الأفكار الاقتصادية للإمام موسى الصدر
السيد موسى الصدر
يهدف هذا البحث إلى التعرف على آراء وأفكار الإمام موسى الصدر من خلال نشاطاته في كل من إيران ولبنان. وذلك بالرجوع إلى كتاباته وأحاديثه وممارساته على أرض الواقع، وما ترك سماحته من مؤسسات وذكريات. وبشكل عام توضّح هذه المصادر مجتمعةً بأن الإمام موسى الصدر كان يؤمن بأن الدين الإسلامي نظام متكامل للحياة. تحدّث عن كافة جوانب وأبعاد حياة الإنسان ووضع برنامج عمل لها، بما في ذلك المذهب الاقتصادي الإسلامي الذي حدد نهجه وأسلوبه الخاص بالقضاء على الفقر وإرساء أسس العدالة بنحو يختلف تمامًا عن المذاهب الاقتصادية الأخرى، كالمذهب الرأسمالي والمذهب الاشتراكي. فإذا ما قسّمنا -لغرض السهولة- أصحاب عناصر الإنتاج إلى فئتين: العمال والمستثمرون، فإن الإمام موسى الصدر يرى بأن الحقوق والامتيازات التي ينصّ عليها الدين الإسلامي أثناء التوقيــع على عقـود العمل، تؤكد رجحان كفّة الحقوق التي تحصل عليـها الأيـدي العـاملــة مقارنة بحقوق أرباب العمل [2]. ومع مواصلة الفعاليات الاقتصادية وتكرار عقود العمل، تمهّد الامتيازات القانونية للقوى العاملة امتيازًا نسبيًا لها أثناء التوزيع المجدد للعائدات. وكان الشهيد محمد باقر الصدر يؤمن أيضًا بمثل هذا الامتياز لليد العاملة أثناء "التوزيع قبل الإنتاج والتوزيع بعد الإنتاج" [5]. أضفْ إلى ذلك، أن برنامج الزكاة التي نصَّ عليها الإسلام، ليس هو-كما يرى الإمام موسى الصدر- برنامجًا ضريبيًا لتأمين جانبٍ من نشاطات الحكومة [3]، بل هو نهج لتحقيق الموازنة بالمداخيل في المجتمع كي يتمّ تأمين رفاهٍ نسبي لكافة الأفراد قدر الإمكان.
وفضلًا عن النظرية أعلاه، يبدو أن الإمام موسى الصدر يقترح نهجًا مستقلًا للتنمية الاقتصادية للمسلمين، يختلف عن نهج كل من المذهب الرأسمالي والمذهب الاشتراكي، وذلك باستناده إلى تربية الطاقات الإنسانية وتوجيهها بما يضاعف من تأثيرها في اقتصاد البلاد [4]. إذ أن تراكم الثروة الإنسانية يقود إلى استمرار النمو الاقتصادي وتوفير فرص العمل للطاقات البشرية والمحافظة على البيئة، ومن ثم تأمين الرفاه والسعادة للمجتمع بأسره. وإننا نجد مثل هذا النهج في التنمية الاقتصادية في سيرة الرسول الأكرم (ص) بدافع تطوير اقتصاد المسلمين [7].
تمهيد:
عاصَرَت الحوزة العلمية في قُمّ منذ بدء تأسيسها، تحولات سياسية واجتماعية كبيرة على صعيد البلاد والمنطقة معًا. وإن بعض هذه التحولات، نظير تثبيت حكم رضا شاه وممارساته المعادية للدين، من قبيل فرض السفور والهجوم المسلّح على مسجد گوهرشاد المجاور لمرقد الإمام علي بن موسى الرضا في مدينة مشهد المقدسة، مثّلت تهديدًا مباشرًا لكيان الحوزة ومعتقدات أبناء الشعب. كما شكّل بعضها الآخر، نظير اندلاع الحرب العالمية الثانية وعزل رضا شاه ودخول الحلفاء الأراضي الإيرانية، خطرًا هدّد أمن البلاد بأسرها. ولم يمضِ وقت طويل على اعتلاء محمد رضا بهلوي للعرش، حتى انطلقت نهضة تأميم النفط، فعادت البلاد لتشهد تحولًا سياسيًا داخليًا ومن ثم مواجهة التدخل الأجنبي الفاضح. وتواصلت مثل هذه الأحداث والتطورات حتى قيام انتفاضة الخامس عشر من خرداد (1). اتسعت دائرة نضال الجماهير بقيادة الإمام الخميني لتشمل إيران بأسرها، وانتهت بانتصار الثورة الإسلامية في إيران.
وكان من الطبيعي أن يشارك كل من مؤسس الحوزة العلمية في مدينة قُمّ المرحوم آية الله العظمى الشيخ عبد الكريم الحائري ووصيه المرحوم آية الله العظمى السيد صدر الدين الصدر وبقية المراجع، بصورة مباشرة أو غير مباشرة في هذه التحولات، وأن يؤدوا رسالتهم الدينية الحساسة. وبطبيعة الحال لم يكن بقية علماء ومُدرّسي الحوزة العلمية بقُمّ وطلبتها بمعزل عن هذه التطورات، والتفاعل معها.
وعلاوة على التحولات السياسية الآنفة الذكر، كانت إيران عُرضة للعديد من الحركات الفكرية والإيديولوجيات الواردة من الغرب والشرق معًا، حيث كانت الحكومة البهلوية تابعة ومنفّذة لما هو قادم من الغرب، وكان حزب توده -الحزب الشيوعي الإيراني- وبعض الفصائل السياسية الأخرى، يعمل على إيصال الإيديولوجية الماركسية إلى السلطة. وقد أثارت مثل هذه الأفكار والتوجهات حفيظة المفكرين الإسلاميين وعلماء الحوزة العلمية، مما دفعهم لممارسة المزيد من النشاطات الفكرية والتربوية والتبليغية الرامية إلى توعية أبناء الشعب بحقائق الدين الإسلامي، والحيلولة دون تضليلهم وضياعهم.
وفي هذه الحوزة العلمية، انكبَّ السيد موسى الصدر على دراسة العلوم الدينية وطوى المدارج العلمية -بحوث السطوح والخارج- حتى الاجتهاد. وفي هذه الفترة بالذات قرر سماحته -مع الشهيد بهشتي- الالتحاق بالجامعة، واختبار الدراسة الاكاديمية. ويومها كانا من أوائل طلبة الحوزة العلمية الذين التحقوا بالجامعة. بيد أن الإمام موسى الصدر قرر دراسة الاقتصاد، فيما توجّه الشهيد بهشتي لدراسة المعقول والمنقول.
بعد انتهاء دراسته في كلية الاقتصاد، وتزامنًا مع إنهاء دروسه الحوزوية، فكّر الإمام موسى الصدر مع عدد من الذين ينسجمون معه فكريًا، في إصدار مجلّة تتولى عرض وجهة نظر الحوزة العلمية، أو الخوض في العلوم الإسلامية التي درسوها وأحاطوا بها على أقلّ تقدير. ذلك أن التحولات السياسية والفكرية التي عصفت بالبلاد في القرن الأخير ونتج عنها الكثير من الاضطرابات والانتفاضات، وكانت سببًا في شيوع وتداول المذهب الرأسمالي والمذهب الاشتراكي، أوجدت حاجة ماسّة وملحّة لعرض وتبيين أحكام الدين الإسلامي ومواقفه.
بهذا الهدف انطلقت مجلة "مكتب إسلام" -المدرسة الإسلامية- في تعريف المواقف الإسلامية حيال التحولات السياسية والفكرية الآنفة الذكر. وقد كُرّست سلسلة المقالات التي كتبها الإمام موسى الصدر في هذه المجلة، للحديث عن الاقتصاد في المدرسة الإسلامية. ولم يمضِ وقت طويل على صدور مجلة "مكتب إسلام"، حتى صدرت مجلة أخرى تحمل عنوان "مكتب تشيّع". وفي هذه المجلة أيضًا، التي دعت أرباب الفكر وأصحاب الرأي في الحوزة العلمية بقُمّ للمساهمة فيها، كتب الإمام موسى عن الاقتصاد الإسلامي وسبل القضاء على التفاوت الطبقي من وجهة النظر الإسلامية [3].
وفي السنوات الأولى من هجرته إلى لبنان، اهتم سماحته بعرض التعاليم الدينية وإحياء التقاليد الإسلامية الـشيعية. وفي أول فرصة بادر الإمام موسى الصدر إلى تأسيس الثانوية الصناعية (2) (المهنية) في جبل عامل لتعليم شباب الشيعة -جنبًا إلى جنب التوعية الدينية- الحِرَف والمِهَن الهندسية والزراعية والفنية وتمكينهم من مزاولتها. وفي السنوات التالية، حيث أقدم على تأسيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى في لبنان بادر سماحته إلى إلقاء بحوثه في الاقتصاد الإسلامي.
آراء وأفكار الإمام موسى الصدر
التطورات التي شهدتها إيران، والتهديدات التي طرأت للحوزة العلمية في قُمّ، دفعت بأصحاب الرأي للتفكير بعلاج وحلّ. وكانت الحوزة العلمية رائدة وسبّاقة دائمًا في ميدان الحقوق والفلسفة، وطالما انبرى فيها العلماء لتحليل الوقائع والأحداث. أما على الصعيد السياسي، فقد قدّم الحكماء آراءهم من خلال الحكمة العملية والسياسية المدوّنة.
غير أن الحاجة كانت ماسّة إلى تحديد مواقف الإسلام الاقتصادية، سيَّما بعد شيوع الأفكار الاشتراكية. ولهذا لم يكن عبثًا أن يتخذ الإمام الصدر قرارًا بالالتحاق بالجامعة ومواصلة الدراسة في كلية الاقتصاد. وإن دلّ ذلك على شيء فإنما يدلّ على إيمانه بأن الدين الإسلامي نظام حياة للبشرية جمعاء، قادر على الأخذ بيد الإنسان على الدوام ومعالجة مشاكله وتسديد خطاه على طريق الصواب. فالإسلام من وجهة نظر سماحته، قد نظّم العلاقة بين الإنسان والخالق والطبيعة، وحدد رسالة الإنسان في الحياة الدنيوية، ومن ثم مصيره في الحياة الأخروية. كما أوضح له نهج حياته في هذا العالم من خلال العقيدة وأطروحاته الأخرى، بما فيها المذهب الاقتصادي الإسلامي، الذي يوضح كيف يمكن التغلب على المشاكل الاقتصادية وتحقيق العدالة على الصعيد الاقتصادي.
إذًا، فالإسلام من وجهة نظر الإمام موسى الصدر ليس مجرّد دين للعبادة، وإنما هو ثقافة ونظام ورسالة للحياة، ولأنه أيضًا يمتلك التعاليم والمناهج التي تنظّم كافة أبعاد حياة الإنسان. "ومع سيادة النظام الإسلامي، لا بدّ من هيمنة مختلف أبعاده الفكرية والاجتماعية على شؤون حياة الإنسان برُمَّتها. وإذا لم يُقدَّر له أن يطبّق بحذافيره فإن كل جزء من النظام الإسلامي يعمل به سيترك آثاره، رغم أن هذه الآثار لن تكتمل إلاّ حينما تطبّق باقي أجزاء النظام الإسلامي"(3). علاوةً على ذلك، إن المذهب الاقتصادي الإسلامي منبثق في الحقيقة عن الرؤية الإسلامية العامة للكون -الرؤية الكونية التوحيدية- وإن الحلول التي يقدمها لازدهار الحياة الاقتصادية للإنسان، تتميز بالاستقلال من جهة، وتختلف عن معالجات المذاهب المادية والأديان الأخرى من جهة أخرى [5]. ويبدو أن الإمام الصدر قد انبرى لاكتشاف هذا المذهب وتدوينه وعرضه منذ أن بدأ بدراسة الاقتصاد في الجامعة على أقل تقدير. وكان يبادر إلى ذلك كلما سنحت له الفرصة سواء في إيران أو في لبنان.
توزيع الدخل بين أصحاب عناصر الإنتاج:
نحن نعلم أن خبراء الاقتصاد يقسّمون في دراساتهم -لغرض السهولة- الناشطين الاقتصاديين، إلى فئتين هما: المنتجون والمستهلكون. والمُنتِج هو الذي يتمتع بالعلم والمهارة في انتخاب العناصر الإنتاجية والاستفادة منها في إنتاج محصول أو سلعة معينة. ويعدّ المزارعون والصناعيون جزءًا من الفئة المنتجة، لأنهم على اطلاع بكيفية استخدام الماء والأرض لإنتاج المحاصيل الزراعية، أو طريقة الاستفادة من المواد الأولية في مختلف أنواع الصناعات -كصناعة النسيج- بمساعدة الآلات والمكائن، وفي أعمال البناء والتشييد، إلى غير ذلك. كما أنهم يعرفون كيف يجنون الأرباح عن طريق بيع السلع والمنتوجات، بعد تسديد نفقات عناصر الإنتاج المستخدمة. أما المستهلِك فليس لديه مثل هذه القابلية، لهذا يبادر إلى عرض عناصر الإنتاج التي بحوزته على المنتجين. وفي الغالب يتمكن المستهلكون من استخدام طاقاتهم العملية، وفي مقابل عملهم يحصلون على الأجور ويوفّرون لأنفسهم لقمة العيش. وإن لبعض المستهلكين أراضٍ وعقارات يستطيعون أن يحصلوا من خلال تأجيرها على بعض المدخول. كما أن لدى البعض الآخر أدوات ومعدّات وتجهيزات ذات مردودات مالية كالسيارة والجرّار وبعض المكائن الكهربائية والآلية، يؤمّن معاشه عن طريق تأجيرها.
ثمة تساؤلات عديدة تثار في علم الاقتصاد.
الأول: ما هي السلع التي ينتجها المنتجون وتكون محل حاجة المستهلكين وتوفّر لهم الرفاه؟
الثاني: كيف يمكن توزيع هذه المنتوجات بين المستهلكين كي تسدّ حاجتهم جميعًا؟
الثالث: كيف يتسنّى للمؤسسات الإنتاجية انتخاب عناصر الإنتاج، وما هو حجم استخدام كل واحد منها كي يتاح لها توفير السلع التي يحتاجها المجتمع؟
ففي النظام الرأسمالي الصرف -لا المختلط- يقوم جهاز السوق بهذه المهمة لوحده. في حين تلجأ الدولة في النظام الاشتراكي الصرف إلى توفير المستلزمات الاجتماعية من خلال نظام مبرمج. وقد أوضح الاقتصاديون -على الصعيد النظري- بأن كلًّا من النظامين قادر على تحقيق أهدافه، بيد أنهما -عمليًا- واجها الكثير من الاحباطات والفشل، مما اضطرهما إلى إعادة النظر في أهدافهما وشعاراتهما وفرضياتهما وآلياتهما، فقد تحول النظام الرأسمالي بعد كينز إلى رأسمالي مختلط قَبِلَ بتدخل الحكومة. أمّا النظام الاشتراكي فقد انهار في الاتحاد السوفياتي السابق، وأذعن في الصين لدخول الرأسمالية وازدهار القطاع الخاص، وعلى حدّ تعبير المسؤولين هناك بلد واحد بنظامين.
ومن القضايا التي اهتمّ بها النظامان، توفير الرخاء النسبي لأصحاب عناصر الإنتاج أو مختلف الفئات المستهلكة من ناحية، والسماح لها بالمساهمة في تطوير الإنتاج والتنمية الاقتصادية من ناحية ثانية. إذ يعتقد علماء الاقتصاد الكلاسيكيون بأن النمو والتنمية مدينة لتصاعد نشاط الاستثمار، حيث يؤدي هذا التصاعد إلى ازدياد حجم الرساميل العينية كالمكائن والمباني والسدود ومحطات الطاقة والمصافي؛ مما يعمل بالتالي على توسيع دائرة النشاطات الإنتاجية في المستقبل. وبناءً على ذلك، يعدّ تراكم رأس المال عامل النمو الاقتصادي في هذا المذهب.
ويعدّ وجود المخزون الاحتياطي، الشرط الأساس للاستثمار. وتعتبر تلك الفئة من المستهلكين، التي بإمكانها أن توفّر وتضع ما وفّرته تحت تصرّف المستثمرين، صاحبة الرساميل العينية وليس العمال؛ لأن العمال، طبقًا لرأي الكلاسيكيين، يتمتعون بنظام أجور لا يلبّي إلّا الحدّ الأدنى من معيشتهم [1]. ولو تحسنت أوضاع العمال بتحسن الوضع المعاشي، فسوف تقلّ نسبة الوفيات ويزداد عدد نفوسهم نتيجة لتحسن أوضاعهم المعيشية ورخائهم. وإن هذه الزيادة تؤدي إلى كثرة الأيدي العاملة. الأمر الذي يبعث على انخفاض الأجور ثانية. وفي هذه الحالة لا يعود بمقدور العمال تأمين مستلزماتهم الأساسية، فيستولي عليهم الفقر والعوز. وينجم عن هذا الوضع، ارتفاع مستوى الوفيات بين العمال وقلة اليد العاملة وارتفاع الأجور من جديد. وتتكرر هذه الظاهرة بدرجة تصبح الأجور التي تحددها السوق لا تكفي سوى لتأمين الحد الأدنى لمعيشة العمال. وهذا يعني أن الرأسماليين هم الفئة الوحيدة من المستهلكين القادرة على التوفير(savings) ودعم حركة الاستثمار (investment)، وتصبح سببًا في تراكم رأس المال (capital accumulation) في الاقتصاد.
ولا يؤمن ريكاردو بأية مساهمة لأصحاب الأرض في عملية التنمية الاقتصادية [1]. ويرى بأن الذي يحصلون عليه مقابل استئجار الأراضي الزراعية المحدودة، إنما هو بسبب ارتفاع أسعار المواد الغذائية والمحاصيل الزراعية، وليس بسبب نشاطهم في إحياء الأرض أو زيادة قيمتها الاستثمارية. ذلك أنه يرى بأن عرض الأراضي الزراعية الخصبة لهؤلاء، ثابت وغير قابل للارتفاع. ولهذا لا تؤدي كثرة الطلب إلّا إلى استخدام الأرض؛ غير أن الأراضي الخصبة تُزرع عادة قبل غيرها، ثم تتبعها الأراضي الأقل خصوبةً بشكل تدريجي، فتحصل بذلك الأراضي الأخصب على دخل فائض باسم بدل الإيجار (rent) أو الريع. وهذا يعني أن إيرادات أصحاب الأرض ليست ناشئة عن العمل والجهد، ولهذا يقترح ريكاردو على الحكومة استحصال هذه الإيرادات غير المشروعة عن طريق فرض الضرائب على الأرض. وعليه، فإن أصحاب رأس المال هم الفئة الفاعلة والمؤثرة الوحيدة في تطور العجلة الاقتصادية من وجهة نظر علماء الاقتصاد الكلاسيكيين.
ويأخذ ماركس برأي الكلاسيكيين القائل بضرورة تراكم رأس المال من أجل النمو الاقتصادي. إلّا أنه ينظر إلى وسائل رأس المال وتجهيزاته، باعتبارها ثمرة كدح العاملين وحصيلة أتعابهم، ويعتبرها عملًا متراكمًا [1 و2 و5]. وشأنه شأن سائر الكلاسيكيين، يعتبر العمل هو الذي يحدد قيمة المُنتج وعليه يمثّل العمال العنصر الأساسي في ازدهار المُنْتَج الوطني (national product) في الاقتصاد.
وفي ضوء ذلك، فإن الوضع المعيشي للعمال لا يتحسن عمّا رسمه الكلاسيكيون إلّا حينما تتغلب الأيدي العاملة على الرأسماليين وتستخدم عنصر رأس المال بنفسها. علمًا أن هذه الغلبة لا تتحقق بدون ثورة وغضب، ولا يتحقق تحرر العمال من عملية الاستغلال بدون هذه الثورة. وحينئذٍ تمسك الحكومة، التي تمثّل العمال، بزمام الاقتصاد والسياسة، فتستأصل جذور اغتصاب الحقوق واستغلال العمال عبر تأميم عناصر (وسائل) الإنتاج.
وكما هو واضح أن الرأسمالية الكلاسيكية -التي تعزو عامل النمو الاقتصادي إلى الاستثمار وتراكم رأس المال- تولي أهمية للرأسماليين من بين كل المستهلكين في حين تَعتَبر الاشتراكية الماركسية العمال مصدر الإنتاج العام وديمومته. ولهذا السبب تَعتَبر الرأسمالية الفائض الاقتصادي الناتج من النشاطات الإنتاجية من حق المستثمر، فيما تعتبره الاشتراكية عائدًا للأيدي العاملة. وإن أيًّا من المذهبين الرأسمالي والاشتراكي -وخلافًا للفيزيوقراطيين- لا يولي أهمية تذكر للأرض في عملية الإنتاج والتنمية، ولا يعترفا بسهم محدد لأصحابها في الإنتاج العام.
وكما نرى، إن نظرية توزيع الدخل بين أصحاب عناصر الإنتاج، ذات أساس مذهبي وقيمي في كلا المذهبين، ولا تقوم على أي أساس علمي محايد. وحتى هذه اللحظة لم تقدّم في علم الاقتصاد أية نظرية مبرهنة في مضمار توزيع المُنتج، رغم أن هناك نظرية طرحت لفترة قصيرة عرفت بنظرية الإنتاج الحدّي (marginal product) -أي قريب من الحدّ الأدنى للجدارة أو المقبولية- لكن سرعان ما ثبت بطلانها، لأنه إذا لم يكن تابع الإنتاج (production function) -أي العلاقة العينية بين عناصر الإنتاج والحدّ الأعلى من المُنْتَج- منسجمًا مع المتجانس الخطّي (linear homogeneous)، فهذا يعني أن عناصر الإنتاج إذا ما تغيّرت بنسبة معينة يتغير المنتج بالنسبة ذاتها أيضًا -لا أكثر ولا أقلّ- وهذا أمر غير عملي.
نظرية التوزيع في المذهب الاقتصادي الإسلامي:
لا بدّ من توافر صورة قانونية لكل نشاط إنتاجي أو تبادلي يجري في اقتصاد أي بلد. وعليه فإن الأسهم والامتيازات التي يحصل عليها أصحاب عناصر الإنتاج -خلال نشاطهم الاقتصادي- تخضع للنظم التي يحددها القانون.
وقد أوضح الإمام موسى الصدر في أولى مقالاته التي نشرها في مجلة "مكتب إسلام"، بأن الامتيازات التي يمنحها الدين الإسلامي للعقود ومساهمة القوى العاملة، أكثر من تلك التي يمنحها لرأس المال [2]. ففي النشاطات الإنتاجية تستطيع القوى العاملة المطالبة بأجور معينة، وفي الوقت نفسه المساهَمة في الربح الناجم عن تلك النشاطات. أما إذا كان ذلك النشاط مهددًا بالخطر، ولم ترغب القوى العاملة المساهَمة فيه، بإمكانها الاشتغال بأجور محددة. وبالعكس، لو تمتّع المُنْتَج بسوق جيّدة، وكان ثمّة احتمال بالحصول على أرباح مغرية، فبمقـدور العـامل أن يـحتفظ بسهـم له في الإنتاج. هذا، وتمـنح الأحـكام الإسلامية العامل حرية اختيار أيٍّ من الصيغتين (الخيارين)، في حين لا يحقُّ لصاحب رأس المال النقدي سوى المساهمة في النشاطات الإنتاجية والتجارية، ولا يحقُّ لصاحب رأس المال العيني سوى المطالبة بالأجور دون المساهمة.
إن مثل هذا الامتياز الذي يمنحه النظام الحقوقي الإسلامي للعامل، يصبّ في صالح العامل ويدفعه لاكتساب المزيد من المزايا لدى التوقيع على العقود. ولمّا كانت هذه الامتيازات بأسرها محفوظة لليد العاملة في الفعاليات الاقتصادية كافة، فلا بدَّ أن يجري توزيع إيرادات الإنتاج بين العمل ورأس المال لصالح الشغيلة، شريطة أن تكون سائر العوامل الأخرى -التي سَيَرِد ذِكرُها قريبًا- ثابتة. وقد برهن الإمام موسى الصدر على أن الحقوق والمزايا التي يقرّها الإسلام لليد العاملة، أكثر بكثير مما هي عليه الحال بالنسبة للمذهب الرأسمالي والمذهب الاشتراكي [2].
أما العوامل الأخرى المؤثرة في توزيع الإيرادات والدخول فهي عبارة عن التكنولوجيا وندرة وسائل الإنتاج. ولو كانت الفنون المستخدمة في الصناعة مستعملة بالعمل (labor using)، لتسنّى استخدام اليد العاملة مع زيادة الإنتاج بنسبة أكبر من رأس المال، وبطبيعة الحال لارتفعت حصتها في الدخل القومي (national income) أيضًا. فـإذا كـانت الصناعة قائمة على رأس المال المستعمل (capital using)، فإن حركة توزيع الربح -الدخل- ستنتهي لصالح عنصر رأس المال. كما أن وفرة عناصر الإنتاج وندرتها –لا سيما المنابع الطبيعية- تخضع للظروف البيئية والجغرافية التي يشهدها الاقتصاد.
فالذي يقود إلى تطوير التكنولوجيا في الاقتصاد هو: وفرة عناصر الإنتاج وندرتها أولًا، والميزانية المرصودة للبحث ثانيًا. وبصورة عامة يتحرك الفن والتقنية في الجهة التي يمكن إحلال العناصر المتوافرة محل العناصر النادرة، مما يؤدي إلى الترشيد الاقتصادي. ومن ناحية أخرى، يمكن التحكم بمسار العلم والصناعة من خلال الميزانية التي ترصدها الحكومة للبحوث والدراسات.
ولمّا كان توفير الإمكانات الضرورية لحياة مرفّهة من حق جميع الأُسر، ومن مهام الحكومة في النظام الإسلامي، فإن بإمكان هذه الحكومة أن تخصص جزءًا من ميزانية الزكاة لهذا الأمر الخطير، طبقًا لرأي الإمام موسى الصدر. وبالإمكان زجّ هذه الميزانية في البحوث الرامية إلى تفعيل التكنولوجيا وتسخيرها في خدمة العمل كي يتسنّى استخدام كافة الباحثين عن العمل بدون تدخل الحكومة. وبإمكان الحكومة، بعد تحقق شروط الإشتغال الكامل، الاستعانة بميزانية الزكاة لتنمية المؤسسة العمالية وتحسين أوضاعها والارتفاع بمستوى اليد العاملة.
فالمذهب الاقتصادي الإسلامي إذًا، يوجّه في المرحلة الأولى حركة توزيع الإيرادات الإنتاجية بين العمل ورأس المال لصالح القوى العاملة، استنادًا إلى أحكامه الحقوقية والقانونية، ويوصي في المرحلة التالية، بالاستفادة من ميزانية الزكاة إذا لم يحصل تحسُّن في الوضع المعيشي للعمال. ويستنتج الإمام موسى الصدر من الآيات والروايات التي يعرضها في مقال "الإسلام ومشكلة التفاوت الطبقي"، إمكانية الاستعانة بهذه الميزانية بما يؤمّن الرخاء الكامل للعاملين [3]. وتشمل هذه الميزانية الخُمس أيضًا، إلاّ أن الحكومة بإمكانها مطالبة أرباب العمل بدخل أكبر للعمال إذا ما شعرت باستمرار الحاجة [3]. وفي المرحلة الثالثة تستطيع الحكومة أن تستخدم هذه الميزانية في البحوث التقنية، وتمهيد الأرضية للاشتغال والعمل.
وكما نرى أن نهج وأسلوب الدين والنظام الإسلامي في توزيع الدخل يختلف عن النظامين الرأسمالي والاشتراكي. فالنظام الحقوقي والسياسي للحكومة الإسلامية يعدّ في الوقت ذاته الظروف الطبيعيـة والجغرافية، أو بتعبير آخر الإمكانات الإنتاجية (production possibilities)، مؤثّرة في تقسيم "الفائض الاقتصادي" (economic surplus) بين عناصر الإنتاج؛ بل إن النظام الحقوقي والسياسي للحكومة يرفع في الحالات الضرورية من امتيازات الطبقة العاملة لأجل الانتفاع بذلك الفائض. وبإمكان الحكومة الاستمرار في سياسة تطوير الصناعات الفعّالة إلى الحدّ الذي يُسعفها في علاج مشكلة البطالة القسرية (involuntary unemployment) في المجتمع. وبهذا النحو يتمّ القضاء على مشكلة الفقر بصورة تلقائية أيضًا، ذلك أن كافة الباحثين عن العمل سيجدون فرصة للعمل. وهذه الخصوصية بالذات هي التي تبيح للعناصر النادرة اقتطاع حصة من ذلك الفائض الاقتصادي. وتعمل هذه الظاهرة، مقترنة بسياسة البحوث المدعومة من قبل الحكومة، على حلول العناصر المتوافرة محل العناصر النادرة بشكل تـدريجي أو حتى استهــلاكها في عمــلية الإنتاج. ويعــدّ حلول العناصر القابلة للتجديد (renewable resources) محل العناصر غير القابلة للتجديد (unrenewable resources) -والذي هو من مستلزمات التنمية الاقتصادية المستمرّة (sustainable development) وبحاجة إلى مزيد من التحقيق والدراسة- من مصاديق عملية الحلول محلّ العناصر النادرة. وبإمكان سياسة الحكومة الداعمة للبحوث توجيه هذه العملية وتسريعها.
إذًا، فالنظام الإسلامي لا يتخذ في مجابهته للفقر أسلوب مصادرة أموال الأغنياء والاستحواذ على وسائل الإنتاج، أو انتزاع الضرائب من أصحاب الدخل المنخفض وتقديمها للفقراء؛ وإنما يسعى للقضاء على مصدر الفقر. فبواعث الفقر تتلاشى وتضمحل من خلال تفعيل العمل والنهوض بالجانب الفنّي والتخصصي للقوى الشغيلة في النظام الإسلامي. وتجري عملية مكافحة الفقر بفضل أسلوب توزيع الدخل بين العمل ورأس المال، وتطوير الصناعات الفعالة. وتؤدي هذه العوامل بمجموعها إلى تعلّق جزء رئيسي من خالص الفائض الاقتصادي الناجم عن عمليات الإنتاج باليد العاملة. وبذلك يختلف أسلوب توزيع الدخل بين أصحاب عناصر الإنتاج في الإسلام عن سائر المذاهب الاقتصادية الأخرى. فعملية التوزيع -وكما مرّ- تتأثر بقوانين المُلكيَّة، ونوع التكنولوجيا، وندرة عناصر الإنتاج. والحكومة في النظام الإسلامي لا تحلّ محلّ القطاع الخاص (private sector) لكي تتحكم بتوزيع الدخل بصورة عادلة، وإنما تعمل على التحكم بذلك من خلال الدور الذي تمارسه في توجيه تكنولوجيا الإنتاج، والضمان الاجتماعي، وموازنة الدخل بين أصحاب عناصر الإنتاج.
وكان الشهيد محمد باقر الصدر قد أكّد على دور العوامل أعلاه، لا سيما الضمان الاجتماعي، وعدّها أسلوبًا من أساليب العدالة في توزيع الدخل في النظام الإسلامي [5]. ويؤكد الشهيد الصدر على جانب التوازن بين الدخول فضلًا عن ضمان الحد الأدنى من المعيشة. فيما يشير الإمام موسى الصدر إلى استخدام الزكاة لضمان رخاء أصحاب عناصر الإنتاج كافة. وهذا يعني أنه كان على علم بضخامة ميزانية الزكاة ومدى تأثيرها حينما يقول: الزكاة ليست مجرّد ضريبة.
ويمكن أن نفهم مما ذهب إليه هذان العالِمان الفاضلان أن بإمكان الدولة تحقيق التوازن في الدخل عن طريق توجيه تكنولوجيا الإنتاج أو من خلال استخدام ميزانية الزكاة. وبهذا النحو يعمل النظام الحقوقي والسياسي في الإسلام على بلورة مسار توزيع الثروة (رأس المال).
عملية التنمية الاقتصادية:
إن ما يراه الدين الإسلامي في عامل التنمية الاقتصادية وما برهنت عليه تجربة المسلمين في صدر الإسلام [7]، يختلف أيضًا عمّا تنصّ عليه نظريات المذهبين الرأسمالي والاشتراكي التي تمّت الإشارة إليه أعلاه.
فانطلاقًا من مكانة الإنسان في الرؤية الإسلامية كخليفة الله في الأرض، وأن الله سبحانه سخّر له كافة النِعَم للاستفادة منها، ونظرًا لكون الهدف من النبوّة ونزول الوحي نشرُ العدل في الحياة الدنيا وتحقيق الفلاح في الآخرة؛ أصبح عامل النمو والتنمية الاقتصادية كامنًا فيه أيضًا وأمسى ذخيرة ثروته الإنسانية.
وفي الأدبيات الاقتصادية المعاصرة يطلق على المهارة والتخصص، اللذين يكتسبهما الإنسان من خلال التعليم والممارسة، لفظ رأس المال الإنساني (human capital)، لأن هذا العامل، شأنه شأن رأس المال العيني، يؤدي إلى زيادة الإنتاج والاستثمار. ويقصد باليد العاملة، العمل البدني البسيط، حيث يمتلك كافة الأفراد درجات مختلفة من الطاقات الجسمية والبدنية. ويفتقد هذه الطاقات أولئك الذين يعانون من عاهة، والعجزة؛ ولهذا لا يُعدّون من القوى العاملة. في حين أن رأس المال الإنساني عبارة عن طاقات ذهنية ومهارات شغلية لا تتحقق إلّا عن طريق التعليم والممارسة. ويتميز أصحاب المِهَن والحِرَف المختلفة، وكذلك المتخصصون والعلماء والفنانون، بهذه الثروة. ويعدّ الأطباء والمهندسون والمدراء والفنانون والرياضيون، من أصحاب هذا العنصر الإنتاجي أيضًا. ويعدّ رأس المال الإنساني ثمرة من ثمار تلك المؤهلات الإنسانية. ولمّا كانت هذه المؤهلات موزّعة بين الناس بشكل عشوائي (random)، فلا بدّ أن يؤدي إنضاجها وإخراجها من القوة إلى الفعلية، إلى تَمَتُّع كافة الأفراد -رجالًا ونساءً- بهذا العنصر الإنتاجي. ويعدّ هذا العنصر في المذهب الاقتصادي الإسلامي، مصدرًا للتنمية الاقتصادية، وتعمل زيادة مخزونه في كل اقتصاد، على الازدهار الاقتصادي [7].
وكما أوضحنا فيما سبق، أن الأحكام الحقوقية الإسلامية تولي أهمية خاصة لليد العاملة في مرحلة توزيع الدخل. ويرى الشهيد محمد باقر الصدر وجود مثل هذه الأولوية لدى توزيع الثروات الطبيعية الأولية، وكذلك أثناء استخدامها في مختلف العمليات الإنتاجية [5]. وتعتبر سياسة الضمان الاجتماعي، من وجهة نظر الشهيد الصدر، من مهام الحكومة في النظام الإسلامي، حيث تؤدي في نهاية الأمر إلى دعم هذا العامل الاقتصادي وإنضاجه. كما أن الزكاة -وتشمل بمعناها العام الخُمس والإنفاق- أيضًا لا تقتصر على الجانب المالي فقط حسب رأي الإمام موسى الصدر؛ وإنما يجب على أصحاب الحِرَف والفنون والعلوم أن يزكّوا ثروتهم الإنسانية أيضًا أو ينفقوا منها [3]، ذلك أن "زكاة العلم نَشره". وقد نقل الإمام موسى الصدر في إحدى محاضراته حول الاقتصاد الإسلامي، التي ألقاها في المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى بلبنان، حديثًا عن الرسول الأكرم (ص) يفيد: "ألا أدلُّكم على الطريق إلى الجنة"؟ ثم قال: "صنّعوا الأخرق"، أي علّموا الصناعة من يجهلها [4].
فطريق الجنة إذًا لا وجود فيه للفقر والجهل والمرض والأميّة، وتنعدم فيه أرضية انتهاك الحقوق والظلم والاستغلال، لأن الناس يبلغون مرحلة التنمية الاقتصادية، ويُرزقون الرزق الحلال، ويندفعون لعمل الخيرات والمبرات. والطريق إلى الجنة أسلوب يعمل على تفعيل الاستعدادات والمؤهلات الكامنة لدى المسلمين، عن طريق التعليم والتربية والتدريب، والبحث والبرمجة، وإدارة القوى الإنسانية، وزيادة مخزون الثروة الإنسانية.
وإذا كانت التنمية الاقتصادية بحاجة إلى استثمار يعمل على نمو حجم الإنتاج، فهي بحاجة أيضًا إلى رصيد رأس المال الإنساني الذي يعمل على ارتفاع مستوى الإبداع في أساليب الإنتاج وطريقة استخدام عناصر الإنتاج، مما يتمخّض عنه في النهاية رفع قدرة النشاطات الإنتاجية وازدياد الرغبة في الاستثمار. كما أن حركة الاستثمار المتصاعد، لا بد وأن تؤدي بدورها إلى تراكم رساميل عينية وإنسانية جديدة، وارتفاع مستوى الإنتاج، وزيادة فرص العمل، والازدهار الاقتصادي في نهاية المطاف. وهذا يعني أن سبل التنمية الاقتصادية الإسلامية تعتمد على الثروة الإنسانية وتطويرها وتوجيهها وزيادة مخزونها ورصيدها. ويؤدي نضج هذا المخزون -المودع في وجود كافة الناس- إلى تنمية إنسانية شاملة وعادلة. وكلما سعى المرء لإنضاج طاقاته واستعداداته وتعلّم مختلف الحِرَف والمِهَن، كلما اكتسب قابليات أكبر للحصول على دخول في مختلف النشاطات الاقتصادية وحصوله على نصيب أكبر.
وتؤدي حركة التنمية الاقتصادية التي يتصاعد فيها حجم الرساميل الإنسانية، وتبعًا لذلك الرساميل العينية، إلى زيادة الإنتاج والدخل العام من جهة، كما تؤدي إلى توزيع أفضل للأرباح بين المساهمين في هذه العملية من جهة أخرى: من يبذل جهدًا أكبر في التعلّم والتخصّص، يحصل على قدرة أكبر، ويكون له بلا شك نصيب أكبر من القيمة الكلية الناجمة عن النشاطات الإنتاجية. وتعدّ حركة التنمية التي يتوزع فيها الدخل بين الأفراد والمجاميع الإنسانية بحيث تكون فيها حصة كل واحد بمقدار الجهد الذي يبذله في الإنتاج، تعدّ مصداقًا لـ "إعطاء كل ذي حقّ حقّه"، الحقّ الذي يُحصّل من خلال العمل والجهد والتعليم والتجربة، وهو ما يمكن أن يُعدّ حركة تنمية اقتصادية ثابتة وعادلة في النظام الاقتصادي الإسلامي.
وكما هو واضح أن أسلوب التنمية الاقتصادية هذا، يختلف عمّا هو عليه في النظامين الرأسمالي والاشتراكي، سواء من حيث النظرة الفلسفية ومن حيث الجانب العملي والسياسة المرسومة، وهو أسلوب يدعو إليه الإمام موسى الصدر. فبالاعتماد على العامل الإنساني وتوجيهه وإنضاجه وتجهيزه، تمكّن الرسول الأكرم (ص) من إنقاذ اقتصاد مسلمي صدر الإسلام من المأزق الحرج الذي مرّ فيه خلال سنوات الهجرة الأولى، وتحقيق اقتصاد مزدهر خلال أقلّ من ثماني سنوات [6]. وبهذه السياسة أيضًا استطاع خلفاء الرسول (ص) أن ينقلوا الثقافة والحضارة والتنمية إلى البلدان المفتوحة حديثًا.
واستلهامًا من أسلوب التنمية الاقتصادية الإسلامي هذا، انبرى الإمام الصدر، وفي أول فرصة أُتيحت له، لتأسيس مدرسة مهنية في جبل عامل تقوم بتعليم الطلبة حرفة الميكانيكا والكهرباء والصناعات الغذائية وخراطة الخشب، وحتى حياكة السجاد. ثم أسَّسَ بعد ذلك مدرسة للتمريض والصناعات والفنون اليدوية الخاصة بالفتيات. وانتشر تأسيس هذا النوع من المدارس بعد ذلك من الجنوب إلى بيروت حتى أصبح سياسة استمرت من بعده.
وفي مقال "الإسلام ومشكلة التفاوت الطبقي"، وبعد أن أوضح بأن مصدر التفاوت الاقتصادي الطبقي يكمن في توزيع الدخل بأشكال لا يقرّها الإسلام، أشار الإمام موسى الصدر إلى نوع من الاختلاف في الدخل يؤيده الإسلام ناجم عن التفاوت في مخزون الثروة الإنسانية. ثم اختتم مقاله بالقول:
"أمّا الآن فنعرض للاختلافات الأخرى الموجودة في حياة الناس من قبيل اختلاف القوى الفكرية والجسمية، والتفاوت في العواطف والمشاعر، والأخلاق، والقابليات المختلفة؛ ونقول:
في هذا المجال لا يسعى الإسلام للقضاء على هذه الاختلافات -خلافًا للأسلوب الماركسي- بل يُستفاد من بعض كلمات الأئمة أنّ مثل هذه الاختلافات ضرورية ورحمة. وهذه الاختلافات هي السبب وراء قيام الأشخاص بأداء المسؤوليات الاجتماعية المختلفة الملقاة على عاتقهم، كلٌّ حسب طاقته واستعداده وحاجته، دون أن تبقى مسؤولية ما ملقاة على الأرض. لأنّ كلّ شخص يتعهد القيام بأحد الأعمال حسب رغبته وتخصصه الفكري والعملي، وينتفع المجتمع من تخصّصه وطاقاته الفكرية والفنية والصناعية التي يتفاوت فيها عن الآخرين.
ولكي لا تكون هذه الاختلافات سببًا للتفاخر، وإيلام الآخرين، ولكي لا تنثلم الوحدة الاجتماعية التي تحتاج إلى أعضاء مختلفي الاختصاصات والمواهب، فإنّ إرشادات أخلاقية كثيرة عيّنت واجبات وحقوق الأفراد بعضهم تجاه بعض، كحقوق الأسرة والجيران والأصدقاء والأساتذة. ووردت تأكيدات بليغة تحثُّ على التعاون ومنع أي نوع من سوء التفاهم، وهو ما يتطلّب بحثًا مفصلًا وواسعًا".
الاستنتاج:
يبدو أن رأس المال الإنساني يمثّل البنية التحتية لكافة النظريات الاقتصادية المنبثقة من الدين الإسلامي ونظامه. ويشير الإمام موسى الصدر بوضوح إلى دور العمل في توزيع الدخل وأهمية ذلك مقابل رأس المال. كما أن الشهيد محمد باقر الصدر يتحدّث عن أهمية العمل في التوزيع الأولي لرأس المال وكذلك في عملية الإنتاج، فضلًا عن دوره في توزيع الدخل. ولا يخفى أن اليد العاملة التي تتمكن من إحياء الأرض الموات، أو اكتشاف معدن ما وتعمل على الاستفادة منه، أو أن تحصل على الماء من حفر بئر في أعماق الأرض، ليست يدًا عاملة بسيطة، بل ربّة عمل تمتلك العلم والتجربة والمهارة والإدارة. أي أن ذلك الذي يكون سببًا بإحياء في الأنفال وحيازة في المشتركات، هو رأس المال الإنساني للأفراد الذي يتبلور في طاقاتهم العاملة سواء كان أداءً عمليًا أو فكريًا.
إذًا، العنصر الأصلي والمهم في النظام الإسلامي لدى التوزيع الأولي للثروة، يتمثل في تخصيص عناصر الإنتاج وتوزيع عوائد الدخل بين أصحابها بما في ذلك رأس المال الإنساني. ويبدو أن مصدر النمو والتنمية الاقتصادية من وجهة نظر الإمام موسى الصدر والشهيد الصدر، يكمن في هذا العنصر أيضًا، ذلك أنه مع مضاعفة مخزونه في الاقتصاد تتضاعف الإبداعات والاختراعات، وتجد الاستثمارات البدنية مبرراتها الاقتصادية، وتدفع أصحاب الثروة الإنسانية إلى تجسيدها وترجمتها.
إن الحقوق التي يضعها الدين الإسلامي للعاملين في الفعاليات الاقتصادية والنظام القيمي والأخلاقي الذي دوّنه لتوجيه ذلك وترشيده، وطبقًا لما يتصوّره كل من الإمام موسى الصدر والشهيد الصدر، يقود إلى توسعة وتقوية مخزون الثروة الإنسانية للمسلمين.
فالعدالة التي يدعو إليها المذهب الاقتصادي الإسلامي، والتي أوضحها الشهيد الصدر في كتابه "اقتصادنا" والشهيد مرتضى مطهّري في سلسلة مؤلفاته [8 و9]، والتي تقضي بإعطاء كل صاحب حقّ حقّه في الفعاليات الاقتصادية، اعتبرت مثل هذه الثروة الإنسانية مصدر إحقاق الحقّ في ميدان الفعاليات الاقتصادية أيضًا.
ويلاحظ أن النظريات الاقتصادية في الإنتاج والتوزيع والتنمية لا تختلف من الناحية الإيديولوجية والقيمية فحسب مع النظريات المماثلة لها في المذهبين الرأسمالي والاشتراكي؛ بل إن الوسائل والعناصر التي يلجأ إليها النظام الإسلامي لتحقيقها وترجمتها عمليًا، تعتبر أشمل وأكمل من استخدام عنصر واحد كالسوق أو بيت المال الذي تعتمد عليه المذاهب الأخرى. في الحقيقة إن تباين النظريات الاقتصادية في المذهب الاقتصادي الإسلامي، مع كل من نظريات المذهب الرأسمالي والمذهب الاشتراكي، مثّل أحد الموضوعات التي كرّس له الإمام موسى الصدر قلمه ونشاطه، ابتداءً من إيران وانتهاءً في لبنان، للكشف عن أبعاده.
المراجع:
1- فريدون تفضلي، تاريخ المعتقدات الاقتصادية، الطبعة الثانية ، طهران، منشورات ني، 1993.
2- الإمام السيد موسى الصدر، المذهب الاقتصادي في الإسلام، تقديم وتعليق علي حجتي كرماني، طهران، منشورات جهان آرا، بدون تاريخ.
3- الإمام السيد موسى الصدر، الإسلام ومشكلة التفاوت الطبقي، مجلة "مكتب تشيّع" ارديبهشت 1338 شمسي، الصفحات 167-185.
4- الإمام السيد موسى الصدر، المذهب الاقتصادي في الإسلام، تعريب منير مسعودي، بيروت، مركز الإمام موسى الصدر للأبحاث والدراسات ، 1998، ص 146.
5- الشهيد محمد باقر الصدر، اقتصادنا، الطبعة الثالثة، بيروت، دار الفكر، 1969.
6- سيد كاظم الصدر، الاقتصاد في صدر الإسلام ، طهران، جامعة الشهيد بهشتي، 1375 شمسي.
7- سيد كاظم الصدر، تجربة مسلمي صدر الإسلام في تحقيق التنمية الاقتصادية، مجموعة مقالات المؤتمر الأول الذي عقد تحت شعار الإسلام والتنمية، جامعة الشهيد بهشتي، 1375 شمسي.
8- الشهيد مرتضى مطهري، العدل الإلهي، طهران، منشورات إسلامية، 1353 شمسي.
9- الشهيد مرتضى مطهري، عشرون مقالة، قُمّ، منشورات صدرا، 1358 شمسي.
_______________________
1- 15 خرداد/4 حزيران.
2- المقصود مؤسسة جبل عامل المهنية.
3- أحاديث خاصة للإمام موسى الصدر.
الوسوم: الاقتصاد الإسلامي, علم الاقتصاد