السلف في المعاملات البنكية
السيد محسن الخرازي
حقيقة السلف
السلف هو ابتياع المضمون إلى أجل معلوم بمال حاضر، وهو قسم من البيع، ولا بدّ فيه من الإيجاب والقبول، وينعقد بلفظ بعت وقبلت. والظاهر انعقاده بالمعاطاة كسائر أقسام البيع.
شروطه:
ثمّ بعد ما عرفت من كون السلف من أقسام البيع لا بدّ فيه من مراعاة شروط البيع، وهي امور:
منها: ذكر الجنس أي الحقيقة النوعية، ومنها: ذكر الوصف وتقدير المبيع بالكيل أو الوزن ونحوهما ممّا له مدخلية في المعرفة بالمبيع لفساد البيع الغرري هذا، مضافاً إلى اشتراط قبض الثمن قبل التفرّق. ولو قبض بعض الثمن ثمّ افترقا صح في المقبوض وبطل في غيره كما ادّعي عليه الإجماع.
ثمّ لوكان الثمن ديناً على البائع فالمشهور البطلان مستدلّاً بأنّه بيع دين بمثله، فيشمله خبر طلحة بن زيد[1] عن الصادق عليه السلام قال قال رسول اللّٰه صلى الله عليه وآله وسلم: «لا يباع الدين بالدين»[2]، والرواية موثّقة.
ويناقش فيه- كما في جامع المدارك- بمنع تناول النهي عن بيع الدين بمثله لما صار ديناً بالعقد، بل المراد ما كان ديناً قبله، والسلم فيه من الأول لا الثاني، هذا، مضافاً إلى دلالة خبر إسماعيل بن عمر على الجواز حيث قال:
«إنّه كان له على رجل دراهم فعرض عليه الرجل أن يبيعه بها طعاماً إلى أجل فأمر إسماعيل من يسأله؟ فقال: لا بأس بذلك، قال: ثمّ عاد إليه اسماعيل فسأله عن ذلك وقال: إنّي كنت أمرت فلاناً فسألك عنها فقلت لا بأس فقال: ما يقول فيها من عندكم قلت يقولون فاسد قال لا تفعله فإنّي أوهمت»[3].
ولا يقدح ما في ذيله بعد معلومية كونه على فرض الصدور تقية[4].
وعليه فعلى فرض شمول قوله لا يباع الدين بالدين لما صار ديناً بالعقد يمكن الجمع بينه وبين خبر إسماعيل بحمله على الكراهة فيما إذا كان الثمن ديناً على البائع ولكنّه ضعيف.
فلا مناص في الجواز إلّا عن المنع من تناول النهي عن بيع الدين بمثله لما صار ديناً.
ولكن يشكل ما ذكر من ناحية أنّ الموانع كالشرائط، فكما أنّ المقرّر في محلّه هو كفاية تقارن الشرائط ولو بنفس البيع فكذلك يكفي تقارن المانع في المنع عن البيع. اللهمّ إلّا أن يقال إنّ التعميم المذكور غير محرز، ومعه يرجع إلى عمومات الصحة.
وممّا ذكر يظهر حكم جعل الثمن كلّياً؛ لعدم إحراز شمول قوله عليه السلام: «لا يباع الدين بالدين» لمثله. نعم، يجب قبضه قبل التفرّق، فتدبّر.
ومنها: تعيين الأجل بما يرفع احتمال الزيادة والنقصان؛ وذلك لدفع الغرر، قال في الجواهر: «(الشرط الخامس: تعيين الأجل) أي الأجل المتعيّن؛ ضرورة عدم اختصاص السلم بكون الأجل متعيّناً، (ف) إنّه (لو ذكر أجلًا مجهولًا) فيه أو غيره من العقود التي يشترط فيها المعلومية (كأن يقول متى أردت أو يذكر أجلًا يحتمل الزيادة والنقصان كقدوم الحاج) أو نحو ذلك ممّا يؤدّي إلى الجهالة كالدياس والحصاد (كان باطلًا) بلا خلاف أجده بيننا»[5].
المسألة الأولى: لا يجوز بيع السلم قبل حلوله؛
وذلك كما في الجواهر ليس لعدم الملكية قبل الأجل؛ ضرورة عدم مدخلية الحلول فيها؛ إذ العقد هو السبب في الملك، والأجل إنّما هو لوقت المطالبة، وهكذا ليس ذلك لعدم القدرة على التسليم؛ إذ يكفي فيها وجود القدرة عند الأجل، ولا لغير ذلك من الامور.
بل للإجماع المحكي في كلمات الأعلام كالتنقيح وظاهر الغنية وجامع المقاصد وكشف الرموز، ولولا الاجماع المذكور لأمكن القول بالجواز قبل الحلول؛ لأنّه قبل حلول الأجل ملكه، فيشمله عمومات البيع ونحوها[6].
وممّا ذكر يظهر أنّه لا إشكال أيضاً في جواز بيع السلم بعد تحويل السلم قبل حلول الأجل أو بعد صيرورة السلم قابلًا للتحويل قبل حلول الأجل ولو قبل القبض؛ وذلك لأنّ دليل المسألة هو الإجماع، وهو دليل لبّي، فيقتصر فيه على القدر المتيقّن، ويرجع في غيره إلى مقتضى العمومات والقواعد، وقد عرفت أنّ السلم ملك، ومع الملكية يشمله العمومات، ولا وجه للمنع عن بيعه.
المسألة الثانية:
إنّه لا خلاف ولا إشكال في جواز البيع بعد حلول الأجل وإن لم يقبضه من دون فرق بين بيعه على من هو عليه وبين بيعه على غيره؛ وذلك لعموم الأدلّة أو إطلاقها.
وإنّما الكلام في جواز بيعه بجنس الثمن بالأقلّ أو الأكثر.
صرّح في الجواهر بالجواز حيث قال: «الأقوى الجواز … بجنس الثمن ومخالفه بالمساوي له أو بالأقلّ أو بالأكثر ما لم يستلزم الربا سواء كان المسلم فيه طعاماً أو غيره مكيلًا أو موزونا أو معدوداً أو غيره؛ لإطلاق الأدلّة وعمومها وخصوص مرسل ابان عن الصادق عليه السلام في الرجل يسلف الدراهم في الطعام إلى أجل فيحلّ الطعام فيقول: ليس عندي طعام ولكن انظر ما قيمته فخذ منّي ثمنه؟ فقال: «لا بأس بذلك»[7].
وموثّق ابن فضّال كتبت إلى أبي الحسن عليه السلام: الرجل يسلفني الطعام فيجيء الوقت وليس عندي طعام، أُعطيه بقيمته دراهم؟ قال: «نعم»[8]»[9].
ولا يخفى عليك أنّ كلام السائل يحتمل فيه أن يكون إعطاء الدراهم بعنوان البيع أو بعنوان الوفاء، ومقتضى ترك الاستفصال أنّ الجواب بقوله عليه السلام «نعم» يشمل كلا الاحتمالين.
وهكذا مقتضى إطلاقه هو عدم الفرق بين أن يكون ما أعطاه بعنوان القيمة مساوياً مع رأس المال الذي أدّاه أو أزيد أو أنقص.
ولكن الإطلاق الأخير ينافيه جملة من الأخبار، منها:
1– صحيحة محمد بن قيس عن أبي جعفر عليه السلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: من اشترى طعاماً أو علفاً إلى أجل فلم يجد صاحبه وليس شرطه إلّا الورق، فإن قال: خذ مني بسعر اليوم ورقاً فلا يأخذ إلّا شرطه طعامه أو علفه، فإن لم يجد شرطه وأخذ ورقاً لا محالة قبل أن يأخذ شرطه فلا يأخذ إلّا رأس ماله لا تظلمون ولا تظلمون»[10].
2– صحيحة محمد بن قيس عن أبي جعفر عليه السلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام في رجل أعطى رجلًا ورقاً في وصيف إلى أجل مسمّى، فقال له صحابه: لا نجد لك وصيفاً خذ منّي قيمة وصيفك اليوم ورقاً قال: فقال: لا يأخذ إلّا وصيفه أو ورقه الذي أعطاه أول مرة لا يزداد عليه شيئا»[11].
3– صحيحة الحلبي عن الصادق عليه السلام قال: سئل عن الرجل يسلم في الغنم ثنيان[12] وجذعان[13] وغير ذلك إلى أجل مسمّى؟ قال: لا بأس إن لم يقدر الذي عليه الغنم على جميع ما عليه ان يأخذ صاحب الغنم نصفها أوثلثها أو ثلثيها ويأخذوا رأس مال ما بقي من الغنم دراهم ويأخذوا دون شرطهم، ولا يأخذون فوق شرطهم والأكسية أيضاً مثل الحنطة والشعير والزعفران والغنم»[14].
4– صحيح يعقوب بن شعيب قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن الرجل يسلف في الحنطة والتمر بمائة درهم فيأتي صاحبه حين يحلّ له الذي له فيقول: والله ما عندي إلّا نصف الذي لك فخذ منّي إن شئت بنصف الذي لك حنطة وبنصفه ورقاً فقال: لا بأس إذا أخذ منه الورق كما أعطاه»[15].
وأُجيب عن هذه الأخبار بالجمع بينهما كما في الجواهر بحمل صحيحي محمد بن قيس على فسخ العقد، ومن المعلوم أنّ مع الفسخ لا يستحق إلّا رأس ماله، وحينئذٍ يجب عليه أن يأخذ المساوي للثمن لا الزائد وإلّا كان ربا محرّماً، وليس المراد هو البيع؛ إذ لا يتصور ترتّب الربا عليه بعد أن كان في ذمّة المسلم إليه الحنطة والتمر أو غير ربوي كالإبل ونحوها، لا الدراهم التي هي ثمنها.
ومنه يعلم أنّه لا وجه للإشارة بآية الربا إلى ذلك في الخبر الأول- وهو قوله تعالى: «لٰا تَظْلِمُونَ ولٰا تُظْلَمُونَ»[16]– وأنّه لا بدّ من حمله على ما قلنا.
وهكذا صحيح يعقوب بن شعيب يحمل على إرادة السؤال عن جواز الفسخ في البعض ولومع التراضي فأجابه بأنّه لا بأس إذا أخذ منه كما أعطاه حتى لا يترتّب عليه الربا.
فهذه الروايات لا تنهض للمعارضة مع الأصل والعمومات الدالّة على جواز البيع[17].
وعليه فالبيع ولومع التفاوت جائز، والأخبار المانعة لا نظر لها إلى البيع بل النظر فيها إلى الفسخ.
أورد عليه في جامع المدارك بأنّ حمل الصحاح على خصوص الفسخ لا وجه له بعد إمكان أن يكون من باب الوفاء أو البيع أيضاً، بل ظاهر قوله عليه السلام لا أجد لك وصيفاً خذ منّي قيمة وصيفك اليوم … الخ وقوله خذ منّي بسعر اليوم ورقاً … الخ أنّ النظر إلى أخذ الطرف الورق لا بعنوان الفسخ بل بعنوان الوفاء أو البيع فإنّ الفسخ لا يوجب إلّا ردّ مثل ما أعطى أولًا لا أزيد ولا أنقص[18].
ومع ظهور الروايات في البيع تصلح هذه الروايات للمعارضة، ولعلّ الإشارة إلى آية الربا من باب التنظير والشباهة باعتبار أنّ عوض العوض عوض.
نعم، لا يبعد أن يقال- كما في جامع المدارك-: «إن تمّ الاستدلال بالأخبار السابقة من جهة السند خصوصاً بملاحظة موثّق ابن فضّال وشملت البيع والوفاء فالأخبار الظاهرة في المنع الشاملة لصورة البيع والوفاء محمولة على الكراهة جمعاً بين الطرفين.
وأمّا احتمال تقييد تلك الأخبار بخصوص صورة التساوي مع القيمة السابقة فبعيد جدّاً؛ لغلبة التفاوت وترك الاستفصال»[19].
ويؤيّد ذلك موثّقة إسماعيل بن جابر عن أبي جعفر عليه السلام قال: سألته عن الرجل يجيء إلى صيرفي ومعه دراهم يطلب أجود منها فيقاوله على دراهم فيزيده كذا وكذا بشيء وقد تراضينا عليه ثمّ يعطيه بعد بدراهمه دنانير ثمّ يبيعه الدنانير بتلك الدراهم على ما تقاولا عليه مرة قال: أ ليس ذلك برضاهما جميعاً؟ قلت: بلى، قال: لا بأس»[20]؛ لظهورها في أنّ المعاملة الجديدة وقعت مع الزيادة على الثمن، وهذه الرواية وإن لم ترد في السلم ولكن بعد كون الكلام في المقام بعد الحلول لا فرق بين موردهما، كما لا يخفى وبذلك يتصرّف في القيمة دون المادة.
لا يقال: إنّ التصرّف في المادة مقدّم على التصرّف في الهيئة؛ لأنّ الثاني مجاز دون الأول، لأنّ التصرّف فيه في أصالة الجدّ لا في الكلمة.
لأنّا نقول: إنّ التصرّف في الهيئة لا يوجب المجاز أيضاً؛ لأنّ الوجوب والحرمة ليسا داخلين في الهيئة، بل مفاد الهيئة ليس إلّا البعث والزجر، والعقلاء حيث يرون أنّ البعث أو الزجر لم ينسجم مع الترخيص يحكمون بالوجوب أو الحرمة، وعليه فالتصرّف يقع في حكم العقلاء، لا في الكلمة حتى يوجب المجاز.
وعليه فلا وجه لتقديم أحد التصرّفين على الآخر إلّا قوة ظهور أحدهما على الآخر، ففي المقام حيث إنّ التفاوت يكون غالباً أو تكون الرواية في مورد التفاوت فالتصرّف في الهيئة أولى، كما لا يخفى.
وقد عولجت بعض جوانب البحث في بحث الحيلة الربوية، فراجع[21].
المسألة الثالثة: يجوز للبنوك إعطاء التسهيلات للمعامل بشراء محصولاتهم بنحو السلف
وتحويل أثمانها إليهم بالفعل لتتمكّن المعامل من تهيئة المواد والتوليد.
ثمّ إنّ التسهيلات حيث كانت بيد البنوك فيجوز لهم تخصيص المعاملة مع المعامل الخاصّة كالتي يكون توليدها الوسائط النقلية الثقيلة أو القطعات الخاصة ممّا يكون مورد الحاجة.
وإذا اشترطت البنوك مع المعامل أمراً خاصّاً في ضمن الشراء بنحو السلم كان ذلك واجب المراعاة، ولا يجوز التخلّف عنه قضاء لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «المؤمنون عند شروطهم».
ثمّ إنّ أمر البيع والشراء بيد المتعاملين، ولذا يجوز تخصيص البنوك معاملاتهم في السلف ببضائع خاصة مثل ما لا يكون سريع الفساد أو ما يكون بيعه سهلًا أو ما كان التأمين فيه حاصلًا من ناحية البائع أو غير ذلك من الامور.
المسألة الرابعة: اشترط بعض الفقهاء في السلم أن يكون وجود السلم فيه عامّاً وقت حلوله
ولوكان معدوماً وقت العقد.
ولكنّه لا دليل له بالخصوص كما في جامع المدارك[22]، إلّا من جهة القدرة على التسليم وقت لزومه المعتبرة في كلّ بيع، بل ذكر في مقامه كفاية إمكان التسلّم ولو لم يكن البائع قادراً على التسليم، ولعلّ إليه يشير صحيح ابن الحجّاج «سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن الرجال يشتري الطعام من الرجل ليس عنده فيشتري منه حالًّا؟ قال: ليس به بأس. قلت: إنّهم يفسدونه عندنا! قال:
فأيّ شيء يقولون في السلم؟ قلت: لا يرون به بأساً، يقولون هذا إلى أجل فإن كان إلى غير أجل وليس هو عند صاحبه فلا يصلح، فقال عليه السلام: إذا لم يكن أجل كان أحقّ به، ثمّ قال: لا بأس أن يشتري الرجل الطعام وليس عند صاحبه إلى أجل أوحالًّا لا يسمّي له أجلًا إلّا أن يكون بيعاً لا يوجد مثل العنب والبطيخ وشبهه في غير زمانه، فلا ينبغي شراء ذلك حالًّا»[23].
والظاهر منه هو الصحة ولوكان معدوماً وقت المعاملة، خلافاً للعامّة[24] فيجوز بيع ما يقدر على تسليمه ولو لم يكن عامّ الوجود.
المسألة الخامسة: لا دليل على اعتبار أن يكون مورد السلم مولداً بسبب البائع،
بل له أن يشتري من آخر عند حلول الأجل ويقبضه لمشتريه، نعم، للبنوك أن لا يأذنوا بالسلم إلّا إذا كان مورد السلم مولداً بسبب البائع، وإذا اشترط البنك ذلك في بيع السلم كان ذلك لازم المراعاة، ولو تخلّف البائع كان الخيار ثابتاً للمشتري.
المسألة السادسة: لا بدّ في السلم من تعيين الأجل
بما يرفع احتمال الزيادة والنقصان.
ووجهه واضح بناء على أخذ تأجيل الثمن في حقيقة السلف، كما يدّعى أنّه هو الظاهر من كلمات كثير؛ لأنّ الأجل المأخوذ فيه إذا لم يكن معيّناً لزم الغرر، والغرر منهيّ في كلّ بيع، كما لا يخفى.
ودعوى صحة البيع بلفظ السلم مع كون البيع حالًّا مجازفة.
وهذا شاهد على أنّ الأجل مأخوذ في حقيقة السلف، كما لا يخفى.
بل لوقلنا بعدم أخذ التأجيل في حقيقة السلف وكان من الشرائط لزوم ذكره عند قصد الأول؛ ولذا قال في الجواهر: «ولو قصد الأجل اشترط ذكره فيبطل العقد بدونه، ولو أطلقا العقد حمل على الحلول»[25].
المسألة السابعة: وقد عرفت أنّه يشترط في صحة السلم أن يكون مورد السلم معلوماً
من جهة الجنس والوصف والمقدار.
ووجهه واضح بعد كون السلم من اقسام البيع؛ لأنّ اللازم حينئذٍ هو مراعاة شروط البيع، ومنها ذكر الجنس أي الحقيقة النوعية والوصف والمقدار، وإلّا لزم الغرر، وهو موجب لفساد البيع.
هذا، مضافاً إلى روايات خاصة، منها صحيحة زرارة عن الباقر عليه السلام قال:
«لا بأس بالسلم في المتاع إذا وصفت الطول والعرض وفي الحيوان إذا وصفت أسنانه»[26].
المسألة الثامنة: يجب قبض رأس المال قبل التفرّق
ولو قبض بعض الثمن ثمّ افترقا صح في المقبوض فقط.
قال في جامع المدارك: «ادّعي الإجماع على شرطية القبض، والظاهر أنّه لا نصّ في المقام، ولذا يتوقّف من يتوقّف في المسائل التي لا دليل فيها غير الإجماع»[27].
ولا يخفى عليك أنّه لا وجه للتوقّف لو لم يدلّ دليل غير الإجماع؛ لأنّ الإجماع على هذا المبنى ليس بدليل، وعليه فمقتضى العمومات هو صحة المعاملة ولومع عدم القبض.
وأمّا ما في الجواهر من احتمال القول بأنّ أصالة عدم النقل والملك قبل القبض متحقّقة ولو للشك في تسبيب العقد هنا للملك للاتّفاق المزبور ولأنّ الأمر بالوفاء بالعقد أعمّ منه، بل قد يقال باعتبار تسليم الثمن في حقيقة السلم وأنّه بدونه منتفٍ حقيقة السلم[28].
ففيه ما لا يخفى؛ فإنّ مع إطلاق قوله تعالى: «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» لا مجال لأصالة عدم النقل والملك قبل القبض، والاتّفاق المزبور إن كان دليلًا أوجب تقييد إطلاق الآية الكريمة، وإلّا فلا يكون دليلًا، ولا وجه لرفع اليد عن الإطلاق بما ليس بدليل مع أنّ الإطلاق منعقد.
وممّا ذكر يظهر ما في قوله أيضاً من أنّ الأمر بالوفاء العقد أعمّ منه، فإنّه ناشٍ عن عدم إطلاق الآية، وأمّا مع ثبوت الإطلاق فلا وجه لتوقّف وجوب الوفاء على شيء آخر، وهو القبض مع أنّه لا دليل له.
ودعوى اعتبار تسليم الثمن في حقيقة السلم وأنّه بدونه منتفٍ حقيقة السلم غير ثابتة. والمعروف في التعريف أنّه ابتياع مال مضمون إلى أجل معلوم بمالٍ حاضر والحاضر أعمّ من المقبوض قبل التفرّق.
والمقصود من ذكره هو نفي النسيئة.
ولعلّ لذلك قال في الجواهر: «إلّا أنّ الإنصاف كون العمدة الإجماع المزبور وإنّما الكلام في المراد من معقده»[29].
المسألة التاسعة: لو أخذ بعض ثمن المسلم فيه.
وبقي الباقي لوقت التمويل كما هو المتعارف في زماننا هذا بالنسبة إلى بيع بعض السيارات من معاملها كانت المعاملة باطلة.
والصحيح هو أن يضاربا في بعض الثمن إلى وقت التحويل ثمّ يوقع البيع في ذلك الوقت أو يشاركا في المعامل إلى وقت التحويل ثمّ يوقع البيع عند ذاك برأس ماله وفوائده الموجودة في العمل.
والمنقول عن المعامل أنّهم جعلوا الأفراد قبل حلول وقت التحويل شركاء في معاملهم بمقدار ما أخذوا منهم.
المسألة العاشرة: يشترط في السلم أن يكون المسلم فيه ديناً؛
لأنّه موضوع لفظ السلم لغة وشرعاً، كما في الدروس[30].
وقد عرفت أنّ السلم هو ابتياع مال مضمون إلى أجل معلوم بمال حاظر.
والمضمون هو الدين، وعليه فلو أسلم في عين لا يشمله السلف، فإنّ العين ليست بدين، نعم، هو بيع ويترتّب عليه أحكام مطلق البيع، لا أحكام خصوص السلف، كما لا يخفى.
والظاهر عدم الفرق في الدين بين أن يكون كلّياً في الذمّة أو كلّياً في المعيّن؛ لأنّ الكلّي في المعيّن أيضاً ذمّي.
لا يقال: إنّ المضمون يصدق على العين أيضاً؛ فإنّ البائع ضامن لتحويلها.
لأنّا نقول: وجوب التحويل لا يوجب كون العين مضمونة في الذمّة، والتعبير بالضامن مسامحة.
إن قيل: إنّ الدين يصدق عليها المضمونة فيما إذا أخذها الغاصب بقوله: «على اليد ما أخذت حتى تؤدّيه»[31].
قلت: إطلاق الضمان عليها تعليقي، بمعنى أنّه إن تلفت فعلى الآخذ ضمانها، والبحث في الضمان الفعلي لا التقديري بالمعنى المذكور، فتأمّل.
[1] الوسائل 18: 347، ب 15 من الدين، ح 1.
[2] وقد ورد في بعض نسخ الكافي (5: 100، ح 1) طلحة بن يزيد، ولعلّه خطأ؛ لأنّ صاحب الوسائل نقل عن الكافي والتهذيب عن طلحة بن زيد، هذا مضافاً إلى أنّه لم يكن في الرجال ذكر لطلحة بن يزيد.
[3] التهذيب 7: 43- 44، ح 74.
[4] جامع المدارك 3: 317- 318.
[5] جواهر الكلام 24: 299.
[6] راجع جواهر الكلام 24: 319- 320.
[7] الوسائل 18: 305، ب 11 من السلف، ح 5.
[8] التهذيب 7: 30، ح 15.
[9] جواهر الكلام 24: 320.
[10] التهذيب 7: 32، ب 3 من بيع المضمون، ح 22.
[11] الكافي 5: 220، ح 2.
[12] الثنيّ في الغنم ما كان في السنة الثالثة، وفي الإبل ما كان في السنة السادسة.
[13] الجذع: ما قبل الثنيّ.
[14] الكافي 5: 221، ح 8.
[15] التهذيب 7: 32، ب 3 من بيع المضمون، ح 23.
[16] البقرة: 279.
[17] راجع جواهر الكلام 24: 324.
[18] جامع المدارك 3: 322.
[19] راجع جامع المدارك 3: 322.
[20] الوسائل 18: 180، ب 6 من الصرف، ح 6.
[21] انظر: مجلّة فقه أهل البيت عليهم السلام، العددين: 27 و28.
[22] جامع المدارك 3: 320.
[23] الوسائل 18: 46، ب 7 بيع ما ليس عنده، ح 1.
[24] جامع المدارك 3: 320.
[25] جواهر الكلام 24: 302.
[26] الفقيه 3: 265، باب السلف في الطعام والحيوان، ح 953.
[27] جامع المدارك 3: 317.
[28] جواهر الكلام 24: 289.
[29] جواهر الكلام 24: 289.
[30] الدروس الشرعية 3: 254.
[31] مستدرك الوسائل 17: 88، ب 1 من الغصب ح 4.
المصدر: مجلة فقه أهل البيت (عليهم السلام) (بالعربية)، ج٤٤