصوصًا مع تصريح الشيخ في الخلاف[26] في وجه البطلان بالغرر باختلاف قيمتي العبدين؛ إذالمعلوم منه أنّ الكلام في غير المتساويين، ففي المتساويين لم يثبت الاجماع أو فهم الأصحاب، فمقتضى إطلاق الأدلّة هو الصحة كما ذهب إليه السيد المحقق الخوئي قدس سره[27]، فالأقوى هو صحة إجارة أحد هذينالعبدين أو أحد هاتين الدارين فيما إذا كانا متساويين في الصفات التي تختلف بها الرغبات خلافًا لما ذهب إليه الشيخ الأعظم والسيد المحقق اليزدي ووفاقًا لما تأمّل فيه المحقق الأردبيلي قدس سره وذهب اليه السيدالمحقق الخوئي قدس سره.
ثمّ بناءً على تقدير إمكان بيع أو إجارة الفرد المردّد كالفرد الخارجي فإنّ تعيين مورد البيع أو الاجارة يحتاج إلى توافق البائع والمشتري أو المؤجر والمستأجر، وليس هو مثل الكلّي حتى يكون تعيينه في الخارج بيدالبائع، بل هو من التعيّنات الخارجية، فيكون كما إذا اختلطت المملوكات من الملاك فكما أنّ تعيين ملك كلّ فرد يحتاج إلى التوافق والتراضي فكذلك في المقام بعد صحة بيع الفرد المردّد أو إجارته.
ثمّ إنّه لو تأخّر وقت التحويل عن وقت المعاملة وكان لبعض الأفراد نتاج أو منفعة مستوفاة وصار ذلك منشأ للتشاح بين المشتري والبائع أو المؤجر والمستأجر، أمكن القول بالقرعة لرفع التشاح، ولكن مع إمكانالتصالح والتراضي لا يبقى موضوع لقاعدة القرعة، فتدبّر.
وممّا ذكر يظهر أنّه لا إشكال في جواز جعل المؤجر تعيين مورد الاجارة على المستأجر في العين المستأجرة إذا كانت مورد الاجارة بنحو الكلّي أو بنحو الفرد المردّد؛ فإنّ التعيين في الكلّي بيد المؤجر، ولا إشكال فيجواز جعل تعيينه بيد المستأجر مع رضاه، كما أنّ التعيين في الفرد المردّد بيدهما، ولا مانع من جواز توافقهما بأن يكون ذلك بيد المستأجر، فلا تغفل.
المسألة الرابعة:
إنّه لو لم يشترط المؤجر في الاجارة شرط التمليك مباشرة المستأجر بخصوصه جاز للمستأجر أن يؤجر ما استأجره للغير مطلقًا أو بشرط التمليك إذا لم يكن مبلغ الاجارة أزيد ممّا أعطاه للمؤجر؛ للعمومات واختصاصأدلّة المنع بغيره، نعم مع اشتراط المباشرة في الاجارة لا يجوز ذلك.
وحينئذٍ فإن كانت الاجارة مع شرط التمليك فالمستحق للشرط المذكور هو المستأجر الثاني، وإلّا فالمستحق له هو المستأجر الأوّل، كما هو واضح.
وأمّا إذا كان مبلغ الاجارة أزيد، فمع عدم اشتراط المباشرة وإن كان مقتضى القاعدة هو الصحة؛ لأنّ المستأجر مالك للمنفعة المطلقة غير المقيّدة بالمباشرة، ولكن دلّت النصوص في الدور والأجير على عدم جواز ذلك،إلّا إذا أحدث فيها شيئًا:
منها: صحيحة الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «لو أنّ رجلًا استأجر دارًا بعشرة دراهم فسكن ثلثيها وآجر ثلثها بعشرة دراهم لم يكن به بأس، ولا يؤاجرها بأكثر ممّا استأجرها به إلّا أن يحدث فيها شيئًا»[28].
ومنها: معتبرة أبي المغراء عن أبي عبد اللّه عليه السلام في الرجل يؤاجر الأرض ثمّ يؤاجرها بأكثر ممّا استأجرها؟ قال: «لا بأس، إنّ هذا ليس كالحانوت ولا الأجير، إنّ فضل الحانوت والأجير حرام»[29].
ومنها: موثقة إسحاق بن عمّار عن جعفر عن أبيه عليهما السلام انّ أباه كان يقول:
«لا بأس أن يستأجر الرجل الدار أو الأرض أو السفينة ثمّ يؤاجرها بأكثر ممّا استأجرها به إذا أصلح فيها شيئًا»[30]؛ لدلالتها بالمفهوم على ثبوت البأس إذا لم يصلح.
ولا تضرّ دلالة معتبرة أبي المغراء على جواز الزيادة في الأرض؛ لإمكان الجمع بينهما بالحمل على الكراهة بالنسبة الى الأرض وبقي الباقي على عدم الجواز؛ لعدم قرينة على رفع اليد عمّا يقتضيه النهي فيه. ولا يلزممن ذلك استعمال النهي في الكراهة؛ لما قرّر في محلّه من أنّ الوجوب والحرمة والكراهة ليست داخلة في معنى الأمر والنهي.
ومنها: خبر أبي الربيع الشامي عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: سألته عن الرجل يتقبّل الأرض من الدهاقين ثمّ يؤاجرها بأكثر ممّا تقبّلها به يقوم فيها بحظّ السلطان، فقال: «لا بأس به، إنّ الأرض ليست مثل الأجير ولامثل البيت، إنّ فضل الأجير والبيت حرام»[31].
ولكن الخبر ضعيف من ناحية أبي الربيع، ووجوده في أسناد تفسير علي ابن إبراهيم لا يكون من شواهد التوثيق.
وأمّا استفادة عدم الجواز في البيت من إطلاق الأخبار الواردة في الدار بدعوى أنّ الدار قد لا يكون لها إلّا بيت واحد فمحلّ تأمّل؛ لأنّ الدار في اللغة هي المحلّ الذي يجمع البناء والعرصة، اللهم إلّا أنّ يقال: إنّ الدارمشتمل على البيت، وهو المسكن، وشمولها لأمر زائد وهو العرصة لا يمنع عن شمولها للبيت. وبقية الكلام في محلّه.
وممّا ذكرنا يظهر قوة القول بعدم الجواز في صورة زيادة الاجرة من دون تغيير في الموارد المذكورة، وعليه فما يظهر من العروة من الاحتياط في تلك الموارد لا وجه له بعد ما عرفت من قوة دلالة الأدلّة على الحرمة[32].
المصدر: مجلة فقه أهل البيت عليهم السلام، ع٤٣، ص٢٥-٤٠.
[1] العروة الوثقى 5: 7، التعليقة.
[2] جامع المدارك 3: 453.
[3] المائدة: 1.
[4] مستدرك الوسائل 13: 301، ب 5 من خيار الشرط، ح 7.
[5] الكافي 5: 292، ح 1.
[6] المكاسب (الانصاري) 6: 59- 62.
[7] التذكرة 10: 99.
[8] انظر: التذكرة 10: 99.
[9] الدروس الشرعية 3: 216.
[10] المصدر السابق: 226.
[11] المكاسب (الانصاري) 6: 51- 53.
[12] جامع المدارك 3: 154.
[13] الجواهر 27: 282- 283.
[14] وسيلة النجاة: 397.
[15] تحرير الوسيلة 1: 524.
[16] جامع المقاصد 4: 150.
[17] السرائر 2: 350.
[18] الخلاف 3: 217.
[19] المكاسب (الانصاري) 4: 247- 250.
[20] ايضاح الفوائد 1: 430.
[21] مجمع الفائدة 8: 182.
[22] المكاسب (الانصاري) 4: 252.
[23] العروة الوثقى 5: 14.
[24] مستمسك العروة الوثقى 12: 13- 14.
[25] المكاسب (الأنصاري) 4: 249.
[26] الخلاف 3: 217.
[27] انظر: كتاب الاجارة 1: 62.
[28] الوسائل 19: 129- 130، ب 22 من أحكام الاجارة، ح 3.
[29] الوسائل 19: 125، ب 20 من أحكام الاجارة، ح 4.
[30] الوسائل 19: 129، ب 22 من احكام الاجارة، ح 2.
[31] الوسائل 19: 125، ب 20 من احكام الاجارة، ح 3.
[32] العروة الوثقى 5: 12 (الاجارة) فصل من أحكام الاجارة، م 1.
الوسوم: الاقتصاد الإسلامي, المعاملات البنكية, علم الاقتصاد